أصبح التمثال قاعدة بلا رأس، مثل مصر التى أصبحت شعبا بلا قائد، وأمة بلا زعيم ورصاصات بلا هدف، ومثل ثورتنا التى داستها الأقدام ولوثها الأقزام، ومثل المنيا «عروس الوجه القبلى» التى أصبحت وجها مشوها وجسدا متآكلا، يضربها الجهل ويفتك بها التعصب والفقر والمرض، ومثل حلمنا الذى مازال يتلقى الطعنة بعد الطعنة فيجثو حينا ويصحو حينا، ومثل حكومتنا التى لم تر فى صعيد مصر غير ثدي ملوث ونساء تغتصب فى الحقول.
المؤلم فى الأمر أن سرقة هذا الرأس ما هى إلا تجسيد لتلك الحالة المتدنية من الفقر والإفقار، وما هى إلا نذير لثورة الجياع التى إن وقعت ستأكل اليابس والأخضر، فقد وقعت الواقعة أمام استراحة للمحافظ وليس فى شارع جانبى، كما أن السارق «نشرها بمنشار» أى أنه مكث يجتثها ما يقرب من النصف ساعة، وكل هذا ولم ينتبه أحد، تماما كما لم ننتبه لهذا النزيف المر فى آثارنا، كما لو أن هناك شيطانا يخطط لقطع رأس مصر وتاريخها بالجهل مرة والجوع مرة والتعصب مرة، وكأنى أسمع نزار قبانى وهو يقول لطه حسين يرثوه مرة أخرى:
يا أميرَ الحُروفِ.. ها هىَ مِصرُ
وردةٌ تَسـتَحِمُّ فى شِـريـانـى
تَسـتَبِدُّ الأحـزانُ بى ... فأُنادي
آهِ يا مِصْـرُ مِـن بنى قَحطـانِ
تاجروا فيكِ.. ساوَموكِ.. استَباحوكِ
وبَـاعُـوكِ كَـاذِبَاتِ الأَمَـانِـى
حَبَسـوا الماءَ عن شـفاهِ اليَتامى
وأراقـوهُ فى شِـفاهِ الغَـوانـي
تَركوا السّـيفَ والحصانَ حَزينَيْنِ
وباعـوا التاريـخَ للشّـيطـانِ
يشـترونَ الدُّنيا.. وأهـلُ بلادي
ينكُشـونَ التُّـرابَ كالدّيـدانِ..
آهِ يا مِصـرُ.. كَم تُعانينَ مِنـهمْ
والكبيـرُ الكبيـرُ.. دوماً يُعاني
آهِ يا سـيّدى الذى جعلَ اللّيـلَ
نهاراً.. والأرضَ كالمهرجانِ ..
اِرمِ نـظّارَتَيْـكَ كـى أتملّـى
كيف تبكى شـواطئُ المرجـانِ
اِرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنـتَ أعمى
إنّمـا نحـنُ جـوقـةُ العميـانِ