محمد علي باشراحيل .. عميد صحيفة الأيام
عدن / 14 أكتوبر / خاص:
_ رؤية باشراحيل لم تقف عند حدود مرحلتها الزمنية الماضية بل لها حضورها في واقع اليوم
- استعادة هذه الأفكار تجعلنا ندرك كيف كان ذلك الجيل من خلال دور الكلمة في صنع الموقف
- شاركت صحيفة الأيام في بناء الوعي الجماهيري الذي عمل على قراءة الحدث من مكونات ما يجري في الحياة
(( التعامل مع أفكار ومواقف هي من آلية حركة التاريخ ويعزز عند الأمة ما لها من ذاكرة وهوية ليس من السهل تجاوزها في حسابات ومنزلة دور الوعي في صناعة القرار والرأي العام عبر وسائل الاعلام. فالكلمة ليست مجرد صياغة في جملة، بل حقائق تكشف لما للقلم كضمير يدرك كيف تختار المسارات، وهي عند مستوى من الاتزان في بناء التفكير حتى ان ذهب إلى حيز العمل التنفيذي. كانت الأطروحات الهادفة قد مهدت له الطرق في توضيح المعالم)).
هنا نقف بعض الشيء أمام حقبة من تاريخ عدن في حقل الصحافة ، وتلك صحيفة الأيام ما كتب عبرها الأستاذ محمد علي باشراحيل، لكنها لم تكن سرديات لذاكرة الأمس بل بما حملت من مقدرة الادراك وقراءة الفهم على أية أرضية تقف هي عليها، اكتسبت راهن اليوم. لم تعد حدود الماضي هي مساحة تواجدها؛ لان في واقع الحال ما يسترشد بمعانيها وصلابة موقفها ونوعية البناء الثقافي الذي قامت عليه.
الكلمات المدركة لا تأتي إلا من وعي النخبة التي تحدد وتحذر، وهنا يصبح دور الكاتب مرجعية لمن يأتي بعد ذلك الوقت ليجد أن الأحداث الماضية مازالت لها بصمات في أزمات الحاضر، بل ربما تذهب نحو ما هو أكبر من تجاذبات الفترة التي ولدت فيها؛ لان الغفوة في الادراك هي من أخطر ما يصيب ذات الأمة، وهنا نرى ما قاله الأستاذ محمد علي باشراحيل قد جاء الينا ليس من صفة الماضي بل يتواجد في اليوم، وكأن فكر الأمة لم يخرج من مأزق التاريخ بل هو دوران في حلقات كلما زادت مشاكل الواقع تشتد في حصارها وكأنها معالم في أكثر من صورة.
في تاريخ 6 يناير 1962م نشر في صحيفة الأيام العدد 1069 تحت عنوان (مشكلة التعليم في بلادنا) وله من طرح المسائل والقضايا في هذا الجانب ما يملك من مخاطبة الراهن المأزوم، لأن في هذا الوجع سقوطاً لمستقبل الأمة وهو ما نراه على مشهد من حياتنا الآن.
مما يقول: (ومستلزمات التطور ونمو الوعي وانتشاره تتطلب كضرورة لازمة توسيع مرافق التعليم وإفساح المجال أمام الاعداد المتزايدة من الطلبة للاستمرار في دراستهم حتى المرحلة النهائية التي توفرها مرافق التعليم هنا وهي المستوى العالي لشهادة الثقافة العامة.
وتوسيع مرافق التعليم لا ينحصر أمره في بناء المدارس فحسب بل في إعداد المدرسين الأكفياء من أبناء البلد للقيام بأهم واجب وطني في مجال التربية والتعليم على ضوء برامج حديثة ومتطورة تتفق مع العصر الذي نعيش فيه.
وعملية الاعداد هذه ليست سهلة انها عملية خاصة تستدعي حسن الاختيار إلى جانب التدريب في فنون التربية.. وكلما زادت خبرة المدرس في مزاولة اعماله التربوية ازدادت أهميته في اعداد الأجيال الصاعدة اعداداً مطمئناً على مستقبل الغد المأمول .. غد الحرية والاستقلال.
