تربويات يسردن وقائع من نضال شعب حتى يوم الجلاء
إيفاق سلطان سيف :كانت مدينة عدن المنفذ التجاري والرئيسي لدخول الاستعمار إلى بلادنا “اليمن” وبسبب ذلك أصبح لها أهميتها التاريخية خلال ظهور الاستعمار الأوروبي، حيث كانت تحصيناتها الطبيعية تحميها من أخطار الطامعين بها من الملوك والسلاطين مما جعلها أكثر محطات العالم التجارية أمناً لكن لم يشفع لها هذا التحصين ولم يحمها من الاحتلال البريطاني له ، لكن وبعد (129) عاماً ظلت فيها عدن تحت سيطرة بريطانيا، جاء يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م لينهي هذه السيطرة.- اجرينا لقاءات مع عدد من النساء التربويات القديمات ليتحدثن هذه المناسبة العظيمة.- التقينا بالأستاذة/ خديجة علي/ خمسة وعشرون عاماً ، مدرسة في مادة تاريخ اليمن المعاصر، قالت: إن قوة المكانة الاقتصادية والسياسية لمدينة عدن جعلتها مدينة محرما دخولها بغير تصريح من الملك عبد الوهاب بن داود حفاظاً على أمنها، حتى إذا ما وافته المنية “894هـ” وأعلن ولده “عامر” نبأ وفاة والده من داخل عدن بعد أن هيأ كل أموره فيها، وكانت عدن آخر معاقل الدولة الطاهرية التي تقهقرت إليها، ولم يستطع أحد انتزاعها من الطاهريين لا على يد الأتراك الذين غرروا بآخر حكام عدن الطاهريين وهو “عامر بن داود ثم صلبوه على سارية أحدى سفنهم مع عدد من وزرائه.لكن هذه المدينة ما لبثت أن تحولت إلى قبلة أنظار العالم برمته بعد اكتشاف “ بارئلمي دياز للطريق الملاحي الجديد الذي أطلق عليه “رأس الرجاء الصالح” الذي حول الأهمية المحلية لمدينة عدن إلى أهمية إستراتيجية عالمية مرتبطة بشؤون التجارة العالمية ومصالح عدد كبير من كبريات الدول الأوروبية والأفريقية والآسيوية.وتواصل الأستاذة/ خديجة حديثها فتقول: وفي نهاية الألفية الأولى ومدخل الألفية الثانية من التاريخ الميلادي للعالم كان الشرق محط إثارة وإعجاب الغرب، والسر الذي يتوقون للوصول إلى مفاتيح ثرائه التجاري وتوابله التي تسحر روائحها أنوف الأوروبيين إلى الدرجة التي أولاها ملوك أوروبا اهتمامهم الخاص، وحدا الأمر بملك البرتغال “هندي الملاح” إلى إيفاد بعثة تجسسية تستكشف طريق تجارة الشرق ومراكزها الحيوية، فكان أن عادت آليه البعثة بعد حوالي عام لتضع بين يديه تقريرها الخطير الذي توصي به الملك بأنه إذا ما أراد السيطرة على تجارة العالم فما عليه إلا أن يضع يده على منطقتين فقط وهما “هرمز وعدن” ومنذ تلك اللحظة لم يستقر لمدينة عدن حال، وأخذت الحملات الأجنبية المختلفة “الحبشية والفرنسية والبرتغالية والاسبانية والإيطالية والبريطانية تتكالب على عدن لاحتلالها والفوز بمركزها دون أن ينجح أحد منهم في بلوغ مآربه، فمدينة عدن أصبحت نقطة منتصف الطريق بين أوروبا وجنوب وشرق آسيا، وميائها عميقة جداً وخالية تقريباً من الشعاب المرجانية، وتطل على مساحة واسعة من البحر العربي والمحيط الهندي، وتصنف مياؤها بكونها “مياه دافئة” وبمرور الزمن تعاظم النشاط التجاري الأوروبي مع الهند وبقية دول جنوب شرق آسيا فأصبحت تلك الدول تخشى على مصالحها الكبيرة من التعرض للمهاجمة أو الابتزاز من قبل الدول التي بمقدورها فعل ذلك إذا ما أرادت، فبات التفكير بعدن أشبه بالبحث عن شرطي حراسة يؤمن السلامة ولكن بعد عدة عقود من الزمن أضيف للقضية بعد آخر، إذ نجحت بريطانيا باستغلال ما شاعت تسميته بالكشوف الجغرافية لتبسط نفوذها على الهند ومناطق عديدة في جنوب شرق آسيا وحولتها إلى مستعمرات تابعة لسيادتها، وكذلك فعل البرتغاليون والأسبان في