لم يكن القرار سهلاً كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل كان الأصعب في مسيرتي الطويلة مع الكلمة والحرف.
فمنذ عقودٍ وأنا أتنفس الكتابة في الصحف الرسمية والأهلية كما يتنفس الإنسان الهواء، وأعتبرها غذاء الروح الذي لا يستغنى عنه، وسلاحي الذي واجهت به صعوبات الحياة وتحديات المهنة.
منذ سنواتي الأولى في بلاط صاحبة الجلالة، جبلت بقلمي بين الناس، أكتب المقالات والتحقيقات والاستطلاعات الصحفية والأخبار اليومية، أنقل هموم المواطن وأحلامه، معرجا على قضايا التنمية والخدمات والمشاريع العامة، مؤمنا أن للكلمة دورا ورسالة ومسؤولية.
غير أن شيئًا ما تغير في السنوات العشر الأخيرة. أضحى القلم يصرخ في فراغ، والكلمات لا تجد من يسمع أو يستجيب. تكتب وتنبه وتحذر وتدعو للإصلاح، لكن دون صدى وكأن الكلمات تذوب في الهواء.
حينها بدأت أُدرك أن الجهد الذي نحرق به أعمارنا في سبيل المصلحة العامة، قد لا يجد اليوم من يقدر قيمته أو يلتفت إليه. كان ذلك مؤلماً، لأن الصحافة بالنسبة لي لم تكن وظيفة، بل رسالة ومسيرة عمر مع الزملاء الصحفيين.
ومع ذلك، وجدت نفسي أمام لحظة مراجعة صعبة، فقررت التوقف عن الكتابة كاستراحة موقتة مثل غيري من زملاء المهنة. القرار ليس هروبا، بل برهة متعبة بعد رحلة طويلة من الأمل والإصرار.
قرار مؤلم، لأنني أُغادر واحتي التي شكلتني ورافقتني طيلة حياتي، لكني أُدرك أن محطات جديدة قد بدأت، وزمننا نحن الكتّاب القدامى يوشك أن يطوي صفحته.
وربما يكون من الإنصاف أن نفسح المجال لجيل جديد يحمل فكرا مختلفا ورؤية جديدة، لعلهم يعيدون للكلمة بريقها، ويستعيدون للصحافة رسالتها الحقيقية.
أما أنا، فحتى وإن صمت قلمي أسابيع ستظل الكلمة تسكنني، لأن من عاش عمره في محراب الكتابة لا يمكنه مغادرتها تماما.
