بيروت / متابعات :ما كُتِب عن إبداع عاصي ومنصور الرحباني من مقالات وأبحاث يملأ مجلّدات كثيرة بحقّ، لكنّ ليس هناك جهد ضخم مبذول على هذا الصعيد يوازي الجهد الذي بذله الدكتور مفيد مسّوح. فكتابه "جماليّات الإبداع الرحباني ، دراسة تحليليّة للأعمال المسرحيّة للأخوين عاصي ومنصور الرحباني" والموزَّع على جزئين يقعان في أكثر من 900 صفحة من الحجم الكبير خير دليل. وماذا إذا أضفنا شهادة الشاعر هنري زغيب الدائب العطاء التي وردت في مقدّمة الكتاب ذاته ـ الجزء الأوّل ـ حين يقول "عجبتُ له يتأنّى بهذا الصبر الجلود.. / عجبتُ له يمتدّ جسر متابعة أميناً أكثر من ربع قرن مسرحي رحباني.. / مفيد مسّوح يلتقي بحلم راودني (متلقياً في البدء، ثمّ صديقاً لعاصي ومنصور متابعاً إيّاهما عن قرب) طوال سنوات متابعتي الأعمال الرحبانيّة، ثمّ طوال سنة كاملة من تنسيقي وإشرافي على إصدار المجموعة الرحبانيّة المسرحيّة الكاملة (عن منشورات ديناميك غرافيك) والحلم: أن يجيء يوماً من يقدِّم النصّ الرحباني إلى القرّاء بعدما كان هو قدّم نفسه بنفسه إلى المستمعين والمشاهدين.. / حسبي منه اعترافي بخجلي أمام ضخامة عمله الذي حقّق لي حلماً ما استطعتُ تحقيقه بالشكل الذي نفّذه فيه مفيد مسّوح". وماذا إذا أضفنا شهادة الكبير منصور الرحباني ذاته المنشورة على غلافي الجزأين الخارجييَن: "الدكتور مفيد مسّوح حقّق في هذا السفر الموسوعي ما قد يكون في لا وعينا عاصي وأنا حين كنّا نكتب ونكتب ونكتب غير ملتفتين إلى الشذى الذي سيتناثر من حولنا من تلك الكتابات. مفيد مسّوح لملم هذا الشذى في دقّة عجيبة الصبر، لملمه بإخلاص عالٍ، وحبٍّ كثير لملمه، حتى ليعود إلينا اليوم من هذه المسرحيّات كما أعاد عرضها على الورق واضحة الجمال في الكيان، متّقنة الجماليات في الإداء". أمّا منهج "جماليّات الإبداع الرحباني" فيقوم على تناول كلّ مسرحيّة من مسرحيّات الرحبانييَن ضمن تتابعها الزمني بحيث يضمّ الجزء الأوّل كلّ من "موسم العزّ ـ 1960"، "جسر القمر ـ 1962"، الليل والقنديل ـ 1963"، "بيّاع الخواتم ـ 1964"، "دواليب الهوا ـ 1965"، "أيّام فخر الدين ـ 1966"، "هالة والملك ـ 1967"، "الشخص ـ 1968". ويضمّ الجزء الثاني كلّ من "جبال الصوّان ـ 1969"، "يعيش ـ 1970"، "صحّ النوم ـ 1971"، "ناس من ورق ـ 1972"، " ناطورة المفاتيح ـ 1972"، "المحطّة ـ 1973"، "لولو ـ 1974"، "ميس الريم ـ 1975"، و"بترا ـ 1977". هذا من ناحية، أمّا من ناحية ثانية فلا يكتفي العرض بإيراد نصّ المسرحيّة بل بمحاولة تتّسم بذكاء شديد، وهي عرض المسرحيّة من جديد، وهذه المرّة أمام قارئ وليس أمام مشاهد، أمام قارئ سرعان ما ذاته ينقلب إلى مشاهد تحت تأثير مناورة متّقنة يقوم بها الدكتور مسّوح ملخّصها عرض المسرحيّة بأمانة إنّما على لسان راوي يقصّ ما قيل وما أُنشِد، وكيف قيل وكيف أُنشِد، ومن الذي قال ومن الذي أنشد: فيلمون وهبي؟ وديع الصافي؟ وليم حسواني؟ شبل بعقليني؟ الهام الرحباني؟ ميشيل الحاج؟ سميرة بعقليني؟ رامز كلنك؟ جوزيف عازار؟ جوزيف ناصيف؟ سهام شمّاس؟ هدى حدّاد؟ أيلي شويري؟ محمّد مرعي؟ أنطوان كرباج؟ ملحم بركات؟. كذلك كيف هو صدى هذه الموسيقى التصويريّة وتلك الأغنية في الحضور؟ وما هذا النغم؟ أهو بيّات؟ نهاوند؟ حجاز؟ عجم؟ سيكا؟ أم مارش ؟ وأيّ آلات العزف تشترك في هذا المارش الحربي؟ الصنج؟ الإكسيليفون؟ الطبل؟ الهورن؟ الترومبيت؟ كيف أحسن الإخراج صبري الشريف ومساعده برج فازليان؟ من أبدع لحن وكلمات تلك الأغنية وهذه الرقصة؟ أو تلك الدبكة من وضعها: عبد الحليم كركلاّ؟ سيمون عون؟ الشاعر الزجلي أسعد سعيد الذي صمّم رقصة السيوف في جسر القمر؟ وعرضت المسرحيّة في مسرح مدينة بعلبكّ الأثريّة أم في مسرح مدينة معرض دمشق الدولي؟ في الأردن أم في مصر؟ بالإضافة إلى شروح غنيّة حول محطّات تتكرّر بتجديد مستمرّ في المسرح الرحباني مثل ساحة الضيعة ومواسم بعينها تكون سبباً للقاء أو لافتراق، بالإضافة إلى وقفات عند عبارات وكلمات ترد في حوار أو في أغنية:وحدّث ولا حرج عن المعرفة الموسوعيّة التي تكمن خلف إنتاج "جماليّات الإبداع الرحباني"، والإصرار على إنجاز هذا السفر الذي ما كان له أن يكون من دون هذا التقدير العالي لإبداع الرحبانييَن عاصي ومنصور والأيقونة السيّدة فيروز، ومن دون هذا الإيمان العميق الذي يبديه الدكتور مفيد مسّوح اتّجاه المستقبل الوضّاء الإنساني الخالي من العنصريّة المقيتة والطبقيّة الفظّة مثلما هو المسرح الرحباني على هُدي إيمان الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت حتى وهو في غياهب سجن طال المكوث فيه بأن أجمل الأيّام تلك التي لم تأتِ بعد.