وهو محاولة لمعرفة كيف أمكن لدين ينص قرآنه على الجدال بالحسنى «وجادلهم بالتي هي أحسن»، أن ينتج فقهاء يذيلون فتاواهم بصورة آلية بعبارة «وكل من جحد هذا فهو كافر حلال الدم».
وأن ينتج فقهاء من النوع الذي يتكرر ذكرهم في تواريخ حكام الدول الإسلامية؛ والذين ينصحون الملك أو الخليفة، بعبارة شائعة على ألسنتهم، كلما سئلوا المشورة فيمن يخالفهم الرأي، فيقولون: «اقتلهم وتقرب إلى الله بدمائهم». وكأن الجميع أتباع دين وثني شبيه بديانات سكان أمريكا الجنوبية القدماء، الذين كانوا يتقربون إلى آلهتهم الوثنية بدماء القرابين البشرية.
الخلل في الأسس المعتمدة للاجتهاد
لقد كانت بداية الخلل ناشئة من الأساليب المعتمدة للاجتهاد والتشريع؛ وهي أسس منطقية، أي أنها جدالية، لها علاقة بعلم الكلام المقتبسة قواعده من المناطقة اليونان، وبيان ذلك الخلل كما يلي:
من الراسخ لكل ذي فقه ، أن النصوص الشرعية في القرآن الكريم نزلت مكتملة لا تقبل التغيير ولا التبديل. وأن نصوصه صالحة لكل زمان ومكان، لما تتصف به من مرونة واتساع، يستوعب تعدد الاحتياجات، وتطور المجتمعات. وأن من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتمتع بهذه الصفات، من الكلية والمرونة والاتساع، كحديث « لا ضرر ولا ضرار» وأن ما فصله الشرع من أحكام لا يعدو الأحكام التشريعية الخاصة بالمعاملات. أما الآيات المحكمة فهي لا تقبل النسخ بحال، وتلك هي النصوص التي أخبرت بوقائع، أو النصوص المحرمة للرذائل، أو النصوص التي قررت الفضائل، وأصول العقيدة والعبادات.
2 - ومن المعلوم ، أن السنة المطهرة شارحة ومفسرة للقرآن الكريم، وقد فصلت أحكام العبادات والعقائد وشرحتها.. كما أنها كانت رحمة للعالمين في تخفيف الأحكام كالحدود: «إدرأوا الحدود بالشبهات». وأنه لا تعارض بين القرآن والسنة. وقد درج معظم الصحابة على استخراج الأحكام من القرآن، فإن لم يجدوا اتجهوا إلى السنة. إلا أن فقهاء المذاهب جعلوا القرآن والسنة في مرتبة واحدة. فإذا تعارضا أخذوا بالسنة وقدموها على القرآن، على أساس أن كل حكم عام وارد في القرآن قد جرى تخصيصه، ففقد قطعيته بالنسبة لجميع من يشملهم، بسبب تخصيصه ببعض أفراد الحكم، فأصبح ظنياً بالنسبة لبقية أفراده.. وهكذا ارتفعت السنة عندهم فوق مرتبة القرآن، اتساقاً مع القاعدة الاجتهادية المذكورة. وصحيح أن السنة قد خصصت معظم الأحكام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطبق أحكام القرآن على مقتضيات المجتمع المخصوص في زمنه. ولكن استنتاج أن ذلك قد جعل أحكام القرآن القطعية ظنية، بحيث تتقدم عليها السنة كان تفريطاً واجتهاداً غير موفق.. فإذا حلت أحكام السنة محل أحكام القرآن، أو قدمت على أحكام القرآن، مع أن أحكام السنة بالضرورة في كثير منها، هي تطبيقات للأحكام الكلية للقرآن على وضع مجتمع له ظروفه الخاصة.. فإن ذلك يفقد أحكام القرآن مرونتها واتساعها ويجعلها أحكاماً محصورة بزمن وظروف محددة. فهذه الرؤية للنصوص التي تقول: «إذا دل نص عام على حكم ودل نص خاص خلافه فإنهما لا يتعارضان، بل يرجح الخاص لأنه قطعي الدلالة، أما العام فهو دائماً ظني الدلالة؛ وذلك لأن استقراء نصوص الشريعة دل على أنه لم يبق فيها عام على عموميته بل خصص بالسنة. وإن القطعي الخاص لا يتعارض مع الظني العام لعدم تساويهما لأن التعارض لا يتم إلا بين متساويين.» هذه الرؤية وإن كانت صحيحة عند تطبيقها على النصوص القانونية، إلا أن تطبيقها على النص القرآني في علاقة مع أي نص من خارج القرآن حتى ولو كان حديثا نبويا، تجاوز كبير ومجلبة للخطأ، وذلك لأن ذلك من شأنه أن يجرد نصوص القرآن من عموميتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فالأحكام التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون بعضها مراعياً لظروف الزمان والمجتمع الخاص في عهده، فتصبح مع ذلك وبسبب تطبيق القاعدة القانونية المذكورة على نصوص القرآن، أحكاماً عامة بدورها، تعطي مفهوماً تطبيقيا خاصاً للنص القرآني، فتفقده مرونته واتساعه.
