وترامب وحده شاغل الناس لكنه ليس مالئ الدنيا، كما كان شاعرنا المتنبى (مالئ الدنيا وشاغل الناس، وباعث شغفهم بالشعر)، فهذا باعث للقلق العالمي، في إشعال حرائق حروب لا تنتهي.
وازدادت هذه الحرب حدة في الثاني من أبريل/نيسان الذي أطلق عليه ترامب «يوم التحرير»، حيث أعلن عن مجموعة من التعريفات الجمركية المتبادلة تستهدف جميع البلدان تقريبا التي تتعامل معها الولايات المتحدة، مما يشكل ضربة قاسية للتجارة الحرة والعولمة. نعم العولمة التي بقينا لأربعة عقود، نفكك خطابها، هاهي تتعرض من عقر دارها لضربة تلو الأخرى.
ما يجرى ليس قرارا انفعاليا، بل هو ضمن إستراتيجية إعادة صياغة النظام العالمي، والنهج (الترامبي)، وهو نهج يعزز مبدأ (الترامبية) كرؤية، وليس كتصرف فردي.
وسواء كان القرار صائبا أو خاطئا، فإن ما سيحكم على نتيجته هو القدرة على تحويل الضغط إلى مكاسب من دون إغراق السفينة التي يجلس فيها الجميع. وأذكر هنا بما يقوله الخبراء منذ أيام وهو أن «ترامب وضع يده على محرك اقتصاد عالمي بنته الولايات المتحدة نفسها، عقب ربحها العظيم بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت من مجرد لاعب إقليمي خلف المحيطات إلى رأس إمبراطورية عالمية أصبحت تقرر مصير العالم منذ ذلك الحين».
الخطر الحقيقى يكمن في أن تتحول الخطوة من أداة ضغط أمريكية إلى إستراتيجية صدام مفتوح في المجتمع الدولي. ولكن الرجل يخاطب الناخب الامريكي لا المواطن في إفريقيا وآسيا، فخطوة ترامب تأتي كجزء من إستراتيجية تهدف إلى حماية الاقتصاد الأمريكي وإعادة ترتيب قواعد التجارة العالمية بما يخدم مصالحه الطويلة الأمد له لا للعالم. تلك إستراتيجية لا توجد فيها هدايا مجانية. وذاك ما يسوقه بقوة ويعزز من نهج ما قلنا عليه (الترامبية)، والتي يمكن لها أن تعيش بعد رحيل ترامب نفسه ووفاته، إلى أن يحدث صدامٌ أوسع يوقف قطار الاندفاع السريع.
صباح الثالث من أبريل الحالي لم يكن يوما عاديا في أسواق العالم، إنه بداية تحول يصنع قواعد عالم جديد لابد له أن يكتمل. ففي يوم واحد خسرت الأسواق 3 تريليونات دولار، وانخفض الدولار والنفط وتراجعت الثقة.
هذه الخطوة تهدد دولا صغيرة بالانهيار . فمثلاً نجد أن الرسوم الجمركية المضادة المفروضة على دولة صغيرة مثل ليسوتو تبلغ 50 %، وهي أعلى نسبة رسوم على قائمة طويلة من الاقتصادات المستهدفة من الرئيس الأمريكي، وتلك خطوة من شأنها أن تقضي على المملكة الصغيرة الواقعة في جنوب القارة الإفريقية.
وتتمتع ليسوتو بفائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة، ويتألف معظمه من الألماس والمنسوجات، بما في ذلك سراويل الجينز من ليفايز. ذاك مثل صغير لما يحدثه تحرك الفيل في غرفة مكتظة بالفخار. وكيف يمكن أن يتحول سروال الجينز الأمريكي الشهير لكفن مؤلم لدولة فقيرة مرمية في جنوب القارة الإفريقية.
الخطوة من وجهة نظري تتسق مع رؤية جديدة للنظام، أكثر منها إجراءات انفعالية بشأن الربح والخسارة. أمريكا هنا تعيد صياغة النظام العالمي، بناء على رؤية تقول إنها تريد شركاء، أشخاصا أقوياء في العالم، لا تكتلات تقليدية، وتنهي مرحلة عقود من نشر قيم كل ما بقي من نظام الحرب العالمية الثانية. فنحن في خضم حرب كونية جديدة لابد لها من نظام آخر، ستخلق أمامنا محاور قوة جديدة. لهذا نتفهم اضطراب الاتحاد الاوروبي، وتحفز الصين، وتقارب بوتين وترامب.
فأمريكا تتخلص بجدية، من كل نظرية التعاون الدولي القائم على مناصرة قضايا كانت تؤمن بها، أو تدعي الإيمان بها، إلى إعادة صياغة العلاقات على مبادئ جديدة، تقوم على اساس الرابح المنفرد. ولكن ذلك إعصار لا ندري إلى أين ستجرف رياحه الشديدة هذه السفينة العالمية المهتزة. لكن ما يمكن قوله إننا في منطقة رغم أنها في عين الإعصار، فإننا يمكن أن نلمح ضوءا آخر قادما، وأرجو ألا يكون ضوء قطار الاندفاع قبل أن يدهسنا في هذا النفق الذي علقنا به كأمة، وأن نتمكن رغم الصعاب من اقتناص الفرصة في ترتيب أوضاع المنطقة.
نحتاج إلى رؤية شجاعة تصنع محورا ينجو بهذا الوطن العربي الممتد من الماء إلى الماء، فقط إذا أخمدت نيران خلافات قبائله لا أكثر.