كان لصاً محصناً إن تولى
وطنيا إذا غدا مستقيلاً
نبوغ عبدالله البردوني.. ذائع، وإلماحه الشعري شائع وهزؤه الفني ساطع سطوع الشمس من خلف الجبال الشوامخ، ونبوءاته ترى ما وراء الأفق البعيد وتنفذ إلى أسوار مراكز صنع القرار البعيد، وبنية حواضن الوعي الشعبي لتوجز لنا خلاصة ما سيطفو على سطح الواقع بعد عقود زمنية قادمة في دلالة أن الشاعر العظيم هو أسمى وأرفع من كل الرؤساء والوزراء وأساطين المال وزعماء التطبيل وفرسان التجهيل لأنه يرى ما لا يرون ويستبصر ما لا يستبصرون ، وينفذ إلى ما لا ينفذون ويستنتج ما لا يستنتجون .. إنما يقرون عظمته وسبقه بعد عمر طويل أحيلوا فيه إلى المعاش ، أو كانوا في أقبية السجون ، أو متسكعين على أرصفة المنافي.
ولنتأمل مفتتح هذا المقال الناضح بالحكمة النافذة والدلالة البردونية المعبرة عن نضج أدبي وحس وطني وصدق فني وعمق إنساني وشجاعة نادرة.
هو شاعر من طراز العمالقة العرب الكبار ، بل كان آخر عنقود في شجرة الشعر العربي الكلاسيكي، وقد وصف د. عبدالعزيز المقالح شعر البردوني بأنه عبارة عن قنينة عطر فرنسي في متحف التاريخ الأدبي المعاصر.
اختار البردوني أن يقف بجانب الشعب: الفئات الشعبية الكادحة المحرومة وجعلها مصدر الهامه ومفجر طاقاته ،وأيقونة عطاءاته، انحاز دوماً إلى صف الفقراء منتصراًً لقيم الحق والخير والصدق والجمال والحب.
هنا يختلط البعد الاجتماعي بالسياسي.. مراكز صنع القرار التي تصنع الفساد وتفرخ الإجرام ( لصاً محصناً) سلطة فاسدة تحيط المسؤولين اللصوص بأسيجة قوية من الحماية بحيث لا تستطيع يد القانون أن تقترب منه بسبب (التحصين) طبعاً ليس التحصين الصحي للأطفال.
في قول الشاعر: ( إن تولى) إيحاء خفي من الرائي كأنه يقول: لا ولاهم الله علينا وعليكم لسوء مخازيهم وفظاعة بلاويهم وأليم مكاويهم وظلمة مهاويهم التي تختزن الأقوات المسروقة من أفواه الصغار وعندما تتصادم المصالح يعاقب التجاوز ، ويفرض منطق التغيير نفسه فتقذف الأحداث بهذا النوع من المستبدين اللصوص إلى خارج مربع النفوذ والمنجهة والتجبر إلى شوارع الحياة العامة للناس البسطاء مع احتفاظ أكثرهم أو بعضهم بما نهبوه من ملايين. هذا النوع يضيق ذرعاً بالمكان الجديد، ويتغير الجو عنده ويشده الحنين الجارف إلى السلطة والتسلط والهبرات والصفقات وأضواء الإعلام ومختلف الامتيازات، ولم يفكر أن التسامح المائع حال دون محاكمته ويرتب خطوات العودة. فرغبات الجشع تظل تداعبه ليرجع حيث كان إلى مركزه الذي قهر الناس من خلاله وقصم ظهورهم ويحاول ارتداء مسوح الشرفاء وترديد شعارات أو مقولات القادة والمناضلين والتشدق بالمعاني الوطنية النبيلة التي لطالما حاربها بضراوة وفتك برجالها أو أذل ناشطيها أو أودعهم غياهب السجون.
