أضواء
كنت جالساً قبل يومين مع أحد الأصدقاء في مقهى جميل يطل على البحر. كان المساء ناعماً، وكان النسيم عليلاً لدرجة أننا كلما تحدثنا عن المشاكل، دارت دفة الحديث إلى التفاؤل. كان الناس يمرون من أمام المقهى سعداء، فرحين بالعيد أولاً، وبالجو الجميل ثانياً، وبالمكان ثالثاً. كان المارة من مختلف الجنسيات، إلا أنني استوقفت صديقي وطلبت منه أن يراقب الشباب الخليجيين عندما يمرون من أمامنا. فكلّما مرّ فوج وتلاقت عيوننا مع أحدهم ارتبك، فأسعف نفسه بتعديل (غترته) أو بإخراج هاتفه النقال من جيبه ليعبث به حتى تمرّ هذه اللحظات الصعبة. راقبنا مجموعة من الشباب من الجنسين، وكان الجميع مرتبكاً على الرغم من (أريحية) المكان ولطافة الجو. بحثنا عن سبب للتوتر والارتباك فلم نجد، بل إن المارة من الجنسيات الأخرى كانوا يتضاحكون ويلعبون مع أطفالهم على طول الطريق. وكان البعض يحمل طفله على ظهره ويجري به في جو عائلي بهيج. لا أدّعي علمي بلغة الجسد، ولكنني قرأت بعض الكتب التي استفدت منها كثيراً في فهم الناس. ومن خلال قراءتي ذلك المساء للخليجيين والخليجيات الذين مرّوا من أمامنا اكتشفت أن الجميع يكذب! يكذب لأنه يتصنّع البهجة بينما هناك أمواج تتلاطم في داخله، ويكذب لأنه يتصنع الثقة بالنفس بينما رِجلاه لا تقويان على حمله من شدة التوتر. نعتقد دائماً في الخليج أننا محط الأنظار، فإذا خرج أحدنا إلى مركز تجاري فإنه يخرج في أبهى حلة، ليس ليبدو أنيقاً فقط، ولكن حتى يكون تقييمه عند الناس مرتفعاً. وإذا مشى فإنه يتلفت حوله دائماً ليرى إن كان هناك من ينظر إليه، وإذا كان الناظر شخصاً يعرفه، فتلك بالنسبة له الطامة الكبرى. لا يشرب الخليجي شيئاً وهو يمشي في المركز التجاري أو الأسواق التي بها حشود، ويرفض أن يأكل حتى (البوظة) أمام الناس، فهذا ليس من شيم الرجال، وهو مخالف لعاداتنا البدوية التي تستقي من الصحراء شدّتها وبأسها. لقد ابتلينا في العالم العربي عامة وفي الخليج خاصة بتقديس العادات والتقاليد تقديساً مبالغاً فيه بعض الأحيان. فنجد بعض الناس لا يصلّي مثلاً ولكنه يحرص ألا تسقط (غترته) من على رأسه مهما كان الموقف لأن ذلك مخالف للعادات والتقاليد، بل إن أحد الأصدقاء حدّثني بأنه لم ير وجه جدّته قط إلى أن توفيّت! حتى عندما كانت تنام، كانت تضع غطاء رأسها على وجهها. لم يقف أحدنا يوماً وقال: «لنعد النظر في هذه العادة أو في ذلك التقليد» بل إننا في كثير من الأحيان قدّمنا التقليد على الدين وجعلناه المقياس الذي نقيس على أساسه كل شيء في حياتنا. وكانت النتيجة أننا أنتجنا جيلاً مرتبكاً، متردداً، لا يعرف الصواب من الخطأ. يمزج الماضي بالحاضر، ولا رأي له في المستقبل. فهو عندما كان صغيراً كان لا يتحدث أمام الكبار، وكان يجلس في زاوية المجلس