وما ينطبق على الأبناء ينطبق أيضاً على البنات .. ينطبق في كل شيء، لأن المرأة هي الجزء المتمم للرجل في ميدان الكفاح والبناء .. بناء المستقبل الحر السعيد.
هكذا نرى الاتجاه الذي يجب ان تسير على هداه السياسة التعليمية في أرضنا .. السياسة التي ظلت زمناً طويلاً لا تؤمن بأكثر من تخريج كتبة من انصاف المتعلمين.
واليوم ماذا نسمع؟
نسمع كلاماً كثيراً لم يتردد صداه بعد بقوة لأن المدارس مغلقة وعطلة الصيف لم تنته بعد، نسمع ان عدداً كبيراً من طلبة المرحلة المتوسطة لا توجد لهم مقاعد في كلية عدن .. كلية تحمل اسماً من غير مسمى؛ لانها ليست كلية على الاطلاق ولكنها مدرسة ثانوية لا أكثر ولا اقل.
وما نسمعه اليوم سبق ان سمعناه في الأعوام الماضية ولا نتوقع ان تأتي ادارة المعارف بتبرير جديد غير ذلك التبرير الذي سمعناه في الماضي أيضاً .. التبرير الذي يقول على لسان المسؤولين في وزارة التربية والتعليم بأن الطلبة الذين يتخرجون من المدارس المتوسطة ليسوا جميعاً من الذكاء والاستعداد بحيث يمكنهم الاستفادة من الدراسة الثانوية في كلية عدن .. الدراسة التي تعدهم بعد التخرج منها للتعليم الجامعي في الخارج.
ان هذا التبرير منطقه غريب .. ولا ندري حقاً ما إذا كان تبريراً لعجز الحكومة بتوسيع المرحلة الثانوية بحيث يجد فيها كل متخرج من المرحلة المتوسطة مقعداً لمواصلة دراسته أم أنه تبرير يستند حقاً إلى جذور تربوية أصيلة).
ان كانت هذه نظرة الأمس على حلة التعليم في عدن ما هي ردة فعلها على اليوم؟
ما طرحه الأستاذ محمد علي باشراحيل يجعلنا نربط مراحل هذه الأزمة عبر حلقات اسبابها. هي في الراهن أكثر مما كانت في تلك الحقبة.
لقد نظر لواقع التعليم من منطلق بناء كيان الأمة، التعليم هو هوية المستقبل لديها ان غفلت عنه ليس لها في الحضارة والتاريخ من قيمة انسانية.
لعل أخطر نقطة طرحها علينا صناعة المدرس وهو عماد نجاح طلاب المستقبل.
ان ذهبت هذه القضية نحو السقوط نكون قد كسرنا الوسيلة الأولى في وعي التلميذ، هو المثل الأعلى ذلك المدرس، لأن انعكاس درجة المعرفة لديه هي ما ترتقي بما يعطي ليس لعقل الطالب بل لوعي المجتمع. وحين تكون الدراسة في المدارس بناء لقوام الحياة يصبح المجتمع في حالة حصانة من أمراض تستبيح الواقع وتدمر كل أجهزة المناعة فيه؛ ليصبح عرضة لعلل فاتكة ليس من السهل بعد انتشارها الحصول عللى علاج لانها تمرض روح الجماعة والفرد وهو ما نجده اليوم في حياتنا التي سقطت فيها منزلة المعلم وغاب دور المدرسة لنجد أنفسنا أمام ظواهر تربي الأجيال على العنف والفوضى وكل أشكال التخريب.
لقد ادرك الأستاذ محمد علي باشراحيل ان قوة المجتمع وحصانة الأجيال لا تكون إلا من المدارس ودور المعلم.
انها قراءة لها أكثر من بعد، ومازالت فاعلة حتى الآن في هذا الطوفان المدمر ليس لمرحلة الحاضر بل للغد الذي لا تحدد معالمه إلا من اليوم.
ولكن كيف جاءت هذه الغفوة بعيداً عن جرس الانذار الذي قرعه هذا الكاتب؟!
