قصة قصيرة
أنبثقت أول خيوط الصباح .. فأطفأ نور المطبخ .. ركز عينيه على تراقص نار الشاهي الخافتة . كان عبد الصمد يحيا على غذاء خاص أوصى به ووضع منهاج صنعه أعظم علماء العصر بالتغذية .. يتألف من مسحوق عجيب يستخدم منه قدر- كميه ملعقة صغيره- يمزجها مع الشاهي ثم يشربها بعد أن يكون قد حركها جيداً ، فتقوم يهما صحته تقدماً رائعاً . وقد حذره أطباءه بالإمتناع عن أكل أية أطعمه أخرى لأنها تسبب بإختزال عمره . كان عبد الصمد واضحاً صريحاً ، فهو حر بكلامه ، وبأي أسلوب يشاء ، ولا يهتم كعاشق ، بل يندفع إلى عناق هذه الجميلة ، وأثناء العناق تطير به هذه المرأة إلى الصحراء . وتهب على الاثنين عاصفة من الرمال . عبد الصمد كان أسمى واجب يقوم به ينبع من جلاء أحاديثه وعدم وقوعه في أخطاء محتملة أو تأويلات ممكنة أو إجتهادات تقبل التفسير .. يجب أن تدور مواعظه ونصائحه حول القول العظيم “أعط ما لقيصر لقيصر “ وإطاعة أولي الأمر الذين أصطفاهم الله بحكمته الخالدة لرعاية الأرض وما فيها ومن عليها .غرق عبد الصمد في كرسيه جامداً ، يحذق أمامه حسب أوامر الطبيب التي تقضي بعدم الحركة بعد تناول كل وجبه من هذا المسحوق المخلوط بالشاهي ، هذه هي أوامر وتعليمات الطبيب حتى في أخطر الظروف التي قد تتعرض لها الحكومة .. والمهم والأهم الحذار ثم الحذار في هذه اللحظات أن يشغل فيها فكره على الإطلاق لكي يبقى في حالة إعفاء فكري .. وفي هذه الحالة وهو جامد في كرسيه يسقط وعاء كان بجانبه أحدث صوتاً مزعجاً وذلك بفعل سكون بزوغ الفجر الصباحي . ولكنه لم يلتفت ولم يثير أي إنتباه له ، وذلك من اجل ألا يشغل فكره على الإطلاق ..كان في قعدته الجامده على الكرسي ، مثل رجل مسحور يحاول إصطياد الفجر بلونه المليء بجمرة خافته لغروب قديم ، وبنفسجي مولود لصباح جديد، حاملاً إثم الليل وبراءة النهار ، منضماً إلى جوقة الذاكرين لله ، في مولد منصوب لولي لم يأت بعد .فجأة يسمع أنيناً مكتوماً .. كانت عيناه فقط هي التي تتحرك فوق أكوام من الملفات والأوراق المبعثرة والتي كانت تصدر أنيناً مكتوماً، وكانت ثمة أقدام تدوس فوقها بأحذية غليظة فتنطلق أنه ثم تندفع نافورة من الدم . رفع عبد الصمد بصره محاولاً رؤية الأجساد صاحبة الأقدام لم يجد سوى الجدران السائبه بغرفته .. كل جدار يكاد لا ينتمي إلى الآخر بأي إتصال، بل أن جدران الغرفة نفسها مشقوقة بالطول وبالعرض شقوقاً نافده . عبد الصمد لا يؤرقه سوى مشاكل حركة عينيه ، فهذا يحدث له مباشرة بعد تناوله لوجبة المسحوق الممزوج بالشاهي .. فماذا يفعل والإبصار الجيد يخذله ؟ إنها الحادثة التي تتكرر حدوثها كل خمسة عشرة دقيقة بعد تناوله لهذه الوجبة . أخيراً انتهت المدة الزمنية الربع ساعة وبإنتهائها يستطيع الحراك والتفكير كما يشاء بدون قيد أو شرط . الساعة تدق السابعة صباحاً .. يدق الجرس .. فتح الباب . يدخل عليه بوقار رشيق متحدثاً:-” أين عساي أن أجلس يا عبد الصمد ؟ أواجه عينيك أم أواجه البحر ؟”.