
عمّان/ 14 اكتوبر / خاص:
اخُتتِم أمس المؤتمر الخامس رفيع المستوى حول السلام النسوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، بعد ثلاثة أيام من الحوار البنًاء، والعمل المشترك، والتفكير الجماعي حول مسارات السلام العادل والمستدام.
جمع المؤتمر قيادات نسوية، وناشطات، وخبراء وخبيرات إقليميين/ات ودوليين/ات، وممثلي عن منظمات المجتمع المدني والجهات المانحة، لتبادل المعرفة، وتحليل التحديات البنيوية، وصياغة توصيات عملية تُسهم في الدفع بخارطة الطريق النسوية للسلام في اليمن، وتعزيز جهود التعافي والتنمية المستدامة.
فضاء مدني يتقلّص… وحركات نسوية تعيد تنظيم نفسها
في ظلّ التقلّص المتزايد للفضاءين المدني والسياسي، وحول الأولويات الملحّة المتعلقة بواقع بناء السلام النسوي في المنطقة، شدّد المشاركون والمشاركات على أنّ تضييق الحريات — من المحيط إلى الخليج — يهدّد البنى المجتمعية ويقوّض مشاركة النساء في الحياة العامة، بما في ذلك دورهنّ المحوري في جهود الوساطة، والإغاثة، وحماية النسيج الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، دعا المؤتمر، في يومه الأول، إلى تعزيز الحوار الشامل وتبادل الخبرات بين الفاعلات النسويات من السياقات المحلية والإقليمية والدولية، وتطوير آليات تنسيق فعّالة مع الجهات المعنية والشركاء الدوليين بهدف دعم وتعزيز الجهود النسوية في بناء السلام. كما تم التأكيد على أهمية إبراز خارطة الطريق النسوية للسلام في اليمن كإطار مرجعي لتشكيل السياسات والبرامج المستقبلية، ونموذج إقليمي يمكن البناء عليه لتعزيز نهج السلام الشامل والمستدام.
وقد وثّق المؤتمر شهادات حيّة حول التهديدات والاستهداف الممنهج الذي تواجهه الناشطات والمدافعات عن الحقوق، مقابل نماذج ملهمة لصمود النساء. ولعلّ أبرز هذه النماذج “ثورة النسوان” التي شهدتها مدينة عدن وعدد من المدن اليمنية في عام 2025، والتي شكّلت محطة فارقة في تأكيد قدرة النساء على قيادة الحراك المجتمعي ومساءلة السلطات.
نحو تنمية عادلة تتجاوز الاقتصاد الاستخراجي
طُرحت خلال المؤتمر سلسلة من التساؤلات النقدية التي قاربت النموذج الاقتصادي العالمي من زاوية جديدة، مسلّطة الضوء على أثره المباشر على البلدان النامية، وعلى النساء والبيئة على حدّ سواء. لم يقتصر النقاش على تشخيص اختلالات النظام الاقتصادي القائم، بل دعا المشاركون والمشاركات إلى إعادة التفكير في مفاهيم التنمية والتعافي بعد الحرب والسلام، بما يفتح المجال أمام تصميم نموذج اقتصادي أكثر عدالة واستدامة. وفي هذا السياق، برزت الحاجة الملحّة للاعتراف بالعمل الرعائي غير مدفوع الأجر الذي تقوم به النساء، ودمجه في الحسابات والسياسات الاقتصادية، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من بنية الإنتاج الاجتماعي.
وخلال اليوم الثاني للمؤتمر، قدّم المشاركون والمشاركات تحليلاً معمّقاً لتحوّلات الاقتصاد العالمي وبروز دور الجنوب العالمي في التمويل والبنى التحتية، بما يكشف عن فرص وإشكالات متشابكة تتطلب تبني نماذج تنموية تتجاوز الاستهلاك المفرط، وتدمج الرعاية والتعليم والبيئة في صميم التخطيط الاقتصادي. وأظهرت الجلسات بوضوح أن مسارات التعافي في اليمن والمنطقة لا يمكن فصلها عن المناخ والاستدامة والتعاون الإقليمي، ولا عن ضرورة إدراج أصوات النساء في مختلف مستويات صنع القرار الاقتصادي والتمويلي.