لعل أخطر المسببات لها انقطاع الأجيال عن ذاكرتها التاريخية.
ان نحن غفلنا عن مرجعياتنا، وهي صفة الهوية فينا، نصبح في اتجاه خارج الجاذبية فلا يبقى غير من يعيد نفس معالم الصورة المنفردة الغافلة عن الارتباط مع الوعي التاريخي، وفقدان التوازن في ادارة الأمور وهنا نعود لما قاله عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في هذا الأمر: (إذا تريد ان نعرف مستقبل أي أمة .. عليك الذهاب إلى مدارسها وانظر ماذا تتعلم).
نحن أمام مواجهة اليوم يفرضها علينا الأستاذ محمد علي باشراحيل، واقع التعليم في بلادنا.
فان كانت في السابق مجرد تحذير .. فاليوم دخلت في حيز الكارثة.
وحين تصل الأمور إلى مستوى فناء الأمة عبر تدمير منزلة المعلم وغياب التربية وتدهور المدارس، لا تنتظر من الأمة سوى انتاج الأزمات القاتلة.
من الجوانب الاخرى التي شغلت الفكر السياسي عند الأستاذ محمد علي باشراحيل قضية قيام الأحزاب السياسية في المجتمع، وهي ظاهرة عمت الوطن العربي في تلك الحقبة، والتي كان مشاركاً فيها عبر الفعل والكلمة، لكن هنا يطرح علينا رؤية مازال لها من التواجد الموضوعي في قيام مثل هذه الأفعال والتي لا تقف عند البعد الواحد بل ظلت تتواكب مع تطور الأحداث بكل ما حملت من صراعات ومفارقات. له هنا من الموقف ما يجعل مسألة بناء الفكر السياسي من اتجاه الادراك على أية أرضية تقف الفكرة حتى تكون في مستوى التعامل مع الواقع ولا تذهب بعيداً عن ركائز يظن البعض ان اخراجها من المعادلة السياسية يعمل على تسهيل القضايا، لكنها تذهب بمسارات الأمور نحو تناحرات تجعل من الحزب فاعلا مدمرا له ولمن وجد فيه المخرج من تراكمات تمزيق القضايا.
في تاريخ 18 أغسطس 1959م العدد 315 من صحيفة الأيام وتحت عنوان (كلمة اليوم .. نحو مسؤولية جديدة) ويأتي الطرح في هذه المسألة ليس عند ذلك التاريخ، ولكنها مازالت معاصرة لنا في حالة الأزمات الحزبية والعمل السياسي حتى اليوم وفي هذا يقول: (الأحزاب السياسية هي من المشاريع التي تتدخل تدخلاً مباشراً في تقرير مصير الشعوب، ومن هنا ينشأ التفكير في نوع الوسائل التي يجب استخدامها لكسب تأييد الشعب.
لقد كانت هذه الوسائل سهلة في الماضي وربما اكتفى القادة بمجرد التلويح بما ينوون القيام به ليكسبوا الشعب إلى جانبها ولكن التطورات التي طرأت على العالم العربي مؤخراً فتقت وعي الشعب بحيث لم يعد في الامكان مخادعته وتضليله وحمله على قبول فكرة ما إلا إذا اتجهت أساساً إلى خدمته بالوسائل الايجابية المجدية .. والحزب الذي لا يحسب لهذا الجانب خطورته وأهميته سوف يتعثر في سيره في الأشهر القليلة من حياته ويلاقي حتفه وهو لا يزال في المهد صبيا.
اننا نريد حزباً ثورياً، حزباً يثور على نفوسنا ليطهرها من رواسب الجمود والسلبية والاستسلام، حزباً يرد للفرد في المجتمع الذي نعيش فيه اعتزازه بوجوده وبشخصه وبكرامته ويحطم فيه صفات المجاملة على حساب شعبه وصفات النفعية البغيضة والنفاق .. نريد حزباً قادراً على ان يجعل من الفرد انساناً له من المثل العليا ما تمكنه من استخدام تفكيره بطهر ونبل وأمانة في خير المجتمع الذي يعيش فيه.
