شهد التاريخ العربي صعود وزوال دول من أبرزها الدولة الأموية التي اتخذت من دمشق عاصمة لها وانطلقت منها حتى بلغت الأندلس وانهارت على يد مُضطهَديهم العباسيين الذين نقلوا مقر الخلافة إلى بغداد بقيادة أبي العباس السفاح ولم يتعظوا بعبر الأمويين ولم يسلموا من الصراعات حتى بهت الملمح العربي وأصبحت تحت حماية السلاجقة إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي الذي قاد معركة حطين عام 1187 التي كسرت شوكة الصليبيين. بعد هذا الانتصار استعاد صلاح الدين القدس.
إن ما يحدث في غزة والضفة المحتلتين ولبنان وسوريا ليس آخرها وهاهي إسرائيل تحتل جبل الشيخ والمنطقة العازلة الموثقة بقرار وقبول دوليين عام ١٩٧٤ كحلقة في سلسلة التوسع الصهيوني والتدخل الأجنبي في الشأن العربي لإضعافه وإخضاعه واحداً بعد الآخر. وعن الماضي الممتد فإن سوريا رفضت التطبيع وفق الهوى والمصالح الاستراتيجية الإسرائيلية التي قد تتحقق بعد زلزال ٨ ديسمبر ٢٠٢٤.
أثناء لقاء لي بالرئيس الراحل حافظ الأسد لفت انتباهه تأملي لوحة نحاسية كبيرة معلقة على جدار مكتبه تُصور معركة حطين، وقال: “إن العرب حاربوا الصليبيين أكثر من 100 عام حتى أخرجوهم من القدس وغيرها من البلدان العربية، وأن مصير إسرائيل سيكون مثل مصير الحملات الصليبية.” ثم تحدث عن عرض قدّمه له إسحاق رابين، تضمن الانسحاب من الجولان مع الاحتفاظ ببحيرة طبريا، التي قال إن الإسرائيليين “يحبون تبليل أقدامهم في مياهها”، مقابل الاعتراف بالكيان الصهيوني وأنه رفض هذا العرض وأكد أن العلم الإسرائيلي لا يمكن أن يرتفع في سماء دمشق، إلا بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
الجولان، الذي رفض حافظ الأسد أن يكون صفقة على حساب القضية الفلسطينية يشهد اليوم توغلاً للعدو الصهيوني في المنطقة العازلة عند خط وقف إطلاق النار وإعلان رئيس وزراء العدو مجدداً أن هضبة الجولان ستبقى إسرائيلية إلى الأبد. ولم يكتفِ بذلك بل شن أكثر من ٤٨٠ غارة دمرت مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة استراتيجية، وصواريخ أرض-جو، وأسراب الطائرات المقاتلة، وعشرات المروحيات، والمطارات، وبطاريات الدفاع الجوي، والبنية التحتية العسكرية للجيش السوري الذي تأسس في الأول من اغسطس عام ١٩٤٦م. بالتزامن مع ذلك، نفذ سلاح البحرية الإسرائيلي ضربات واسعة النطاق لتدمير الأسطول البحري السوري، بما في ذلك منظومات الدفاع الساحلي والسفن التي تحتوي على صواريخ بحر-بحر. ومما يندى له الجبين السوري والعربي معاً أن شلّ دور الجيش السوري لايخدم مصلحة سوريا والأمة العربية وأمنها وكرامتها ودورها القومي. لقد تم فعلاً حل الجيش بدون قرار معلن كما حدث في العراق المحتل عام ٢٠٠٣ من قبل امريكا مما سهل لإسرائيل تحقيق هدف ذهبي لم تكن تحلم بمثله.
إن هذه المكاسب الوطنية الاستراتيجية ملك للشعب السوري وليس لأي نظام مهما كانت هُويته وهي لاتعوض مما يفرض على الشعب السوري وحكومته الجديدة أن يكونا على دراية عميقة بأطماع الكيان الصهيوني وحلفائه في المنطقة التي ليس لها نهاية إلا إذا كان أمن وسيادة سوريا غير ذي أولوية. لهذا بات من الضروري العمل بسرعة وبجدية للحفاظ على ماتبقى من المؤسسة العسكرية التي كانت ولا تزال عماد القوة السورية والتي لابديل لها إلا إذا كانت الأجندات الأجنبية تخفي شيئا آخر.
إن تعافي سوريا من جراحاتها الغائرة وعودتها قوية ومهابة بما يليق بدورها العربي ومصالحها الوطنية إلى الساحة العربية تتطلب تمييز العدو من الصديق والعض على المصلحة الوطنية بالنواجد، علاوة على وحدة الصف وتجاوز الانقسامات وسياسة الانتقام قصيرة النظر. إن تاريخنا يعلمنا أن التحديات الكبرى لا تواجه إلا بإرادة شعب موحد وقيادة واعية، تدرك أن قوة سوريا هي ضمانة لاستقرار شعبها والمنطقة ولصد أي مشاريع عدوانية تهدد حاضرها ومستقبلها ومستقبل الأمة العربية. وما أحوج هذه الأمة اليوم إلى مشروع عربي لإخراجها من دائرة الصراعات والحروب والطائفية التي تنتقص من حقوق الآخرين؛ لرسم مستقبل أفضل للحاضر والمستقبل ولكن هذا يتطلب رؤية وإرادة وقيادة بصيرة ووطنية ومالم فإن سوريا والعرب سوف يدخلون إلى مرحلة من الانحطاط والتشرذم والحروب الأهلية ولن ينجو أحد من هذا المآل من المحيط الى الخليج..
نتمنى للشعب السوري المتطلع الى حريته واستقلاله وسيادته أن يتجاوز هذه المحطة التاريخية الصعبة في عمر الدولة السورية، وان يتمكن من تحقيق تطلعاته بيد أبنائه وشبابه وهذا ماعودنا عليه الشعب السوري ذو التاريخ والحضارة المممتدة في عمق التاريخ..