مناطق الخليج العربي وتحولت تلك الحقيقة إلى عصر صاخب للصراعات الدولية بين دول أوروبا لالتهام دول آسيوية وأفريقية تنافساً على المصالح، والتراث إلى درجة وصف تسابقها على أفريقيا بأنه “عطش أوروبا للذهب” ومن هنا احتدم التنافس الدولي على عدن، وأمسى الكل يعد خططه ثم يحاول حتى إذا ما فشل فكر بخطط بديلة يعيد الكرة ويجرب حظه في الوصول إلى هذه البقعة من العالم التي لو كان بمقدورهم التنبؤ بما ستؤول إليه في عصر البترول،لما أبقت ملوك أوروبا احد من شعوبها إلاَّ ونحرته على أسوار عدن حتى يجعلوا من جثتهم سلالم يعتلونها لبلوغ المدينة واحتلالها.[c1]إحتلال بريطانيا مدينة عدن :[/c]- الأستاذة/ سبأ نصر/ عشرون سنة/ مدرسة في تاريخ اليمن المعاصر، تقول: يتميز البريطانيون عن غيرهم من القوى الاستعمارية بأنهم يجيدون فن الاحتلال، وأنهم سبقوا غيرهم إلى اكتساب الخبرة في معارك من هذا النوع، وتمرسوا على خديعة الحرب على أرض أوروبا قبل أن يصدروها للعالم برمته، فالبريطانيون بدأوا رحلة التنافس على احتلال عدن بجملة من الارتباطات المهنية التجارية مع اليمن من خلال شركات الملاحة وكانوا يهدفون من تلك الخطوة لتحقيق هدفين:1) استكشاف المنطقة عن كثب، وإنشاء قواعد العملاء والجواسيس، وربما بعض الصداقات وايضاً التي قد تخدمهم في المراحل القادمة.2) محاولة تفجير خلافات نوعية بشأن مصالحهم واتفاقياتهم مع اليمنيين ثم تطويره ليتحول إلى مبرر لتدخل عسكري مباشر يوصلهم إلى قلب عدن، وعلى الرغم من نجاحهم النسبي في الهدف الأول لكنهم، أخفقوا في تطوير ذرائعهم وخلافاتهم مع اليمنيين إلى الحد الذي يبرر لهم استخدام القوة، فلم يكن من صاحبة الجلالة الملكية للعرش البريطاني إلا أن ألقت بالمهمة على عاتق أحد جنرالاتها المشهورين للتصرف بالأمر على وجه السرعة وكان ذلك الرجل “ستافورد بتسورث هينس”.تضيف الأستاذة /سبأ لحديثها قائلة: استهل “هينس” مهمته بالتقدم بشكوى لحاكم عدن يدعي فيها بأن السفن التجارية البريطانية المسافرة بين بريطانيا ومستعمراتها في جنوب شرق آسيا تتعرض لاعتداءات من قبل بعض المناطق اليمنية الخاضعة لسلطة عدن، وحذر من عواقب تكرار مثل هذا العمل لكن السلطان العبدلي استطاع احتواء الموقف ونفى الادعاءات والتفاهم مع البريطانيين، فلم يهدأ بال “هنيس” حتى تجهز للخطوة الأساسية إذ رفع العلم البريطاني على سفينة تجارية هندية يطلق عليها اسم “دوريات دولت” وجعلها تمر بشاطئ عدن، وهناك ادعى أن قبائل إحدى المناطق اليمنية اعتدوا على السفينة ونهبوها وقتلوا بعض رجالها رغم أنها ترفع العلم البريطاني وبعدها وجه “هينس” مدافعه نحو عدن وباشر بضربها بقوة ثم انزل بعض رجاله على شواطئ عدن لمحاولة الدخول إلى المدينة واحتلالها إلاّ َأنهم واجهوا مقاومة شديدة من أهالي عدن الذين قتلوا عدداً كبيراًَ من القوة المهاجمة واضطر الآخرين للفرار، وعلى اثر هذه الواقعة كتب “هينس” لحكومته طالباً الدعم والتعزيز إلا أن الرد عليه من قبل حكومته كان سلبياً ونصحته بالتصرف وفقاً لإمكانيات القوة التي تحت قيادته، فقام هينس بمناورة بأساليبه ولعدة أسابيع ثم هجم بكامل قوته على عدن وتسنى له دخولها في يوم “19 يناير 1839م” وزف في اليوم نفسه بشائر احتلاله لعدن إلى بريطانيا وحينها أعطى أوامره لقواته بقتل كل من يقاوم أو يعارض أو يتسبب بقلق لهم أو يشتبه بتحركاته، فأشاع جنده القتل والتنكيل بالأهالي الذين لم يمنعهم ذلك من مواصلة المقاومة، وبالمقابل لم تكن تلك المقاومة بقادرة على منع قوات الاحتلال البريطاني من مد نفوذها وبسط سيطرتها على جميع أرجاء عدن وكان ذلك الفضل يعود إلى ما كان معه من السلاح الحديث الذي استخدمه البريطانيون وللإمكانيات المادية الهائلة وايضاً إلى القوة البشرية الكبيرة.