ولما ولي الخلافة سليمان بن عبدالملك، وكان مشهوراً بنهمه إلى الطعام، واهتمامه باصنافه وطبخه وموائده. أصبح الناس كذلك في عهده، منشغلين بالطعام وألوانه وأصنافه، ومن هنا قيل (الناس على دين ملوكهم).
ولا عجب إذن أن ينتشر بين اليمنيين في هذا العهد، الاعتداء على أموال الدولة، وأموال وحقوق الضعفاء، وأن يجعل كل منهم وظيفته الرسمية دكاناً يسخره لأغراضه الخاصة. إضافة إلى شيوع التزمت وقسوة القلب، وسوء الطبع وانتشار استخدام القوة والاغتيال لاتفه الأسباب، مع عدم التورع عن ملاحقة الريال والدولار بغض النظر عن مصدره حلالاً ام حراماً، وشيوع الكذب، وإخلاف الوعد بين الناس، وتقلص مساحة المعروف، وازدياد مساحة المنكر، ولجوء الناس إلى العصبيات، والتذاذهم بالكبر والتجبر على من هو اضعف منهم، وكثرة النفاق والتظاهر، وغلبة المظاهر الكاذبة على صدق الجوهر وصلاح الباطن، وازدراء العلم والثقافة، وشيوع الضحالة والتفاهة، والصوت العالي، فالناس على دين ملوكهم. و ذكرت كتب التاريخ بتفصيل كبير كيف تحولت ولاية الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان إلى رحمة للعالمين على الرغم من قصر مدتها التي لم تبلغ الثلاث سنوات. وقد قيل أنه ما أن عف هذا الحاكم الصالح عن الحرام حتى عفت الرعية وحذت حذوه، حتى أن الرجل كما قيل كان يخرج بصدقته وينادي على من يأخذها فلا يجد. وانتشر الأمان والسلام والقى الخوارج السلاح، وعم العدل، وصدق التدين، وضاقت المساجد وحلقات العلم بروادها، ورخص السعر لشيوع الأمانة والقناعة في الناس.. فالناس على دين ملوكهم.
شهد اليمن مصداق ذلك في تلك الالتماعة القصيرة الباهرة لعهد الرئيس المغدور الشهيد إبراهيم محمد الحمدي.. فقد جاء إلى السلطة في وقت اقتسمت فيه مراكز القوى القبلية وحدات القوات المسلحة، فأزاحها جميعها وأعاد بناء الجيش اليمني، ووجه عنايته إلى الإدارة الحكومية عبر برنامج التصحيح المالي والإداري، فأقام اعوجاجها، وانتظم الموظفون في اعمالهم يؤدونها بتفان واخلاص، وجعل من الأجهزة الأمنية أجهزة حقيقية نزيهة وفعالة، فاختفت ظواهر الرشاوى والأجرة، وقمعت الجريمة والفساد بكل مظاهرهما، واطلق شرارة البناء والتعمير بأيدي المواطنين في حركة التعاونيات الكبيرة. وقد بلغ من طاعة الناس له لثقتهم به أن قبلوا منه أن يحدد مهور بناتهم، واضاء الأمل واشرق في الوجوه بمستقبل واعد، واستقامت أحوال الناس، فالناس على دين ملوكهم. ولكن هل صلاح الحاكم كاف لاصلاح الاوضاع في البلاد وهل يؤدي تطبيق صارم للقوانين الى ذلك؟
في كتابه “الاعتماد على النفس “ كتب صامويل سمايلز يقول: “القانون مهما أوتي من قوة لا يستطيع أن يحيل الكسول إلى إنسان جاد نشط، ولا المبذر مقتصدا ، ولا السكير معتدلا وقورا. هذا على الرغم من أن كل امرئ يمكنه أن يكون هذا أو ذاك أو كلهم جميعا إذا أراد ، وإذا مارس قواه الخاصة وقدراته الذاتية على العمل وإنكار الذات.
حقا إن كل الخبرات تؤكد أن قيمة الدولة وقوتها ليست رهنا بصورة مؤسسة لها بقدر ما هي رهن بخصائص أهلها، ذلك لأن الأمة ليست سوى جماع الظروف الفردية والحضارة ذاتها إنما هي مسالة تقدم شخصي.. . وحسبما يقضى به نظام الطبيعة فإن الطابع الجمعي لأمة من الأ مم يبلغ غايته الملائمة له يقينا في قوانينه ونظام حكمه تماما مثلما يبلغ الماء منسوبه. فالكرماء يساسون بطريقة كريمة والجهلاء الفاسدون يخضعون لحكم فاسد جهول. حقا إن الحرية تطور أخلاقي بقدر ما هي تطور سياسي-إنها ثمرة عمل وطاقة واستقلال فرد حر . ور أيي انه لا يهم كثيرا كيف يكون طابع الحكم الخارجي الذي يخضع له الفرد بينما كل شيء رهن بالكيفية التي يسوس بها المرء نفسه من باطنه.