ومن المعروف أن الفقهاء يقسمون السنة من حيث وقوعها وأنواعها إلى قولية وفعلية وتقريرية. ويقسمونها من حيث حجيتها إلى متواترة ومشهورة وآحاد. وقد درج الفقهاء على اعتبار السنة المتواترة والمشهورة، أدلة قطعية لها مرتبة النص القرآني ذات دلالة قطعية.
ولكن القاعدة المذكورة آنفاً، والتي تنزل مرتبة النص القرآني، الذي تم تخصيصه ابتداء،ً بحديث متواتر أو مشهور، إلى مرتبة النص الظني، جعلت سنن الآحاد، بل وحتى القياس، في مرتبة نصوص القرآن.
فإذا أخذنا في الاعتبار ما أصاب السنة من وضع وكذب، وتسلل كثير من الأحاديث المظنونة إلى كتب الصحاح، ظهر لنا كيف أمكن مسخ وتشويه التعاليم المتسامحة للدين الإسلامي لتصبح ما هي عليه على أيدي الفقهاء؛ عن طريق تغليب النص الخاص، الذي قد لا يتعدى أثره الواقعة التي طبق عليها، أو سنة الآحاد، أو قياساًعلى حكم، على نصوص القرآن بعد أن جعلوا نصوصه كلها ظنية الدلالة بموجب القاعدة المذكورة.
كيف يكون الاجتهاد؟
أرى أن الأحكام الواردة في نص من نصوص القرآن لا ينبغي أبداً أن تخفض من مرتبتها القطعية، سواء بقيت عامة لأفراد الحكم، أو تم تخصيصها ببعض أفرادهم، كما لا ينبغي أن تنسحب ظنية دلالتها بالنسبة لمن يشملهم حكمها نتيجة للتخصيص، على قطعية الحكم في حد ذاته إلا بنص قرآني آخر. فلا ينبغي أن يتم التعامل مع النص القرآني الذي تم تخصيصه بالسنة على أنه ظني الدلالة، فتتم مساواته مع سنن الآحاد، والقياس الظنيين. ووجه ذلك أن أحكام القرآن المتصفة بالمرونة والاتساع، هي محل الاجتهاد والاستنباط، كلما أريد استنباط الحكم منها، ليناسب ظروفا اجتماعية ومكانية مخصوصة، وزمانا بعينه، فكل اجتهاد جديد انما هو بمثابة بداية جديدة وكان القرآن قد انزل لتوه في موضوع الاجتهاد.
ويترتب على هذا، أن كل نصوص السنة التي ترتب حكماً على أساس من نصوص القرآن يجب ألا يؤخذ بها كما هي دون نظر، بل ينبغي أن تكون محل اجتهاد جديد، بما يتناسب مع الظروف الاجتماعية والزمانية والمكانية الجديدة. كما أن نصوص السنة المتعارضة مع نصوص القرآن لا يجب أن تقدم على النص القرآني الذي يعارضها.