ان هذه الواجبات التي نطلبها من الفرد هي الأسس التي يجب ان يرسو على قاعدتها أي حزب سياسي جديد ينشد الخير والسعادة للشعب.
وبالقدر الذي يلزم فيه الفرد بهذه الواجبات نحو المجتمع يجب على المجتمع متمثلاً بحزبه الجديد ان يلزم نفسه بواجبات نحو الفرد .. ومن هنا تنشأ فكرة الاشتراكية كجزء لا يتجزأ من معركة الحرية التي اساساً هدف الحزب.
وتطبيق الاشتراكية بأوسع معانيها كفيل بأن يشعر الفرد بعدالة المجتمع الذي يعيش فيه).
نرى في هذا الطرح السياسي ـ الاجتماعي خروجاً عن نطاق المحلية، بل هو يذهب نحو البعد الاقليمي، رابطاً ما يجري في محيطه من هذا الاتجاه.
ربما نظر الكاتب لهذه المسألة من مستوى الوعي السياسي لعمل مثل هذا.
قيام الأحزاب.. لماذا تحولت إلى كارثة على شعوب المنطقة العربية؟
لقد أدرك الأستاذ محمد علي باشراحيل ان القضية لا تأخذ عبر الحماس الجماهيري .. لأن في هذا صناعة مصير له ارتباط بما تطمح له الأمة.
والإقدام دون معرفة احوال العامة وخاصية مشاكلها يضع الحزب وقادته في حالات من الترنح وعدم الاتزان، بل فقدان بعد النظر في صناعة القرار.
ليست السياسة في اتخاذ عدد من القرارات أو الحشد الجماهيري.
لكنها ثقافة علمية ـ تاريخية تنقل الأمم من الركود وضياع البصيرة إلى درجة واعية في خلق مقدرات الشعوب. بمعنى أن الحزب لا يمثل الجماعة بل هو صوت الأمة وما سقوط الأحزاب العربية بكل تياراتها إلا ارتدادتها نحو الذاتية.
حين يفرغ الحزب من شعور الانتماء نحو الشعب، لا يعود يملك غير سلطة القمع البوليسية، وهذا ما جعل سلطة الحزب الواحد المنفرد عاهة سياسية في عقل العمل السياسي؛ لان اختصار الجماهير والتاريخ عند زوايا صغيرة من التفكير يرفع حالات الضغط في العمق مما يدفع بقوة الانفجار نحو الخارج.
وعمليات تغييب العنصر الفاعل وعدم المشاركة لدور النخبة في الاتجاهات المتعددة وفرض صوت الحزب الواحد، كلها لم تذهب إلا نحو الانهيار.
لذلك ادرك الأستاذ محمد علي باشراحيل قضية دور الحزب في المجتمع من منطلق الادراك التام لما يدور في الساحة العامة؛ لأن الوضع المتأزم ان خلق تيارات سياسية غير قادرة ولا فاعلة على إعادة صياغة الرؤية والخروج بحلول، تصبح في منزلة السلطة القمعية الحاكمة، والمخبر السري الذي يطارد الاجساد والافكار.
هنا يطرحنا الكاتب امام مفارقة قاتلة في واقعنا، وهي كيف تتشكل ثقافة رجل الحزب؟
ليس من السهل طرح الرد على هذا التساؤل والذي مازال معلقاً دون رد حتى اليوم.
فهل أدرك الأستاذ محمد علي باشراحيل ان بلادنا سوف تدخل في رهانات الأحزاب دون مخارج منذ ذلك التاريخ حتى الحاضر؟
وهل غياب الوعي السياسي هو أزمة دائمة في واقعنا؟
تلك تساؤلات التحدي والمواجهة بين الفكر والتاريخ، وهو ما حفلت به كتابات الأستاذ محمد علي باشراحيل منذ عقود طويلة مرت عليها، لكن من يقرأ ويمتلك المقدرة الفاعلة على الرد.. أم تظل القضايا حالات معلقة دون مخارج؟!
*يكتبها / نجمي عبدالحميد