ان أكبر عبد ليس من يحكمه طاغية مستبد، على خطورة هذا الوضع الأليم، بل من يسترقه جهله الأخلاقي وأنانيته ورذائله. وكم كان هناك وربما لا يزال يوجد من يسمون مواطنين ثوريين يؤمنون بان أقوى جهد من اجل الحرية هو قتل طاغية ناسيين أن الطاغية يمثل عادة وبأمانة شديدة ملايين البشر المحكومين له.
ولكن الأمم التي أضحت مستعبدة في أعماق نفوسها لا سبيل إلى تحريرها بتغييرسادتها أو مؤسساتها فقط ولا شيء آخر. وطالما ظل هذا الوهم القاتل سائدا، والذي تتوقف الحرية عليه وحده دون سواه ، متمثلا في الحكم ستظل مثل هذه التغييرات مهما كان الثمن إالذي يتكبده المجتمع لاجل انجازها ذات قيمة عملية ضئيلة شانها شان مركب الأوهام المتحركة. إن الأسس الصلبة الراسخة للحرية لابد أن ترتكز على طبيعة شخصية الفرد فهي أيضا الضمان الوحيد الأكيد للأمن الاجتماعي والتقدم القومي.
فها هنا مكمن القوة الحقيقية للحرية .
الاناس يشعرون انهم أحرار، ليس فقط لأنهم يحيون في ظل تلك المؤسسات الحرة التي أقاموها بكدهم وجهدهم، بل لأن جوهر الموضوع تأصل بدرجة أو بأخرى في نفس كل عضو من أعضاء اﻟﻤﺠتمع الذي يكون أعضاؤه جميعا مستمرون على الدرب مؤمنين إيمانا قويا بحريتهم ويستمتعون بها. إنهم لا يستمتعون بحرية التعبير فقط ، بل يستمتعون كذلك بحياتهم الراسخة وعملهم النشيط كأفراد أحرار” ، وعند هذه النقطه لا بد من التساؤل عما نعنيه يصلاح الاوضاع؟ لقد كتبت ذات مرة اقول : “ يحتاج اليمن إلى السيطرة على شروط بقائه واستمراره، ومواكبة متغيرات الحياة، وتعميق الأداء الاجتماعي، وإذكاء روح الاستنارة والنهضة والإصلاح والتحديث. ولاجل ذلك لابد من طرح مشروعات متعددة طموح في مختلف المجالات، تجمع الأحلام والرؤى البناءة إلى الدراسة الواعية العلمية».
ويبدو لي اليوم ان القيادة لابد ان تتوفر على مشروع طموح واهداف ضخمة تكرس نفسها لتحقيقها، هذا الى جانب ما رآه أرسطو من ضرورة اتصاف القيادات بالاخلاص لنظام الدولة، والكفاءة لاداء مهام وظائفهم، والفضيلة والعدالة بما يتفق مع نظام الدولة.
وخلال الخمسين عاما الماضية حققت دول كثيرة نجاحا مرموقا في التنمية بفضل مزايا قياداتها، على الرغم من اختلاف انظمة الحكم والثقافات وتوفر الموارد الطبيعية أو شحتها وذلك لتوافر تلك الشروط فيها. وإذا تمعنا في أسباب النجاح الذي تحقق، لوجدنا أن هناك عوامل ستة على وجه الحصر هي:
وجود دولة لكل مواطنيها يسود فيها القانون بغض النظر عن جوره أو عدالته، ومواطنة متساوية امام القانون، وتكافؤ في الفرص، تحقق الشعور بالرضى عن الدولة لدى المواطنين.
استقرار سياسي نسبي ينجم أساساً عن انتهاج سياسات خارجية براجماتية واقعية.
إنفاق حصيف ومصادر تمويل كافية أدت إلى تراكم جيد للرأسمال حيث لا موارد.
برامج تعليم ممتازة وفرت قدرات تقنية جيدة.
تركيز على الأولويات الصحيحة وهي البنية التحتية (مواصلات، اتصالات، موانئ، كهرباء، مجار... إلخ.) ثم الزراعة والصناعات الخفيفة التصديرية، ثم بعد توفر الشروط اللازمة الدخول في الصناعات الثقيلة أو التقنيات المتقدمة أو كليهما معاً.
انتهاج سياسات اقتصادية هي مزيج من التخطيط واقتصاد السوق.