[c1]تشطير اليمن إلى شطرين :[/c]وتضيف الأستاذة/ سبأ / تحدثنا عن تشطير اليمن فتقول: بفقدان اليمن لثغرها العريق اختلت الموازنة السياسية عند اليمنيين وتضاعفت همومهم، فالبريطانيون لم يكترثوا لما يدور حولهم في بقية أرجاء اليمن وكان كل همهم يصب في كيفية تأمين وجودهم، واستغلال عدن استغلالاً أمثل لتطوير مصالحهم التجارية وتلبية إحتياجات سفنهم من الفحم والمؤن الأخرى والقوى البشرية العاملة كما حرص البريطانيون على تأمين محمية عدن من الأنشطة المناهضة للاحتلال القادمة من مناطق الجوار لعدن، فأخذوا قادة الاحتلال يقلدون الأساليب التي كان يتبعها “هينس” في استمالة الأهالي ولكنهم في هذه المرحلة أضافوا عليها أسلوب إبرام اتفاقيات صداقة وتحالف مع شيوخ وسلاطين عدد من المناطق الجنوبية المحاذية ودفع مرتبات مجزية للمشايخ والسلاطين ما لبث أن تحولت إلى أدوات ضغط وابتزاز لهم وكثيراً ما كانت تخذلهم بمجرد توريطهم أو انتفاء الحاجة من خدماتهم في الوقت الذي وقف الأئمة في صنعاء عاجزين عن فعل شيء وغير مدركين خطورة الوضع وانشغالهم بصراعاتهم الداخلية على السلطة والمصالح والولاءات وهكذا وجد العثمانيون ما يشجعهم في بلادنا من انهيار للعودة إليها ثانية في عام “1872” ليدخل اليمنيون في دوامة المواجهة مع محتل ثانٍ يمد خطاه سريعاً ليبسط نفوذه على مختلف البقاع اليمنية الشمالية والوسطى، وهو الأمر الذي أثار مخاوف الانجليز الذين بادروا على الفور إلى التفاوض مع الأتراك بشأن مناطق النفوذ البريطاني التي لايحق للأتراك التجاوز عليها، وإبرام الطرفان اتفاقية بهذا الخصوص عام “1873م” وتم تجريدها في التسعينات وأسموها اتفاقية “المحميات التسع”.[c1]النضال حتى الاستقلال :[/c]- الأستاذة/ مريم سالم/ “عشرون عاماً” مدرسة في التاريخ المعاصر/ تحدثتنا عن نضال اليمنيين حتى استطاعوا تحقيق الاستقلال لبلادنا ، فتقول: لم تستكن عدن يوماً وهي تسمع وقع أقدام المستعمر يجوس الديار فيبطش بهذا ويجور على ذاك ويصادر حرية آخرين، فقد ظلت عدن ثائرة تناضل لاسترداد حقها من الكرامة وتطهير الأرض من دنسها، فعندما أقام الانجليز “الاتحاد الفيدرالي” للجنوب العربي كان المغزى مفهوماً لأبناء عدن وجاء رأيهم فيه يوم 10 ديسمبر 1963م بأن القوا بقنبلة في المطار أودت بحياة “جورج هندرسن” مساعد المندوب السامي البريطاني ومن يومها دخل الكفاح المسلح في عدن طوراً جديداً ومنظماً وخطى خطواته التنفيذية العملية بدء من6 نوفمبر 1964م بزيارة “انتوني جرينود” وزير المستعمرات الجديدة والذي أزاح المندوب السامي في عدن “ كنيدي ترافيسكس” من منصبه ثم صار يحاول إقناع الوطنيين بالاشتراك في حكومة الاتحاد بعد أن كان يقطع الوعود على نفسه قبل الفوز في الانتخابات بأنه سيعدل من السياسة البريطانية بعدن. ومن تلك الزيارة ارتفعت وثارت المقاومة وفي 24/12/1964م قتلت ابنة قائد سلاح الطيران للشرق الأوسط بقنبلة رماها أحد المقاومين إلى منزل ضابط في خور مكسر في عيد رأس السنة الميلادية، ثم قتل أول ضابط يمني يعمل في المخابرات البريطانية هو “فضل خليل” بالرشاش وسط سوق مزدحم في كريتر .. وبلغت حصيلة شهري نوفمبر وديسمبر من العام 1964م في عدن “36” بين قتيل وجريح، أما في العام 1965م فقد ارتفعت الإصابات إلى “237” بين قتيل وجريح ناجمة عن “286” عملية قامت بها المقاومة وركز رجال المقاومة في البداية على اغتيال رجال المخابرات البريطانية بالذات.