تلك الهجرة التي تجلى فيها صدق الإرادة، وكمال البطولة وقوة الإيمان، وشرف الفداء والتضحية، والتي فرقت بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، والتي فصلت بين الهدى والضلال، وبين النور والضلال، والتي أرست دعائم العدالة، وأعلت صروح الفضيلة في الأرض.
إن كل خير أصابه المسلمون، وكل رشاد ظفرت به البشرية إنما هو ثمرة طيبة من ثمار الهجرة النبوية المباركة، فالهجرة ليست من الحوادث الزمنية، التي تنسى، أو تغيب عن الاذهان، فستظل ممتزجة بأرواحنا ـ نحن المسلمين ـ وعالقة بقلوبنا، وماثلة لنواظرنا، لأنها أضاءت لنا سبل الحق، وألهمتنا مواطن الهداية.
إن ذكرى الهجرة ينبغي ان تدفعنا إلى مكافحة الشر في نفوسنا، ومقاومة الفساد في مجتمعاتنا، اقتداء بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، الذي قاوم الفساد، ووقف بصلابة ضد طغيان قريش.
كان الرسول (صلى الله عليه وسلم)، قبل الهجرة يعبد الله صامتاً منفرداً بنفسه، دائم التفكير في أمر قومه، كيف السبيل إلى هدايتهم؟، فقد كان يعرف ان قومه لا تلين قلوبهم إلا للباطل، ولا تستجيب نفوسهم إلا للهوى، فكان في حيرة من أمره، إلى ان اختاره الله تعالى ليكون داعياً للحق، فأمره أولاً ان يبدأ دعوته بأهله، ثم بالأقربين من عشيرته، وان يستعد بعد ذلك لمجابهة الموقف، مستعيناً بالصبر والجلد.
لقد كان التوحيد أساس دعوته، وكان اقتلاع الشرك من جذوره في المجتمع القرشي هدفه، غير أن قومه أعدوا العدة ليصدوه عن سبيل الله، وحشدوا كل طاقاتهم لمجابهته، ولكنه تحمل أذاهم بصبر، وتصدى لهم بعزيمة المؤمن القوي.
كان (صلى الله عليه وسلم)، يجهر بدعوته تارة، ويخفيها تارة اخرى، فتعرض له ولصحبه سفهاء مكة بالأذى، وكان كلما جهر بدعوته اشتد اذى قريش بصحبه، فتحملوا أذاها بصبر، لكن قريشاً امعنت في إيذائها، وبالغت في الوقيعة باصحابه، وأسرفت في التنكيل بهم، وكان (صلى الله عليه وسلم) يسوؤه أن يرى بعض اصحابه يعذبون، ولا بد ان يجد لهم من هذا الضيق مخرجاً، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم، فخرج أول فوج فاجتاز البحر الأحمر في طريقهم إلى الحبشة، بينما بقي الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في مكة مدافعاً عن دينه بصبر وجلد، في الوقت الذي كانت قريش تتفنن في ضروب الأذى والشر، إلى الحد الذي فرضت فيه المقاطعة لأسرة الرسول، فأصيبوا على اثرها بالمجاعة، فاضطر الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى الخروج إلى الطائف طالباً العون والمؤازرة، ولما لم يفلح عاد إلى مكة يرصد وفود الحجيج في مواسم الحج، فعرض نفسه وأمره عليهم، واتفق ان مر رجال من الأوس والخزرج من المدينة للحج في مكة، فقابلهم الرسول، فدعاهم إلى الإسلام فاستجابوا لدعوته، فلما عادوا إلى قومهم نقلوا تلك الدعوة إليهم، وفي العام الثاني زاد عددهم، فبعث الرسول معهم اثنين من صحابته ليعلموهم الدين الجديد.
وفي الموسم التالي جاء جمع من الأوس والخزرج إلى مكة، وتسلل منهم بضع وسبعون رجلاً وامرأتان ليقابلوا الرسول، ومعه أبوبكر وعلي، وعمه العباس، وهو يومئذ على دين قومه، وفي هذا الاجتماع السري قال العباس: (يا معشر الخزرج ان محمداً منا حيث علمتم، وقد منعنا من قومنا، وأبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فدعوه).
قال كعب بن مالك: لقد سمعنا ما قلت يا عباس، والقول قولك يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما شئت من عهود ومواثيق). فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (أبايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون منه انفسكم ونساءكم وابناءكم وأموالكم). قالوا: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك فنحن والله ابناء الحروب ورثناها كابراً عن كابر.
ولما كانت قريش تتربص بالرسول شراً، وتتآمر على قتله، خاف على دعوته ان يقضى عليها في مهدها، فلم يبق امامه سوى الهجرة والتماس المكان الصالح لنشر دعوته، فاتجه واصحابه إلى المدينة، واستطاع ان يفلت من قريش، وينجو من ملاحقتها له، رغم ما أعدوا من وسائل للإمساك به والقضاء عليه.
وفي المدينة شرع الرسول في تأسيس دولة الإسلام الأولى، والتي اتسعت مع القرون لتكون أعظم دولة في حياة البشرية، تمكنت من نشر العلم في ربوع العالم، وبنت حضارة ليس لها نظير.