
مبعث الاختلاف كما قال فريق منهم، أنه ما دام هذا الصديق قد قتل غيلة وهو آمن، وكان أهله يعقدون عليه آمالا عراضاً فان منطق الأشياء يفترض أن الاحتفاء بمناسبة مولده يقتضي كذلك العروج على مناقبه والقيم الحاكمة لسلوكه لو أنه بقي حيا، والوقوف على هذه المناقب سيستدعي بالضرورة عقد مجلس تأبين للبكاء على أطلال تلك القيم والمبادئ المأسوف عليها. في حافتنا في تلك اللحظة برز بعض العقلاء وقدموا النصح للشباب وحتى للكهول الذين انقسموا بين مؤيد لمن يدعو للاحتفال بمولد الفقيد والمؤيد للمزاوجة بين الاحتفال والتأبين ونصب خيمة عزاء جديدة.
حافتنا حينها كانت مفجوعة للتو بفقدان واحد من أعمدتها الكبيرة الذي قضى عمره في حقل التعليم وهو يحاول غرس المعرفة وقيم المدنية في نفوس ووعي المختلفين بالذات في المدينة الكبيرة. حافتنا تفتقد اليوم الأستاذ (الصاعدي) بشدة. لم يكن رحيل أستاذنا رحيلا مؤكدا مع ان الموت حقيقة لا يجادل حولها وفيها أحد، فقط لو أن (المولد الكهربائي) لم يتوقف في حافتنا، لما تمكن الضغط من الضغط على استاذنا، ولو أن المركز الصحي في حافتنا كان يشتغل بكفاءة ولو أن موظفيه لم يغادروه مبكرا للبحث عن قيمة حبة (صيد باغة) للغذاء، ولو كان كل هؤلاء يحصلون على رواتبهم في موعدها لكان بالإمكان انقاذ استاذنا الراحل، لأنه سيكون بمقدوره شراء دواء الضغط وما كان لموظفي المركز مغادرة مقر عملهم ولساعدوا من يحتاجهم. ولو أن صديقي سلطان مثلا، وهو برتبته العسكرية الرفيعة حصل على حقوقه مثل الكثير من (المصلبين) لكان بمقدوره شراء حقنة التنفس، ولما قتلته نوبة من السعال وكتم النفس وهو يستعد لاستقبال العيد قبل بضع سنين.
ما أعاد هذه الواقعة إلى ذهني اليوم هو ذلك الهرج والمرج حول (الاحتفال بيوم الوحدة) بين من يريده حفلا للميلاد ومن يريده تأبيناً للميت، في وقت تنعدم فيه مقومات هامة للحياة. لو كان الصاعدي حيا لوصف هذه الحالة بـ (الخَفقنة)، و(الخفقنة) بالعدني الفصيح هي الجنون وعدم تقدير الأشياء وإنزالها مواضعها.