فمن أصل “22” حادثة اغتيال تمت بنجاح في عام 1965م كانت “10” منها موجهة ضد ضباط مخابرات وإحداها في الشيخ عثمان وتركت فوق جثة المقتول عبارة تقول” هذا العميل نفذت فيه الحكم الجبهة القومية “ ، وعلى اثر ازدياد نشاط المقاومة لجأت الحكومة البريطانية في يونيو 1965م إلى إصدار قانون الطوارئ وحضرت بموجبه نشاط الجبهة القومية واعتبرتها حركة إرهابية.وتواصل الأستاذة/ مريم سالم حديثها قائلة: وفي 29 أغسطس 1965م قامت الجبهة باغتيال ضابط المخابرات البريطاني “هادي باري” وهو يمر بسيارته ذاهباً إلى عمله صباحاً ثم تبعه بأيام اغتيال “آرثر تشارلس” رئيس المجلس التشريعي فتسبب ذلك بهزة عنيفة للبريطانيين فرضوا على إثرها منع التجول في “كريتر” وهو الأمر الذي لم يردع المقاومة بل دفع الحركة العمالية والمؤسسات الوطنية الأخرى إلى إعلان الإضراب العام في 2 أكتوبر 1965م فرد الانجليز على هذا بأمر الجيش النظامي بقمع المظاهرات، وتم اعتقال “760” شخصاً وتم زج عدد من زعماء الحركة العمالية بالسجون وإغلاق صحيفتين .. كما انشأ الانجليز لواء خاصاً بعدن سمى بلواء “إيدن بريجيد” وتم تقسيم عدن إلى أربع مناطق أمنية إضافة إلى إجراءات أخرى كثيرة تستهدف الحد من نشاط المقاومة، وفي 22 فبراير اضطرت بريطانيا إلى أن تعلن في “ورقة الدفاع البيضاء” بأنها ستسحب قواتها من قاعدة عدن عام 1968م لكن ذلك زاد من نشاط الثوار وتكثفت العمليات العسكرية خاصة بعد أن ثبت لهم أن نية بريطانيا كانت في إعطاء الاستقلال في عام 1968م لحكومة الاتحاد وبعد أن تقوم بدعمها بالأسلحة وتوفر لها الحماية الجوية من على مسافة قريبة منها، ولكن في 13 يناير 1966م ساهمت وساطات خارجية في التقاء جبهة التحرير والجبهة القومية اللتين تحملتا شعبياً مهمة النضال ضد الاحتلال البريطاني، واختلفتا على أسلوب النضال ضد بريطانيا التي ضاعفت أعداد جنودها وتنوعت أسلحتها ، لكن عادت الجبهة القومية للعمل مستقلة بذاتها عقب انتهاء المؤتمر العام الثالث لها في “خمر” بتاريخ 29 نوفمبر 1966م وتم انتخاب “سالم ربيع علي/ مسؤولاً عن جناحها العسكري ومثل ذلك تحولاً حاسماً في مسار الكفاح المسلح والحركة الوطنية، فقد تضاعفت العمليات العسكرية التي تستهدف قوات الاحتلال عما كانت عليه في العام السابق، إذ بلغت في عام 1967م حتى شهر أكتوبر منه فقط “2908” حادثة تسببت في “1248” إصابة بين قتيل وجريح بحسب وثائق قوات الاحتلال. حتى كان الجلاء من عدن ولقد مثل الانسحاب البريطاني من عدن وبقية المدن اليمنية صفحة سوداء في تاريخ القوات الاستعمارية ولم يمنح أي منهم فرصة تأدية التحية ومصافحة الأيادي كما جرت العادة عند تسليم الاستقلال، فقد خرجت بريطانيا مكرهة تجر أذيال خيبتها أمام شعب فقير الإمكانيات عزلته ظروف الاحتلال والنظم الرجعية عن امتلاك أبسط حقوق العيش الكريمة لكن الشيء الوحيد الذي لم يقوى أحد على سلبه إياه كان إرادته وعزيمته وتشبثه بإنسانيته وحقه في الحياة الحرة الكريمة، وربما كان ذلك هو الجانب الوحيد الذي تفوق فيه اليمنيون على قوات الاحتلال القادمة من أقصى بقاع الأرض لتتطفل على حياة ومقدرات الشعوب الفقيرة، ولهذا السبب فقط انتصر اليمنيون وأعلنوا استقلال بلادنا في 30 نوفمبر 1967م، ولم يقفوا عند هذا الانجاز بل أعادوا وحدتهم اليمنية في 22 مايو “1990” وباتوا اليوم مثلاً يحتذى به في الوحدة والديمقراطية والنهوض وصناعة السلام.