إن النصوص التشريعية الخاصة بالمعاملات الواردة في القرآن أو السنة قابلة للاجتهاد في تطبيقها، سواء تناولت أحكاماً مقدرة كعدد الجلد في الحد،أو أحكاماً محددة كأنصبة القسمة للفيء، أو مصارف الزكاة، أو إحكام الحرب الخ. وذلك بأن يكون الاجتهاد متناسباً مع مقاصد الشارع دون تحايل أو إضرار بالمكلف أو المكلفين، وذلك ما دلت عليه أقضية عمر (رض) وموافقة الصحابة عليها (رض)
تدبر القرآن وفهم المقاصد في الآيات الإمام
الاجتهاد يستلزم تدبر النص المعني، والقرآن كله للوصول إلى ما يرضي الله. ذلك أن عمل المسلم كله عبادة لأنه يريد به وجه الله.. فالنصوصية والحرفية التجزيئية لا تقود إلا إلى التفريط أو إلى الإفراط والغلو.
إن لب الرسالة التي جاء بها الإسلام هو المكون الأخلاقي (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). ولذلك فإننا نرى أن هناك في كل موضوع تناوله القرآن آيات إمام هي التي يرد فيها حكم قيمي أخلاقي وهي من ثم الآيات المحكمة التي لا يلحقها نسخ، ولها دور المفتاح أو الحاكم في الموضوع المعني، وتعرض عليها الآيات الأخرى المتعلقة بذات الموضوع. فالآية الإمام في كل ما يتعلق بالقتال على سبيل المثال هو قوله تعالى (قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( .
لا للقياس والاستحسان والاستصحاب
ورد في الأثر متواترا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن السؤال عن حكم ما سكت عنه الشرع تخفيفا على الناس، وحتى لا يكونوا كالأمم الذين من قبلهم والذين ما أهلكهم إلا كثرة السؤال. فالمسكوت عنه وما يستجد متروك للناس يحكمون فيه على قاعدة أنهم أدرى بشؤون دنياهم . ولذلك فان القياس تنطع وتأله يحجر واسعا ويقرن الحكم في المسكوت عنه بخيار محدود هو حكم شرعي في موضوع آخر، وذلك فعل ما انزل الله به من سلطان. ومد لما يتصور الفقيه انه حكم الشرع على كل نواحى المعاملات والعلاقات المسكوت عنها، وذلك هو التعنت والتعسف والكهنوت بحذافيره.
لا للحيل
ولو رجعنا إلى كتب الفقه لرأينا كيف أجاز الفقهاء تصرفات في البيع والشفعة وغيرها من فقه المعاملات، يعلمون أنها احتيال محض، وطريق إلى تحقيق مآرب لنفوس خالية من تقوى الله ومخافته، ومع ذلك أجازوها بحجة صحتها ظاهراً، ولاتفاقها مع المنطق الكلامي الذي يتبعونه في الاجتهاد والتشريع، وقد وصل ذلك إلى كيفية الحلف باليمين مع نية مختلفة عن اللفظ الذي تم به الحلف.
وهكذا أصبح الفقه لعبة من ألعاب الأحاجي والألغاز والتسالي وأنزل من مكانته السامية كبيان واستنباط لمقاصد الله من التشريع، التي تلزم الإنسان أساساً بتقوى الله ومخافته، واعتبار أحكامه وتشريعاته عبادات تؤدى ابتغاء مرضاته، لا قيودا ثقيلة يحتال المحتالون للتخلص منها، وصولاً إلى تحقيق مآربهم البريئة والدنيئة على السواء.
العبرة باللفظ أو بالسبب
إن هذا الخلاف الذي استعر أواره بين القائلين بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والقائلين بعكس ذلك، إنما هو التعبير الأوضح عن شطط النصوصية إفراطاً وتفريطاً، فكلا الطرفان المتقابلان، يريدان فقهاً ما أنزل الله به من سلطان.
المقاصد بينة في الآيات المحكمة
والحال أن فقه نبي الله صلى الله عليه وسلم واجتهاداته ثم اجتهادات الخلفاء الراشدين من بعده دلتنا على أنه لا عبرة مطلقة بكليهما. وأن الأمر يتعلق بفقه آخر لا علاقة له بالنصوصية، وهو فقه مقاصد التشريع الذي لا يمكن استنباطه وفهمه إلا على أساس من عرض الآيات التي تخص أي موضوع على الآيات المحكمة، ذلك إن فيها مقاصد التشريع.
