عام كامل يا غزة اليوم يمضي من سيرة وجع لا يحتمل. وحرب قيل عنها إنها خاطفة، فإذا بها تخطف كل شيء ولا تنتهي. بل لم يرسم بعد ملمح مشهدها الأخير.
اليوم هو السابع من أكتوبر، يعني ذلك ان عاما كاملا ينقضي من الوجع على غزة وعموم فلسطين. عام كامل من الجحيم، هو عمر كامل بمقياس الآلام لا بمعيار الوقت، لا يمكن حتى لنا أن نتخيل تفاصيله. توارى اسم غزة قليلا من صدارة الاهتمام العالمي والإقليمي، هذا الأسبوع فالضوء وشدة الوجع نحو بيروت الآن، بيروت تلك التي لا مثيل لحضورها ووجعها. فهي خيمتنا الأخيرة، ولهثت كاميرات الأخبار بعيدا عن ركام غزة رغم استمرار الإبادة الجماعية تجاه الشعب الفلسطيني، ولم يعد أحد يحصي عدد الشهداء الأحياء والأموات في ركام القطاع الذي تقطعت أوصاله. فالعالم الآن يرقب ركام الضاحية في بيروت.
وكأن خمسين ألف شهيد في فلسطين خلال عام مجرد أرقام، لا جرح وطن ووجع جيل كامل.
هانحن مع العالم المذهول نطفئ شمعة من عمر حرب الإبادة الجماعية تجاه الشعبين الفلسطيني واللبناني التي ليس لها مثيل، ونشعل جرحا غائرا في ذاكرة مرهقة بالقهر.
تم تفعيل برنامج الصدمة لكل المجتمع الدولي من قبل إسرائيل المدعومة بأكبر إمداد لوجستي وعسكري ومالي، لتحدث أكبر مناكل الإبادة الجماعية في فلسطين، والآن في لبنان. وتقول للعالم سننشر هذا المشهد في كل المنطقة وحتى آخر عاصمة، إذا لم تباركوا إبادة الفلسطيني الصامد.
وبقي سيناريو التهديد مع طهران حتى الآن صامدا، لا يخرج عن قواعد الاشتباك المتفق عليها برعاية واشنطن. فتلك قواعد تصون بقاء القوتين، وتحافظ على ماء الوجه أمام جمهور غاضب ومحبط.
والاتفاق واضح، طالما وقود هذا الدمار سيبقى محكوما بكل الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، فذاك مقبول. يضاف لهم ما تيسر من شعوب المنطقة، فهؤلاء حطب المواجهات المتفق عليه، منذ بدء فكرة تقطيع أوصال الرجل المريض وحتى اللحظة. ولذا يحاط الدمار الحادث بكل هذا الصمت الدولي والخذلان الإقليمي.
إيران تلتزم بقواعد اللعبة، ولا تخرج عن مساحات الاشتباك المتفق عليها حتى الآن، لكن من يضمن تهور نيتانياهو وتعطشه لسفك الدماء؟. لا أحد على ما يبدو. فلا كبير يوجد في البيت الأبيض الآن يمكنه أن يضبط إيقاع رقصة الجنون الابادي التي يريد رئيس حكومة الكيان الصهيوني أن يعممها على مسرح العالم، ويجعل أمريكا في قلب حلبتها، لينفذ هو نفسه من هزيمة سياسية تنتظره وملاحقات قانونية مرتقبة.
الأمر الآن محكوم بمدى بقاء أعصاب المرشد في طهران صلبة، ولا يرد على الرد الإسرائيلي.
فالقرارات التي سيتخذها المرشد بعد الرد الإسرائيلي المتوقع قد تدخل المنطقة في مرحلة أشد خطورة يصعب على الولايات المتحدة البقاء خارجها. والأيام المقبلة «ستكون أصعب أيام المرشد والمنطقة»، أيام صعبة جعلت المرشد يظهر بخطبة الجمعة من وراء حجاب بعد خمس سنوات من غيابه عن خطب الجمعة!.
هناك الكثير من القول الذي يمكن أن يقال حول مشهد الدمار اليومي الذي نراه، وتحويل المنطقة إلى ساحة جنون صهيوني عجيب.
ولكن صدمة الصورة كصدمة الخذلان تجعل الذهول سيد الموقف. فمن كان يصدق أن عاما سينقضي الآن ويمر السابع من أكتوبر، والحرب تقول للعالم إنها في أول فصولها لا في خواتيم أوجاعها؟.
نحن لسنا في أواخر حرب تنقضي، نحن في بداية مشهد يتشكل.
ترى كيف كان يقول ساسة القرن الماضي عن واقعهم عندما أعلنت القوى العظمى في حينها اتفاق (سايكس - بيكو)؟.
من يتذكر الآن تفاصيل ذاك اللقاء الخاطف بين دبلوماسيي بريطانيا وفرنسا عام 1916. الدبلوماسي الفرنسى فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني مارك سايكس. وهما يقرران رسم خريطة المنطقة وتوزيع غنائم الرجل المريض. الذي كان مسمى الإمبراطورية العثمانية ويحكم كل هذه المنطقة العربية الممتدة من الماء إلى الماء، الآن نحن أقرب لتلك الحالة من أي مشهد آخر، فالمريض ذاته مازال على طاولة التشريح يحتضر. فقط تغيرت طواقم إنجاز عمليات الجراحة الصعبة بما يتفق وظروف العصر.
أما الوجع فهو على نفس أناته الممتدة من نهر العاصي إلى شط العرب.
ومثل كل دورة عنف، ستجد هذه الأمة العصية على النسيان لنفسها مخرجا، وتبقى تعيد دورة الحياة وتقاوم. ونرى كما نشهد الآن الصغار من تحت الركام يتشبثون بالأمل ولا يبتلعهم الخوف والخذلان، مؤكدين ان لاعلاقة للأيام بالنضج، فنحن نكبر بمرور الناس، والمواقف والأزمات، والأوقات الصعبة. لا بمرور الأيام.
عام مضى والوجع في أوله يا غزة. اما بيروت فهاهي تقول للذين نكتب لأجلهم ولا يقرأون فليحدث شيء أي شىء، يعيدنا إلى أنفسنا.