كالمنبوذ الذي يكفيه أن يكون جزءاً بسيطاً من المجتمع. كان حديثنا في المجالس عندما كنّا صغاراً يعد كفراً بواحاً، وكان صغير السن إذا تحدث فإن أباه يرمقه بنظرة تقسم لسانه إلى نصفين، حتى الضيوف كانوا يرمقونه بنفس النظرة. كان ولا يزال الآباء يسكتون أبناءهم إذا ما تحدّثوا أمامهم، وإذا كان الأب عطوفاً فإنه يكتفي بتجاهل ابنه حتى يعلمه بأنه لا يحق له الحديث في حضرة أبيه، أما مناقشة الأب في شيء ما فإنه خروج عن الملّة بلا شك. عُلّمنا في الخليج أن رأي الناس ونظرتهم إلينا هو ما يصنع سمعتنا، وسمعتنا هي أغلى ما نملك، لذلك، كان الواحد منا إذا أراد الخروج فإن عليه أن يتأكد بأن ما يلبسه وشكله لن يغيرا نظرة المجتمع إليه. وأذكر أننا عندما كنا صغاراً، كنا نخرج على دراجاتنا الهوائية بأثوابنا البيضاء وكنا نخشى أن نلبس ملابس رياضية حتى لا نرمق في الحي من قبل كبار السن بنظرات تهكّم وانتقاد، خصوصاً إذا ما حضر وقت الصلاة، فدخول المسجد بزي الرياضة كان من شأنه أن يصب علينا جام غضبهم. أما في المدرسة فكان المدرّس يمارس دور فرعون الذي قال: «لا أريكم إلا ما أرى» إلا أن فرعون ناقش موسى على الأقل، أما مدرسونا فكانوا لا يقبلون إلا بترديد الطلاب لما يقولون، وكانوا يحرصون كل يوم على أن يخرجوهم من المدرسة وهم مطأطئو الرؤوس. لا يسأل المدرس الطالب «ما رأيك» ومن النادر أن يناقش مدرس طلبته آراءهم أو أن يستمع إلى أفكارهم وأحلامهم، إلا من رحم ربك. عندما يسافر الشباب إلى الشرق أو الغرب فإنهم يلبسون ما يشاءون، ويأكلون البوظة في المراكز التجارية ويضحكون ويقهقهون دون أن ينظروا حولهم. وعندما يدرسون في الخارج فإنهم يبدأون بتعلم مهارات الخطابة وقول آرائهم بجرأة أمام الناس. حضرت مرة دورة في الإدارة في فرنسا، وفي إحدى المحاضرات دار نقاش شديد بين البروفيسور الأميركي وبين طالب أوروبي، فقال البروفيسور: أتريد أن تقول بأنني مخطئ؟ فرد الطالب: بل أريد أن أقول بأنني على صواب، فضحك الاثنان وأكملا نقاشهما الذي تمخض عن صحّة كلام الطالب. إننا نمرّ في مرحلة مفصلية في التاريخ، فكل شيء يتغير من حولنا، وهناك أشياء كثيرة تتغير في داخلنا، وأظنها فرصة مواتية لنقف عند منعطفات التاريخ هذه ونعيد دراسته مرة أخرى، لكي نقيّم على إثر ذلك بعض المعتقدات (غير الدينية) التي توارثناها عن الأجداد لنرى إن كانت تناسبنا أم لا. فلا نحن نستطيع أن نعيش حياة الأجداد، ولا كل ما فعلوه أو قالوه صواب أو يناسب حياتنا. لا يعني هذا أن ننبذ التراث والتقاليد، فبدونهما لا تعود للمرء جذور، وبدونهما تنعدم الهوية وتصبح الشخصية مسخاً، ولكننا نريد أن نقتبس من تقاليد أجدادنا ما يناسب عصرنا ويدفعنا إلى الأمام، لا ما يجرّنا إلى الخلف. [c1]* صحيفة (البيان) الإماراتية [/c]