قراءة في معاناة الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي
عرض / طارق حنبلةولد أبو القاسم الشابي في يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شباط عام 1909 م الموافق الثالث من شهر صفر سنة 1327 في بلدة ثوزر في تونس.يبدو وبوضوح أن الشابي كان يعلم اثر تخرجه في الزيتونة أو قبلها بقليل أن قلبه مريض ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه إلا في عام 1929 وكان والده يريده أن يتزوج فلم يجد أبو القاسم الشابي للتوفيق بين رغبة والده وبين مقتضيات حالته الصحية بداً من أن يستشير طبيباً في ذلك فذهب الشابي برفقة صديقه زين العابدين السنوسي لاستشارة الدكتور محمود الماطري ولم يكن قد مضى على ممارسته الطب يومذاك سوى عامين وبسط الدكتور الماطري للشابي حالة مرضه وحقيقة أمر ذلك غير أن الدكتور الماطري حذر الشابي من عواقب الإجهاد الفكري والبدني وبناء على رأي الدكتور الماطري وإمتثالاً لرغبة والده عزم الشابي على الزواج وعقد قرانه.يبدو أن الشابي كان مصاباً بالقلاب منذ نشأته وأنه كان يشكو إنتفاخاً وثقباً في قلبه لكن حالته ازدادت سوءاً فيما بعد بعوامل متعددة منها التطور الطبيعي للمرض بعامل الزمن والشابي كان في الأصل ضعيف البنية بسبب أحوال الحياة التي تقلب فيها طفلاً ومنها الأحوال السيئة التي كانت تحيط بالطلاب كافة في مدارس السكن التابعة للزيتونه ومنها الصدمة التي تلقاها بموت محبوبته الصغيرة ومنها فوق ذلك إهماله لنصيحة الأطباء بالاعتدال في حياته البدنية والفكرية ومنها أيضاً زواجه فيما بعد، لم يأخذ الشابي من نصيحة الأطباء الا بترك الجري والقفز وتسلق الجبال والسباحة، ولعل الألم النفسي الذي كان يدخل عليه من الإضراب عن ذلك كان أشد عليه مما لو مارس بعض أنواع الرياضة باعتدال.يقول في إحدى يومياته (الخميس 16 ـ 1 ـ 1930م) وقد مر ببعض الضواحي: (هاهنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنى لي ذلك والطبيب يحذر من ذلك لأن بقلبي ضعفاً ! آه يا قلبي ! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية.وقد وصف الدكتور محمد فريد غازي مرض الشابي فقال: (إن صدقنا أطباؤه وخاصة الحكيم الماطري قلنا إن الشابي كان يتألم من ضيق الأذنية القلبية أي أن دوران دمه الرئوي لم يكن كافياً، ومن ضيق الأذنية القلبية هو ضيق أو تعب يصيب مدخل الأذنية فيجعل سيلان الدم من الشرايين من الأذنية اليسرى نحو البطينة اليسرى سيلاناً صعباً او امراً معترضاً (سبيله) وضيق القلب هذا كثيراً مايكون وراثياً وكثيراً ماينشأ عن برد ويصيب الأعصاب والمفاصل وهو يظهر في الأغلب عند الأطفال والشباب وخاصة عند الأحداث على وشك البلوغ.وقد عالج الشابي الكثير من الأطباء منهم الطبيب التونسي الدكتور محمود الماطري ومنهم الطبيب الفرنسي الدكتور كالو والظاهر من حياة الشابي أن الأطباء كانوا يصفون له الإقامة في الأماكن المعتدلة المناخ.قضى الشابي صيف عام 1932م في عين دارهم مستشفياً وكان يصحبه أخوه محمد الأمين ويظهر أنه زار في ذلك الحين بلدة طبرقة برغم ماكان يعانيه من ألم، ثم إنه عاد بعد ذلك الى توزر وفي العام التالي إصطاف في المشروحة (إحدى ضواحي قسنطينة من أرض القطر الجزائري) وهي منطقة مرتفعة عن سطح البحر تشرف على مساحات مترامية وفيها من المناظر الخلابة ومن البساتين مايجعلها متعة الحياة الدنيا وقد شهد الشابي بنفسه على ذلك.ومع مجيء الخريف عاد الشابي إلى تونس الحاضرة ليأخذ طريقه منها التي توزر لقضاء الشتاء فيها، غير أن هذا التنقل بين المصايف والمشافي لم يجد الشابي نفعاً فقد ساءت حالته في أواخر عام 1933م واشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش مدة، حتى إذا مر الشتاء ببروده وجاء الربيع ذهب الشابي إلى الحمة او الحامة (حامة توزر) طالباً الراحة والشفاء من مرضه المجهول وحجز الأطباء والاشتغال بالكتابة والمطالعة.وأخيراً أعيا الداء التمريض المنزلي في الآفاق فغادر الشابي توزر الى العاصمة في 26 ـ 8 ـ 1934م وبعد أن مكث بضعة أيام في احد فنادقها وزار حمام الأنف، أماكن الاستجمام شرق مدينة تونس نصحه الأطباء بأن يذهب الى اريانا وكان ذلك في أيلول، وضاحية اريانا (نحو خمسة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مدينة تونس) موصوفة بجفاف الهواء.