إن الإصرار على تكرار تجربة برهنت بنفسها على فشلها لا يمكن اعتباره مجرد شكل من المكابرة، إذا لم نجد في سياق البحث ما يؤكد حقيقة المكابرة والغرور المجرد. عندما لا توصلنا عمليات البحث إلى حقيقة من هذا النوع فلا مناص حينئذ من تحويل مسار البحث في اتجاه آخر قد لا يكون صائبا من وجهة نظر معينة لأنه قد يفضي إلى كشف ملابسات أو حتى توجهات متصادمة، إذا لم نقل مناهضة للأهداف المنشودة.
الظروف الراهنة التي نعيشها جديرة بأن نكف عن إعادة التجريب لما قد خبرناه لسنوات، إلا إذا كان المغزى هو إقناع الناس بفرضية اصطفاء مفتعلة (ليس أمامكم غير ما نعرضه عليكم)، بينما تنفي الحقائق الماثلة حضور فرضية (المصطفين الأخيار) الموحى بها هنا. لأن الزعم بالاصطفاء يقود دائما إلى إعادة انتاج ما يسميه ابن خلدون صراع العصبيات. ربما تكون فرضية الإرث هذه مقبولة في فقه المواريث لكنها عديمة النفع في إدارة حياة المجتمع، وفي مجال إدارة الدولة ومصالحها المختلفة، حيث الدولة ليست مصلحة شخصية أو فردية بل عامة شاملة مع سمو ما هو عام على ما هو خاص، حتى وإن تعلق الأمر بملكية خاصة معلومة ومحددة. بمعنى أن الصالح العام مقدم على الخاص مع عدم الاخلال بمبدأ التعويض العادل وفقا للزمان والمكان.
لكن ما نحن بصدده لا يقترب مطلقا من جدار ما هو خاص. المسألة هنا لا تكمن فقط باصطفاء الأشخاص بمسوغات الحق المتوهم أو بوهم امتلاك قوة فرض ذلك الأمر، بل تتجاوزه إلى الأدوات المستخدمة والمنهجيات المتبعة وطقوس التكرار نفسها بكل مبرراتها المعهودة.
يستوي الحديث هنا في السياسة العامة والإدارة العامة وأدواتهما بنفس القدر عندما يجري الحديث عن السياسة المالية والنقدية مع فارق الاختلاف الجوهري بين ادوات الأخيرتين، على الرغم من واحدية الحقل الذي يجمعهما، ويستوي كذلك مع أي سياسة من سياسات الدولة في أي مجال.
لذلك يذهلك الإصرار المفرط على استخدام أداة وحيدة من بين كل الأدوات المتاحة والمتعارف عليها، بينما أثبتت التجربة عقمها في محاولة تعسفية لإصلاح خلل كامن قد لا يكون في النطاق الذي نحاول إصلاحه. كما قد لا يكون في الأداة المستخدمة فحسب، بل وفي العقلية الإدارية (مع أنه ليس شرطا وجود خلل في العقلية) بقدر ما تكون منهجية يقصد منها تعظيم الفوائد الشخصية على منفعة الدولة من حيث هي (مؤسسة) للجميع.