استسلم عبد الصمد حينها .. ظل يحدث نفسه مع حركة إيمائية على طريقة المونو دراما .. من أين أبدأ معه الحوار ؟ من الأمس القريب ؟ أم من الحاضر البعيد ؟ يا للغرابة جاءني في السابعة صباحاً !! هل هذا وقته ؟ ليته جاء بعد ألف عام .. هل أصرح له دون تردد أو أتحفظ عن عيوبه وآماله أم أتردد وأتحفظ ؟ ومن دون أن يفوت عبد الصمد سحر الحديث ، اختصر حقه في النزيف وقال :-” أعد قهوة . أو شاهي ؟”وبنبره حزينة قال ناجي :-عبد الصمد لماذا لم تخبرني ؟-أخبرك لماذا؟-بأنك تتألم بشكل حاد.شعر عبد الصمد برغبة في البكاء ، ولم ينبس بأية كلمة .. أشعل سيجارة ، أراد أن يفكر بما كان يحدث ؟.. دخن سيجارته بمتعة شديدة ، وفكر لعدة لحظات ، حيث كان الصمت ثقيلاً بينهما ثم سأل:-”أي يوم نحن فيه؟!!-الاثنين .-ماذا ؟!! أقصد أي إثنين؟-ماذا تعني بأي إثنين يا عبد الصمد؟!-لو أني أعرف لقلت لك يا صديقي الناجي .رمق عبد الصمد صديقه الناجي بنظرة غاضبة وفي لمح البصر إلتفت نحوه وأضاءه بإبتسامه عذبة ، وبعينيه التي ضاقت عند زاويتها اليسرى قال بهمس :“ولا يهمك يا صديقي الناجي “. الساعة تدق الثامنة. كان الصمت ثقيلاً بينهما ، فجأة تمت صراخ يقطع هذا الصمت من عبد الصمد : -رباه ما هذا ..؟ ماذا هناك؟ إنني .. إنني أرتعش ؟وفجأة أرتعشت أطراف عبد الصمد بشدة.-ومن أجل هذا جئت إليك منذ الصباح الباكر يا عبد الصمد.-”بدهشة واستغراب “ماذا تقصد بكلامك؟وبتوسل راكعاً ركبتيه على الأرض ممسكاً بقبضة يدي عبد الصمد من الرعشة التي أصابته فجأة. - عبد الصمد أرجوك إسمعني جيداً ، إنني من الجيل الذي تفتحت عيني عليك في هذه الساحة . الجيل الذي لا يعطي الفرصة لمن يريد أن يركب الموجة:” وهنا يخرج صحيفة من معطفه “. ها . خذ إقرأ من أجل أن تتأكد من ذلك .تناول عبد الصمد الجريده وقرأ وصاح بإنفعال :-ماذا في هذا ..؟ أنا لا أفهم .. أين .. أين ؟ صاح الناجي بإنفعال مقاطعاً:- واصل القراءة يا عبد الصمد . تابع الخبر . وأستمر عبد الصمد يقرأ ثم صرخ قائلاً:- ولكن هذا غير معقول أبداً . وهذا مستحيل.كان الناجي يقف إلى جانبه وهو على وشك النواح .. وبدت صرخة باكية من عبد الصمد .-” ماذا ..؟! هل هذا معقول؟”.ثم واصل عبد الصمد القراءة مذهولاً:-” لقد أثبتت هذه المادة المشكلة من المسحوق قدرتها على التذمير في مأساة وفاة عبد الصمد ، وأن هناك عراقيل وأيادي وعقول خفية نجمت ووقفت أمام هذا البحث العلمي الإنساني ، حيث تم إكتشاف وجود إشعاعات تم إرسالها بشكل سري في مدار حول مادة المسحوق لتصبح هذه المادة بقدرتها على التذمير السريع للإنسان . إنها المأساة الكبرى بل الكارثة العظمى وهي وفاة عبد الصمد ..!! هبط صمت وجاء صوت لناجي يسأل:والآن ما العمل ؟ ماذا نعمل يا عبد الصمد؟لم يحفل عبد الصمد ولا بسؤاله ، وخطى مسرعاً نحو جهاز الهاتف وانطلق يتكلم:-” آلو .. مكتب الشرطة .. دائرة الإختراعات .. آلو دائرة المختبرات ..” فجأة توقف القلب .. وتجمد الجسد.. إنه من الصعب عبد الصمد .. إن لم يكن من المستحيل .