هذا النوع موجود في غير مكان .. والإقالة أو الاستقالة تجعله أكثر وطنية وأحد انتقاداً لسلبيات أو خطايا نظام كان أحد أركانه، وجه آخر، حديث مختلف لهجة ودودة، كلمات معسولة، نبرة مصطنعة بمهارة التأثير في الآخرين بالمفردات الوطنية وشعارات التغيير، ونسج الوعود الوردية لمستقبل ما بعد انتخابه أو فرضه ضمن منظومة كلامها جميل، وشعاراتها خداعة ولأن من طبائعنا البساطة والنسيان.. ينخدع بهذا النوع كثير من البسطاء والسذج ويساعدونه على التسلق على ظهورهم للعودة به مرة أخرى متناسين أن التجريب بالمجرب خطأ مرتين.. يرجع حيث كان في فريق القلة الظالمة الغاشمة.
هنا تتجلى أكثر سخرية البردوني .. بوجود التناقض بين صورة الفاسد عندما يكون لصاً في الوزارة، ثم وطنياً بعد إقالته، والحقيقة أن ذيل الكلب عمره ما انعدل. مفارقة صارمة يتنزعها الشاعر من رحابة الواقع الاجتماعي المعيش، ويقدمها في قالب فني مقبول ناضح بالازدراء معتمداً على التكثيف، ومتكئاً على الإيجاز .. بالألفاظ القليلة الحمالة معاني كثيرة شيء أشبه بلمعان البرق يوصل أكثر من رسالة ومع ذلك لا مناص من الاعتراف أنهم متواجدون معنا يتحركون بيننا بأقنعة مختلفة، و لتوضيح هذه النقطة أكثر.. التكثيف والإيجاز.. نشير إلى أن البردوني ينتقد السلطة أو القوى المتسلطة المتسربلة بالدين في خطابها الجماهيري متخذة منه ستاراً لتنفيذ مآرب خاصة في حين تخفي تحت ثيابها (باخوس) المرموز له بإله الخمر عند الرومان. أسمعه وهو يقول في قصيدة (ليلة من طراز هذا الزمان) في نبرة ساخرة موجزة ومكثفة:
بفيها سورة الأعلى
وتحت قميصها باخوس
ولا تعليق آخر.
وفي قوله: “وطنياً إذا غدا مستقيلاً” إشارة إلى العدالة الغائبة والمحاسبة الهاربة لأن موقع هذا النوع وراء القضبان لا مسيرات الشوارع بدون هدف وطني ولا ندوات التحريض والفتن، ثم أن البردوني دلل على عامل السرعة في التحول باستخدامه لفعل (غدا) مما يوحي أن هذا الفاسد كان في الليل في موقعه الباطش وحينما أطيح به أصبح (غدا) في الصف المعارض الوطني الشريف وكثير أمثاله يركبون الموجات وبارعون في التأقلم. لكن إلى حين.
لقطات
- تنبيه من الرائي إلى أن نأخذ حذرنا من أولئك الانتهازيين: تجار السياسة وصناع الأزمات، وراكبي الموجات .
- في شعر البردوني إدانة قوية للوضع المزري وانتقاد ساخر للضبابية والازدواجية وتجهيل الشعب ، وعدم وضوح الرؤية لمسار الطريق الصحيح.
- البردوني ( يمتلك رؤية سحرية نفاذة ونبوءة مستقبلية تخترق الموانع والحدود).
- محمد القعود-
- قتالهم بصورايخ الكلام .. يا أبواق الإعلام صدقت يا بردوني حين قلت ذات يوم:
وقاتلت دوننا الأبواق صامدة أما الرجال فماتوا ثم أو هربوا
آخر الكلام
لعيني أم بلقيسي فتوحاتي وراياتي
وأنقاضي وأجنحتي وأقماري وغيماتي
لها تلويح توديعي لها أشواق أوباتي
أشرق وهي قدامي أغرب وهي مرآتي
إليها ينتهي روحي ومنها تبتدي ذاتي
- البردوني-