مثال نبوي
زنى رجل وأراد أن يتطهر بإقامة الحد عليه، وقد كان مريضاً مرضاً لا يرجى له شفاء منه، ومن واجب الحاكم إقامة الحد إذا بلغه لأنه حق من حقوق الله، ومن جهة أخرى فإن ضرب المريض قد يؤدي إلى قتله في أمر لا يوجب القتل، فأمر الرسول بجمع مائة شمراخ من جريد النخل وضربه به ضربة واحدة.
من هذا نرى كيف يكون الاجتهاد الذي يقيم حدود الله ويرعى حقوق الخلق بلا مداهنة أو تزييف او حيلة، وذلك هو المخرج نفسه الذي وصفه الله لسيدنا أيوب فقال تعالى: «وخذ بيدك ضغثاً فاضرب ولا تحنث» والضغث هو القبضة من العشب.
مثال من عمر
اجتهد عمر فقضى بعدم قسمة أراضي سواد العراق والشام، وجعل رقبة الأرض لبيت المال، على أن تقسم غلتها، مع أن النص القرآني قد حدد الأنصبة في الفيء، ولكن عمر (رضى الله عنه) اجتهد أن القرآن ينص على أن لمن بعدهم من المسلمين حقاً، فرأى في تقسيم الأرض التي قد لا يغنم المسلمون مثلها مرة أخرى، افتئاتاً على حقوق من بعدهم، فاجتهد هذا الاجتهاد الموفق، وقد علم الصحابة هذا الفهم الصحيح لأسس الاجتهاد، فلم يعترضوا على ذلك ولا على إيقاف عمر العمل بسهم المؤلفة قلوبهم، مع أنه نص عليه القرآن. وكذلك وافقوه على إمضاء الطلقات الثلاث في مجلس واحد، ولم يعترضوا على منعه متعتي النساء والحج. وهكذا فإن فقه المقاصد الذي ينبع من ورع لا عن ممالأة لظلمة هو الفقه الذي يمثل روح الإسلام وتعاليمه السمحة.
وتدل اقضية عمر (رضى الله عنه) انه لا يمكن الحديث في فقه المعاملات عن معلوم من الدين بالضرورة أو قطعيات لا يمكن تبديلها، ذلك أن تشريع المعاملات كلها أحكام معللة تدور مع العلة وجودا وعدما. وان الحديث عن القطعيات والمعلوم من الدين بالضرورة إنما يكون في العبادات وفيما ورد عن الغيب كاليوم الآخر وأخبار الخلق والمعاد والأمم السالفة، والأوامر والنواهي القيمية المتعلقة بالأخلاق ..الخ.
النصوص والإجماع
عرف الإجماع بأنه اتفاق جميع مجتهدي عصر من العصور في الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في مسألة من المسائل. وملخص ما قيل في حجية الإجماع، هو أنه إذا اتفق حكم جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور، صار هذا الاتفاق والإجماع دليلاً قطعياً على الحكم واجب الإتباع. إما إذا لم يكن هناك إجماع تام فإن ذلك الحكم يعتبر دليلاً ظنياً يصح للمجتهدين مخالفته، إلا إذا رأى ولي الأمر إتباعه فيصبح واجب الإتباع. ومن نافلة القول الإيضاح بأن الاجتهاد عموماً قام على الاستهداء بأحكام الشريعة ومقاصدها في فهم النصوص وكيفية تطبيقها، وكذلك فيما لم يرد فيه نص صريح واستنباط الحكم اجتهاداً حسب رأي المجتهد وأغلب ظنه.
وهذا التعريف للإجماع وحجيته يحجر على مجتهدي العصور اللاحقة الاجتهاد في حكم قضية من القضايا التي أجمع عليها مجتهدو عصر سابق عليهم. وذلك في رأيي لا يتسق مع مقاصد الشريعة وروح الشريعة، بل ولا مع نصوصها التي نعت على الذين قالوا: «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا».
