ربما لا توجد عائلة سعودية ليس لدى أحد أفرادها قصة مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تكتظ المجالس والأحاديث بالكثير من القصص التي تحولت إلى حكايات كلها تكاد تجمع على صورة واحدة وهي أن هناك علاقة متوترة بين الناس وبين جهاز الهيئة، وهو توتر قلما يتكرر بين الناس وبين أي جهاز حكومي وبهذه الكثافة. لم ينشأ هذا التوتر من فراغ، ولا يمكن القول بأن الأخطاء التي تقف خلف ذلك التوتر أخطاء فردية من بعض موظفي الهيئة، ذلك أن التكرار يحول الخطأ إلى واقع وإلى حالة مستمرة، هي التي تمثل الجزء الأكبر من الأداء اليومي للجهاز. وإذا افترضنا أن هناك منطقة يمكن أن يكون متفقا عليها في عمل الهيئة وهي تلك المتعلقة بالجرائم المتفق على كونها جرائم، إلا أن الجانب الأبرز والأهم والأكثر تأثيراً في صورة الهيئة في أذهان الناس هو تلك الجوانب الميدانية من العمل اليومي والاحتكاك المباشر بالناس.الهواتف المحمولة التي يتم تفتيشها، والشباب الذين يتم استيقافهم لأن خاصية البلوتوث مفتوحة في هواتفهم، والتنبيهات غير المتزنة على نوع العباءة أو على غطاء الوجه، وما يتبع ذلك من أخطاء ومخالفات كبرى كالمطاردة والاعتقال والإيقاف، والتردي المستمر في علاقة الناس بالهيئة والأحداث التي وقعت العام الماضي وأدت إلى وفيات والقصص الكثيرة التي تملأ الأذهان والمجالس عن الهيئة، كلها مظاهر تشير إلى أن جدول أعمال الشيخ عبد العزيز الحمين سوف يكون مزدحما للغاية هذا العام، ليس فقط على المستوى الإداري والتنظيمي بل على مستوى حملة علاقات عامة جديدة من شأنها أن تعيد صياغة العلاقة بين الناس وبين الهيئة، فالناس ومهما كانت طواعيتهم لا يمكن أن يستجيبوا وبشكل مطلق لما يعتبرونه اقتحاما لحياتهم الشخصية وتسلطا على حرياتهم، وبخاصة الجيل الجديد من الشباب والفتيات والذي يحمل رؤى وأفكاراً وتصورات مختلفة وجديدة لحياته ويعيش مراحل التغيير الجديدة، وهو التغيير الذي يمثل سنة كونية لا يمكن إيقافها ولا حصارها.الذين تابعوا تعيين الشيخ عبد العزيز الحمين في هذا الموقع بالغ الحساسية يدركون أن وجوده هنا هو وجود إصلاحي وتطويري بالدرجة الأولى وليس مجرد وظيفة إدارية، خاصة أن التجارب السابقة للشيخ يمكن قراءتها من جانبين كلاهما يدعمان تلك الرؤية التي صاحبت تعيينه رئيسا عاما للهيئة، فالقانون والحقوق والشريعة هي أهم حماة الحريات الشخصية وأول من تصنع المعايير التي تفرق بين الحريات وبين الأخطاء، وعلى الجانب الثاني تقع تجربة الشيخ في العمل الخيري الداخلي، ومواقفه التي يتناقلها العارفون به، وكيف أنها كانت أعمالا خيرية وإنسانية متخلصة من أي بعد أيديولوجي أو موجّه. كيف إذن بإمكان الشيخ الشاب أن يفض هذا الاشتباك القائم بين الناس وبين جهاز الهيئة؟ أولا الخطأ ليس في الناس، بمعنى أنهم ليسوا مسؤولين عما هو قائم من علاقة متوترة، فأطراف المعادلة تشير إلى أن أناسا رجالا ونساء مواطنين يتحركون في حياتهم اليومية بالشكل الذي يجدون فيه ذواتهم وأنفسهم ويحدد ملامح شخصياتهم وحياتهم هم، دون أن يمثل اعتداء على غيرهم، وهي حركة تخضع للتنوع والاختلاف حسب الرؤية والثقافة والتربية والأسرة، بينما يوجد جهاز يومي في الشارع وظيفته تكمن في نهي الناس عن المنكر، وأمرهم بالمعروف، وهنا تتبدى الإشكالية الكبرى: إلى أي درجة يتفق الناس على أن ما يتم النهي عنه هو منكر، وكيف يمكن تحديد ملامح المنكر، والفصل بينه وبين الاختلاف