تشكيل الشخصية وبناء الهوية يتم عن طريق التاثير الاجتماعي والتلقين الثقافي. ويلعب الدين اكبر الادوار في ذلك ، في المجتمعات الاسلامية، بحيث تتمحور الشخصية حول تعاليمه. وضمن اطار الدين نفسه تتم عمليات غسل الادمغة التي تمارسها المنظمات الاسلاموية مستخدمة البنية القوية في اسلوب التاثير الديني القائم على تكرار الاذان (الشعار) والآيات (التعاليم) والصلوات (الطقوس البدنية). وحسب دوركهايم « فان الامة التي لا علوم لها يكون الدين علمها الوحيد» .وبغياب القراءة والتفكير الحر المستقل يصبح غسيل ادمغة القطعان الجاهلة من اسهل الامور واكثرها فعالية، وذلك بتضمين منظومة التلقين الديني الفعالة افكارا منتقاة بعناية لزرع افكار الحركة او الجماعة، سواء لتبرير سعيها نحو الحكم والسيطرة كما تفعل جماعة الاخوان، او لزرع العداء والبغضاء وتبرير القتل والاعتداء باسم الله كما يفعل الوهابيون ومنتجاتهم كالقاعدة.
بمجرد وصول الاخوان الى السلطة عبر الانتخابات ارادوا، كحزب شمولي، السيطرة على مفاصل القوة والثروة في مصر وفرض انفسهم وتوجهاتهم عبر اخونة الدولة، من اجهزة الثقافة والاعلام والتعليم الى أجهزة الشرطة والقوى المسلحة، الى القضاء وشؤون المال والصناعة والتجارة، الى العمل الاجتماعي العام والاتحادات والنقابات...الخ.
وقد بدا لهم ذلك أمرا طبيعيا فقد فعله قبلهم الاخوان في السودان، وفعلته الانظمة القومية في كثير من دول العالم العربي واولها مصر، وفعله البعثيون في سوريا والعراق ، وفعله الماركسيون في جنوب اليمن ...الخ. وكلها أحزاب شمولية (توتاليتارية) أنشأت انظمة شمولية وسيطرت على مجتمعاتها لفترات امتدت عقودا بنجاح، فلماذا فشل الاخوان في مصر؟
أن تفرض توجها وحيدا على مجتمع ما امر لايمكن تحقيقه الا بالقوة والعنف، وقد جاء التوتاليتاريون الى الحكم في كل تلك الانظمة من خلال الجيش الذي تمكنوا من السيطرة عليه اولا قبل كل شيء آخر، بينما افتقر الاخوان في مصر الى تلك السيطرة على اداة القمع والعنف الكبرى وهي الجيش. وقد ادى عدم ادراكهم لهذه الحقيقة البسيطة، وهي ان السيطرة الشمولية لا تتم الا بالقوة، الى رفض فعال من كل قوى المجتمع عسكرية ومدنية ودينية لمحاولاتهم للهيمنة التي تهددهم جميعا بالاحلال او التهميش، فتمكنت قوى الدولة والمجتمع التي احست بالتهديد من اسقاطهم بسرعة قياسية في الخروج الكبير في 30 يونيو.
تقوم الانظمة الشمولية على التغلب والهيمنة عبر السيطرة على وسائل القمع ومفاصل القوة والثروة في المجتمع من قبل أقلية لا تحوز تفويضاً شعبياً واضحاً، أو لا تنوي تداول السلطة حتى ولو وصلت اليها بتفويض شعبي كما هو الحال في مصر. ولهذا فإنها تعمل على السيطرة على كل القنوات الشرعية وغير الشرعية التي يمكن أن تحدث تصحيحاً أو تغييراً في النظام.
ولمنع ذلك تعمد الانظمة الشمولية إلى السيطرة على مفاصل القوة والثروة وكذلك على وسائل الإعلام تحسباً من إثارتها للاحتجاجات بما تنشره من حقائق وفضائح قد تؤدي إلى الثورة المسلحة، أو الانقلاب العسكري، أو الاحتجاجات الانقلابية للشارع.