ولكن حالة الشابي ظلت تسوء وظل مرضه عند سواد الناس مجهولاً او كالمجهول وكان الناس لايزالون يتساءلون عن مرضه هذا: أداء السل هو ام مرض القلب؟ثم أعيا مرض الشابي العناية والتدبير الفرديين فدخل مستشفى الطليان في العاصمة التونسية في الثالث من شهر اكتوبر قبل وفاته بستة ايام ويظهر من سجل المستشفى أن ابا القاسم الشابي مصاباً بمرض القلب.توفي ابي القاسم الشابي في المستشفى في التاسع من اكتوبر عام 1934 في الساعة الرابعة من صباح يوم الاثنين الموافق الأول من رجب سنة 1353هـنقل جثمان الشابي في أصيل اليوم الذي توفي فيه إلى توزر ودفن فيها، وقد نال الشابي بعد موته عناية كبيرة ففي عام 1946 تألفت في تونس لجنة لإقامة ضريح له نقل اليه باحتفال جرى يوم الجمعة في السادس عشر من جمادي الأخر عام 1365مإرادة الحياة ـ لأبي القاسم الشابي:[c1]إذا الـشـعـب يـومــاً اراد الـحـيــاةفـــلا بـــد أن يستـجـيـب الــقــدرولا بـــــد لــلــيــل أن يـنـجــلــيولا بـــــدلـلـقـيــد أن يـنـكــســرومـن لـم يعانقـه شــوق الحـيـاةتـبـخـر فـــي جــوهــا ، وانــدثــرفويـل لـمـن لــم تشـقـه الحـيـاةمــن صـفـعـة الـعــدم المنـتـصـركـذلــك قـالــت لــــي الـكـائـنـاتوحـدّثـنــي روحــهــا الـمـسـتـتـرودمـدمـت الـريـح بـيــن الـفِـجـاجوفــوق الجـبـال وتـحـت الـشـجـرإذا مـــا طـمـحـت إلــــى غــايــةركـبـت المـنـى ونسـيـت الـحــذرولـــم أتـجـنـب وعـــور الـشـعـابولا كـــبٌــــةَ اللهب الـمـسـتــعــرومــن لا يـحـب صـعــود الـجـبـاليـعـش ابــد الـدهـر بـيـن الـحـفـرفعـجّـت بقلـبـي دمــاء الـشـبـابوضـجــت بـصــدري ريـــاح أٌخـــروأطرقـت أصغـي لقصـف الرعـودوعــزف الـريـاح ، ووقـــع الـمـطـروقــال لــي الأرض لـمـا سـألـتأيــا أم هـــل تكـرهـيـن الـبـشـر؟ابــارك في الـنـاس أهــل الطـمـوحومـــن يسـتـلـذ ركـــوب الـخـطـروألعـن مــن لا يمـاشـي الـزمـانويقـنـع بالعـيـش عـيـش الـحـجـرهــو الـكـون حــي يـحـب الحـيـاةويحـتـقـر الـمـيـت مـهـمــا كــبــرفـلا الأفـق يحضـن ميـت الطيـورولا النـحـل يـلـثـم مـيــت الـزهــرولـــولا أمـومــة قـلـبـي الــــرؤوملمـا ضـمـت المـيـت تـلـك الحـفـرفويـل لـمـن لــم تشـقـه الحـيـاةمـــن لـعـنـة الـعــدم المتـتـصـر !وفـي ليلـة مـن ليـالـي الخـريـفمـثـقـلّـة بــالأســـى والـضــجــرسكـرت بهـا مــن ضـيـاء النـجـوموغنـيّـت لـلـحـزن حـتــى سـكــرسألت الدجـى: هـل تعيـد الحيـاةلــمــا أذبـلـتــه ربــيــع الـعـمـــــــــــــــــر؟فـلــم تتـكـلـم شـفــاه الــظــلامولـــم تـتـرنـم عـــذارى الـسـحــرّوقــال لــي الـغــاب فـــي رقـــةمحـبـبـةٍ مــثــل خــفـــــــــــــــــق الــوتــريجـيء الشـتـاء ، شـتـاء الضـبـابشـتـاء الثـلـوج ، شـتــاء الـمـطـرفينطفىء السحر ، سحر الغصونوسـحـر الـزهـور وسـحـر الـثـمـروسحـر المسـاء الشـجـي الـوديـعوسحرالـمـروج الشـهـي الـعـطـروتــهــوي الـغـصــون واوراقــهـــاوأزهـــار عــهــدٍ حـبـيــبٍ نــضــروتلهـو بـهـا الـريـح فــي كــل وادٍويـدفـهـا الـسـيـل ، أنـــى عــبــرويفـنـى الجـمـيـع كـحـلـم بـديــعتــألــق فــــي مـهـجــةٍ وانــدثــروتبـقـى الـبــذور الـتــي حـمـلّـتذخـيــرة عـمــرٍ جمـيل غـبــروذكـرى فصـول ٍ ، ورؤيــا حـيـاةٍواشـبــاح دنـيــا تـلاشــت زمــــرمعانـقـةً وهــي تـحـت الـضـبـابوتـحــت الـثـلـوج وتـحــت الـمــدرلطـيـف الـحـيـاة الـــذي لا يـمــلوقـلـب الربـيـع الـشـذي الـخـضـروحـالــمــة بـأغــانــي الـطــيــوروعـطـر الـزهــور وطـعــم الـثـمـرومـــا هـــو إلا كـخـفـق الـجـنــاححـتــى نـمــا شـوقـهـا وانـتـصــرفـصـدّعـت الأرض مـــن فـوقـهـاوأبـصـرت الـكـون عــذب الـصــوروجــــــاء الــربــيــــــــــع بـأنــغــامــــــــــــــــــــهوأحــلامـــه وصـــبـــاه الــعــطــروقبـلّـهـا قـبــلاً فــــي الـشـفــاهتعـيـد الشـبـاب الــذي قــد غـبــروقـــال لــهــا : مٌـنِـحـــــــــــت الـحـيــــــــــــــاةوخـلّـدت فــي نـسـلـك الـمـدّخـروبــاركــك الــنــــــــــــــــور فاسـتـقـبـلــــــــــــيشـبـاب الحـيـاة وخـصـب الـعـمـر[/c]