بهذا المعنى، بلورت الجلسة رؤية للعمل المشترك، من أجل رسم ملامح اقتصاد جديد يعالج جذور العنف، ويعيد توزيع الموارد بشكل عادل، ويضع العدالة البيئية والاجتماعية في قلب أي مشروع للتنمية المستدامة.
الحماية والصمود: ضرورة في سياقات النزاع
في اليوم الثالث للمؤتمر تناول المشاركون الفجوة المتسعة بين التزامات الدولية لحماية النساء و المدافعات عن حقوق الإنسان والواقع في اليمن حيث تواجه النساء استهدافاً ممنهجاً، وإقصاءً من الحياة العامة، وضغوطًا إجتماعية متصاعدة.
وأفضت النقاشات إلى التوافق على جملة من المسارات العملية التي يمكن البناء عليها في المرحلة المقبلة، من بينها العمل على تعزيز آليات الاستجابة الفعّالة التي تضمن توفير الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني للناجيات، إلى جانب تطوير منظومات محلية للإنذار المبكر والاستجابة السريعة بما يمكّن المجتمعات من رصد التهديدات والتعامل معها قبل تفاقمها. كما برزت الحاجة الملحّة إلى إنشاء آلية وطنية مستقلة للرصد والمساءلة، تكون قادرة على توثيق الانتهاكات بشكل منهجي وضمان عدم الإفلات من العقاب، بما يعزّز حماية النساء ويدعم مشاركتهن الآمنة في الحياة العامة.
رؤية مشتركة ومسار إلى الأمام
أكدت النقاشات خلال الأيام الثلاثة أن السلام النسوي ليس شعارًا أو طموحًا نظريًا، بل ممارسة تُبنى من القاعدة إلى القمة عبر العمل المجتمعي، والتضامن العابر للحدود، والاستثمار في الرعاية والحماية والصمود. وفي سياق هذا الفهم المشترك، تبلور اتفاق جماعي على ضرورة تعزيز خارطة الطريق النسوية للسلام باعتبارها أداة استراتيجية تُسهم في توجيه سياسات المانحين وتعزيزالمرافعة الدولية وتحديد أولويات التنمية والحوكمة.
وشدد المشاركون والمشاركات على أهمية توفير تمويل مستدام ومرن للمنظمات النسوية والمجتمعية، بما يمكّنها من مواصلة دورها الحيوي في الوساطة والمناصرة وبناء السلام على المستوى المحلي. كما برزت الحاجة إلى ترسيخ بيئة آمنة وشاملة تتيح للنساء المشاركة السياسية والمجتمعية دون تهديد أو استهداف، وتضمن حماية المدافعات والقيادات النسوية في مختلف المواقع. وانعكس النقاش كذلك على ضرورة دمج مبادئ الاقتصاد السياسي النسوي في مسارات التعافي والتنمية، بما يشمل المناخ والبنية التحتية والاقتصادات العادلة غير الاستخراجية. وأكدت الجلسات في مجملها أهمية تعزيز التعاون الإقليمي في الجنوب العالمي، لإنتاج معرفة نسوية مشتركة وصياغة حلول تتناسب مع تعقيدات السياقات المتأثرة بالنزاع، وتفتح آفاقًا جديدة لسلام عادل ومستدام.
أُختتم هذا المؤتمر بزخم واضح، ورؤية مشتركة، والتزام جماعي بمواصلة العمل من أجل سلام نسوي شامل وعادل، يرسمه النساء والرجال معاً، ويستجيب لاحتياجات المجتمعات المتأثرة بالنزاع، ويعيد تصور التنمية والعدالة من منظور يرتكز على الرعاية، والمساءلة، والإنصاف.
تتوجه منظمة مبادرة مسار السلام بخالص الشكر والامتنان لجميع المشاركات والمشاركين، والشركاء الدوليين والإقليميين، والداعمات والداعمين الذين أسهموا في إنجاح هذا المؤتمر.
ونتطلّع إلى البناء على التوصيات وتحويل كل الأفكار إلى خطوات ملموسة تقود نحو مستقبل أكثر عدالة وسلاماً في اليمن والمنطقة.