ولهذا فان الشموليين نقيض للديمقراطية والديمقراطيين.
وبينما نرى في المجتمعات الليبرالية الغربية أن أي فضيحة سياسية أو فساد، أو خروج على القانون، يتم الإعلان عنه دون تردد أو قمع، ومن ثم طي صفحاته إعلامياً، وترك تداعياته للقنوات الشرعية الدستورية والقانونية، نجد أنظمتنا الشمولية تخشى من إعلان هذه الأمور، وتقمع كل محاولة للإعلان عنها، وتعمل على إبقائها طي الكتمان، حتى أن مواطنينا يلجؤون إلى الإعلام الأجنبي بغرض الاطلاع على ما يجري في وطنهم ومدينتهم.
ولذلك يتراكم الفساد والأخطاء في البلدان التي تحكمها انظمة شمولية، وقد تتعطل التنمية، وبينها ومن جرائها الاقتصاد، وتتدهور معيشة الشعب، وصولاً إلى دورات العنف المتكررة، لأن السلطة تفرض نظام الحكم والمنتج الثقافي والسلعة والخدمة بالقوة.
يغيب القانون وتتحكم الأجهزة الأمنية والمحاكم الاستثنائية ويعطل القضاء، فيعم الخوف أول ما يعم موظفي الدولة، الذين يصبحون هدفاً للتطهير العنيف والأقل عنفاً، ويتردد مصيرهم بين الموت والسجن والتعذيب، والفصل من الخدمة والتشريد.
فتتعملق حثالة من الناس ملئت حقداً، تستغل مثل هذه الأوضاع الكريهة المخيفة لتقدم خدماتها إلى أولي الشأن، وشايات ونميمة وتجسساً، ويصبح لهؤلاء الجبناء الخبثاء هيبة ومكانة، فتنقلب الأوضاع، ويصبح الطريق إلى علو الشأن والمكانة في المجتمع سيئ الخلق وأرذله، الذي يقترن عادة بالجهل، وحتى الأمية ويهان العلماء وذوو الخبرة والعلم، ويتسلط عليهم الجهلة، ويقود الخوف والرعب أكثرهم إلى وهاد من الخلق لا تليق بإنسان متعلم وقدير، لو كان وادعاً آمناً في سربه، فتصبح النكبة نكبتين، أو بالأحرى ثلاثاً:
نكبة في شأن القيادة التي انحدرت إلى مستوى العصابات.
ونكبة في الإدارة التي يتحكم بها أراذل كالوشاة والنمامين وكتاب التقارير.
ونكبة في أخلاق النخبة من ذوي العلم والخبرة، الذين ينحدرون مضطرين إلى مهاوي التزلف والملق، وكل ينتظر فرصة للخلاص بالهجرة إن أمكنته الهجرة من هذا الجحيم، والتي تصبح الطريق الوحيد لخلاص أمثاله من الأحوال المعوجة، فتشرع البلاد في الخلو من أفضل كوادرها، ومقدرات أبنائها لتصبح خراباً بلقعاً تنعق فيه الغربان والبوم.. ويبدو ان المصريين الذين جربوا مرارة الحكم الشمولي لعقود لم يتمكنوا بعد من فهم خطر الجماعات والاحزاب الشمولية ولهذا انتخبوا الاخوان.
ولا يزال الكثيرون منهم يؤيدون السلفية الوهابية والناصريين والشيوعيين الذين لم ينقدوا تجاربهم اويقطعوا مع فكرهم وماضيهم الشمولي....؟.
لقد كان المصريون محظوظين هذه المرة لان الاخوان التوتاليتاريون لم يكونوا مسيطرين على اجهزة القمع والقوة فأمكنهم ازاحتهم من السلطة ، ولكن عليهم الحرص على عدم اتاحة الفرصة لاي حزب شمولي او اي مرشح ينتمي الى حزب شمولي للوصول الى السلطة عبر الانتخابات في المستقبل، ورفض اي محاولة للانقلاب العسكري.
وبذلك فقط يحصلون على الدولة المدنية الديمقراطية ويحافظون عليها. وتلك هي معركتنا كبشر في كل الاقطار العربية.