ولهذا أرى أن الاجتهاد فيما أجمع عليه السلف، واجب على مجتهدي كل عصر لاحق. فذلك أبرأ لذممهم وأحوط لدينهم، فلا يرفعون - وهم المجتهدون - اجتهادات غيرهم من البشر إلى مرتبة القرآن والسنة، جاعلين من تلك الاجتهادات أدلة قطعية على الأحكام، واجبة الاتباع ملزمة للمسلمين في كل عصر ومصر، دون نظر، فذلك رأي فاسد لا يصح عقلاً ولا نقلاً. ولا مكان هنا للاحتجاج بحديث المصطفى عن خيرية القرون الأولى، لأن من وصله اجتهاد خاطئ أو موضوع عن طريق نقل من النقول الموضوعة، وما أكثرها، وهو يظن صحته أينفعه ظنه؟ وقد عطل عقله لم يبذل جهده؟ أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على خطأ) وقوله: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، فهذان الحديثان الشريفان لا يقصران أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول، ولا المسلمين في الحديث الثاني، على أهل عصر من العصور، بل هما يعمان ويعنيان أمته من المسلمين إلى قيام الساعة.
ومن هنا أقول أن إجماع أهل كل عصر لا يكون ملزماً إلا لأهل ذلك العصر. إلا إذا أقره إجماع مجتهدي عصر آخر فيكون ملزماً لأهل ذلك العصر أيضاً.. وعلى أي حال فإن أئمة المذاهب ما عدا مالك وأبي حنيفة قد استبعدوا إمكانية الإجماع؛ فكان الشافعي يطلب ممن يحتج بالإجماع أن يثبت حصوله. بينما كان ابن حنبل يقول: «إن مدعي حصول الإجماع كاذب». أما ما لم يرد فيه نص فليس اجتهادا في الشريعة بل هو عمل تشريعي لا علاقة له بالدين إلا من حيث توخي مكارم الأخلاق التي أمرنا بها وتجنب الرذائل التي نهينا عنها.
والخلاصة أن الدين جد لا هزل فيه، وهو أعظم الأمور ويحتاج إلى جهود خيرة وعقول نيرة، لكي يكون كما أراده الله هادياً وقائداً إلى رضا الله.
الاستحسان والغلو
كان كل من القياس والاستحسان مناهج اجتهادية، إلا أن الاجتهادات اتسمت بسمات أصحابها فمن كان مزاجه متشدداً ورأيه في الناس سيئاً، تشدد وحرم كثيراً من المباح والمتشابه بحجة سد الذرائع، ومن كان مزاجه رائقاً معتدلاً ورأيه في الناس حسناً أباح وسهل، وهكذا رأينا في كتب الفقه أحكاماً للمذاهب في قضية واحدة، تتفاوت بين القتل والتعزير الخفيف عقوبة على الفعل نفسه، كناكح الدابة مثلاً، بل أن الأحكام تعدت الناس إلى الدواب بين القتل والترك.
ولقد كانت النصوصية أحد أهم أسباب هذا التفاوت الذي لا يعقل، فهل يستوي القتل وبعض الضربات بالعصا حكماً في قضية واحدة؟ ومثل هذا كثير في مذاهب الفقه المختلفة.
نصوصية المذهبيين
ومن النصوصيين من جعلوا اجتهادات أئمة مذاهبهم في مرتبة القرآن والسنة رغم ظنيتها، وتعصبوا لها تعصباً شديداً لا يأتيه من له ذرة عقل أو أدنى فهم للإسلام.
القتل تعزيراً
كان هذا الفهم المغلوط الذي ذكرنا، قد فتح باباً عظيماً من أبواب الظلم في حياة المسلمين، أباح للحكام وأكثرهم ظلمة، دماء الناس عدواناً باسم التعزير.
وقد كانت حجة من أباح القتل تعزيراً ردهم لحديثين صحيحين بحجة نسخهما وهما: «من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين ». وعدم التزامهم في التعازير بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة».
وهكذا انتشر الظلم والظلام، والاستهتار بالدماء وحقوق الإنسان، في ديار الإسلام، حتى سلط الله على الأمة أعداءها بما كسبت أيديهم من ظلم وجور..عندما امتلأت السجون بالمعزرين، حتى شاعت في القصص والروايات عبارات مثل: (كتب على قيده مخلد) إلى آخر صفحات الجور الذي تقشعر له الفطرة السليمة.
ولوحق الناس وسفكت دماؤهم بسبب من اجتهاداتهم الفكرية؛ ومع أن كثيراً منها منحرف عن الجادة، فإنها مهما تكن، اجتهادات على أي حال.