والتنوع، فمثلا: لو أن أحد أعضاء الهيئة يرى أن صحون استقبال البث الفضائي من المنكر، فليس من حقه أن يتسلق سطح منزل ما ليقتلع ذلك الصحن وليوقف المنكر، لأن القضية هنا تخضع للاختلاف والتنوع والرؤية الذاتية، والتي يحق لها أن تحتفظ بذاتها ما لم تعتد على غيرها. ذات الحالة تنطبق على المواقف اليومية في الحياة وما يحدث من مواقف من كوادر الهيئة تقع في تلك المنطقة التي يفترض بها أن تكون محرمة، فليس من حق أحد على الإطلاق أن يقوم بتفتيش هاتف محمول شخصي وقراءة ما فيه، ولا يحق لأحد أن ينهر امرأة لأنها لم تغط وجهها أو لأنها تلبس عباءتها بشكل ما، علاوة عما قد يترتب على ذلك من مواقف كالاحتجاز والمطاردة وغيرها.إذن.. يبدو أن أبرز نقاط الاختلاف والتي إذا ما وجدت عملا جادا من الرئاسة الجديدة في الهيئة فإنها ستفتح الباب لعلاقة جديدة ومتميزة ومن نوع آخر، هي تلك المتعلقة بفهم أعضاء الهيئة لحدود المنكر وماهيته، وإلى أي درجة هم قادرون على التفريق بين ما يرونه هم منكرا وبين ما يراه الآخرون خلاف ذلك، فالقضية ليست في كونه صاحب سلطة فقط، بل القضية في عدم تطويع تلك السلطة للأفكار والقناعات الخاصة. كيف إذن يمكن للرئيس العام أن يدرب أفراد جهازه على رؤية جديدة وواعية للمنكر؟ في الواقع أن أبرز طريقة لذلك تكمن في ربط المنكر بالضرر الحقيقي، الذي لا خلاف، والمتمثل في إلحاق الضرر بالغير، أو إلحاق الضرر القاتل بالنفس، وهي مسألة يتداخل فيها الجانب الإداري مع الجانب الفقهي والقانوني والإنساني وكلها جوانب متوفرة في شخصية الرئيس الجديد إلى الحد الذي يمكنه من ذلك. ذلك أنه حين يختلط فهم المنكر، يختلط تبعا له فهم المعروف، وتختلف أدواته، وتسبب في إنتاج خلاف ما هو مراد منها، فتتحول العلاقة مع الهيئة إلى علاقة متوترة ومتشنجة ينتج عنها أحد أسوأ المواقف التي قد لا تشاهدها وأنت تتجول في أي بلد عربي أو خليجي آخر. إن أول ما تحتاج إليه الهيئة في هذه الفترة أن تمد كافة منسوبيها بتعليمات وقرارات إدارية جديدة تنطلق من رؤية فقهية معتدلة، ذلك أن أبرز بواعث الخلاف المستمر بين الناس وبين الهيئة أن المنكرين من أعضاء الهيئة ينطلقون من رؤية فقهية واحدة وضيقة، وقد تكون متشددة في بعض الأحيان، وهو ما لو أوجدت له الرئاسة رؤية إدارية تقوم على فقه معتدل ينص على ترك المسائل الخلافية والقابلة للتنوع خارج دائرة الإنكار، وتفعيل تلك الرؤية الجديدة، ومحاولة تحديد أنواع المخالفات وترك ما لا يمثل اعتداء على أحد، وتقنين الفعل الإنكاري وهو ما سيستلزم إجراءات واسعة لإعادة الصياغة تبدأ من مراقبة معايير التعيين وأدواته وإعادة ترتيب مهام العمل الميداني،، وتشديد العقوبات على مخالفي التعليمات. ما سيقوم به الشيخ الحمين يمكن أن يمثل أهم مرحلة في تاريخ هذا الجهاز وعلاقة الناس به، لأن الناس حين تغضب من جانب يتعلق بالخدمات الصحية مثلا، فهي لن تأخذ موقفا سلبيا من الصحة، لكن حين تغضب من موقف تسبب به فرد من الهيئة فهي تتخذ موقفا سلبيا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أكبر ضرر يمكن إلحاقه بالفكرة. إن الشيخ الذي قذف كرة البولينج في أحد متنزهات جدة، والشيخ الذي حمل ورودا للمتنزهين في كورنيش الدمام، يقدم صورة للهيئة هي بالتأكيد لا علاقة لها بصورة من يفتش هاتفا محمولا لفتاة في مكان عام لأن عباءتها ليست الرأس.[c1]* صحيفة «الوطن» السعودية[/c]
|
دراسات
حين يختلط فهم المنكر!
أخبار متعلقة