وحسب لعبة الزمن المعروفة، فإن الثورة قد تفضي إلى بناء دولة، أو قد تذهب بالدولة إلى غير رجعة!.
تلك محطة انتظار وترقب. والأمر لا يعني أن النظام السابق مأسوف عليه.
فلا يحتاج أمر إظهار سوء حكم الأسد في سوريا لاختلاق الحكايات. مجرد السجل العادي للجرائم يكفي لإثبات الإدانة الواضحة وطنياً ودولياً. البعض يريد خلق قصص سنجد في الأخير أنها تخدم الهارب ولا تعزز مطالب المظلومين. والنظام الذي سقط تأخر سقوطه لعشرين عاماً على الأقل. وسوريا، التي تشكل دُرة العقد العربي، تستحق غير هذا الذي يجرى لها منذ عقود.
وأنا مع دمشق مثل ما قال نزار قباني:
(أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي.. لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح.).
(مآذن الشـام تبكـي إذ تعانقـني... وللمـآذن.. كالأشجار.. أرواح)
ونحن جيل وُلد وكبر ولم يسمع برئيس غير عائلة الأسد، وتلك كارثة لمتابع عربي عن بعد، فكيف بالمواطن السوري الذي تُطبق على أنفاسه ليل نهار صورة الرئيس إلى الأبد؟! وكأنى أسمع أحمد شوقى يردد:
(وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ).
أعرف سوريا ومشهدها السياسي والثقافي بما يكفي لمعرفة الواقع الصعب، وزرت مدنها من دمشق إلى الحسكة. وأحب دمشق ولا تفارق مخيلتي شُرفة في ركن منزل قديم عامر بالياسمين، وصدر لي فيها كتابان في عز الشباب والعطاء، وعشنا تقلبات الصراع مع النظام الذي اختلفنا معه وهو لا يحب أحداً، ولكن بقينا نحب سوريا!.
بلد يدهشك بتنوعه وجماله وثراء تاريخه وثقافته، ويحزنك أنه رُمي به إلى قلة لم تدرك جحيم ما تصنعه بالناس الطيبين، وما تفعله بفكرة العروبة التي تستحق أنظمة غير هذه التي أساءت للفكرة والأمة معاً.
يجب ألا نذهب إلى التهويل أو التقليل. ما تم إنجازه انتظره الشعب السوري والعربي طويلاً، وهروب بشار تأخر عقدين من الزمن. وكان القدر قد اختار خاتمة معقولة لسوريا مع النظام السابق، بوفاة حافظ الأسد منتصف العام 2000. بشكل طبيعي والبدء بتفكير يخرج البلد من أقبية الخوف وقبضة زوار الفجر. لكن الحرس القديم، الذي فاته تطور العالم، أصر على إعادة العجلة، وأحضر الابن الشاب على عجل من مستشفى ويسترن للعيون في لندن ليزيد من حالة العمى في النظام الذي كان يشيخ، مثل كل شيء هرم في السلطة والسجن.
وبشكل مسرحي تم تغيير الدستور ليلائم قامة الشاب، ويكون عمر الرئيس من أربعين إلى أربعة وثلاثين ونصف العام، ويُدفع به ليذهب بالبلد إلى منتهى الجحيم.
كان الوضع بحاجة إلى حنكة سياسية ومستشارين شجعان مخلصين ليقولوا لخليفة دمشق إن البلد بحاجة إلى عدالة انتقالية صادقة لا سجون إضافية. تأخر الأمر وضاعت فرص تنقذ بلدا جميلا، وتنقذ معها مسار فكرة القومية والعروبة، وهما أكبر الضحايا لسوء التقدير وسوء التدبير، لا سوء الجوهر في الفكرة التي هي براء.
فى 10 يونيو 2000 مات حافظ الأسد، وفي 17 يوليو تم تعيين بشار. بدأت العملية مسرحية هزلية لتنتهي بدراما دامية. تلك هي قصة مسلسل الحكم. رحل الأب عن 69 عاماً، وفر الابن عن 59 عاماً.
ولم يكن بوسع الشعب تحمل عشر سنوات أخرى ليموت الابن بعمر الأب على يد القدر.
حكم الابن ربع قرن، نصفها في صراع مع الثورة ضد النظام. مرت فيها الكثير من المحطات التي كان يمكن لها أن تحدث مصالحة وتوقف حمام الدم بدلاً من براميل البارود.
لكن التمترس خلف عقلية هرمت جعل النظام يسقط في اثني عشر يوماً. وكان يعوّل على حليف متسربل بالاثني عشرية الإمامية في طهران، لكنها كانت غائبة كالعادة عند كل كارثة تحل بحلفائها. فسقط النظام بعد أربعة وخمسين عاماً من الحكم، وبعد أن ظن الناس أنه دائمٌ للأبد.
قيل الكثير عن السقوط المروع والسريع، والحقيقة أن أسباب سقوط الأسد ليست في آخر اثني عشر يوماً، بل بسنوات طوال من تآكل النظام وابتعاده عن الناس، حتى قيل إن معظم الطائفة الحاكمة والجيش تمنوا في أعماقهم الخلاص مثل غيرهم مما يجري، فكان هذا السقوط.
والآن تُعيد الدنيا علينا وجهها ودرسها وتقول إنه للخروج إلى بر الأمان لا بد من عدالة انتقالية، وجدية في بناء دولة القانون والحق، ومحاسبة المجرمين، ولكن أيضاً تشييد بناء دولة تحفظ للناس الكرامة والأمان وتحفظ لنا سوريا البلد الأجمل بتنوعه، الذي يشكل درة عقدنا العربي، والذي يواجه الاحتلال من كل جهاته.
تلك سوريا التي يجب ألا تُترك وحيدة في الأسرة العربية ويجب ألا يختلف العرب على وحدة وقوة سوريا. ولا يجب لمآذن الشـام ان تبكـى ثانية!.
ولا حتى في عناق الأحبة يا نزار.
فللمـآذن.. كالأشجار.. أرواح.