المتغيرات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط بدءاً من ثورات الربيع العربي وما رافقها من أحداث ومستجدات في سياق موجتها الثانية الممهدة لتحولات جديدة تؤدي إلى موجة الاستقرار الطبيعي للشعوب الثائرة ضد الأنظمة البالية ومخلفاتها كما هو حاصل اليوم في مصر، أدت بكل تأكيد إلى ظهور ما كان يجري خلف كواليس الصراعات الدولية في المنطقة ومحيطها الإقليمي والدولي، ولم يعد اليوم خفياً بروز توجهات السياسات الإستراتيجية لمصالح القوى الدولية وصراعاتها بعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية المهيمن الأوحد على منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة والعالم اجمع بشكل عام منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة حلف وارسو التي كانت الند القوي والمنافس لأمريكا وحلف الناتو حتى مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي.
إن إستراتيجية الإدارة الأمريكية التي تم اعتمادها عقب انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الشرقي، والتي قامت على عنصر القوة والهيمنة بدءاً من غزو أفغانستان واحتلال العراق وتعزيز ودعم الكيان الصهيوني والاستحواذ على المنطقة ومقدراتها تحت مبررات الحرب على الإرهاب وحماية حقوق الإنسان وغيرها من المشاريع المنبثقة من مضامين مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يهدف إلى تمزيق الأمة العربية والإسلامية وإضعافها من خلال الحروب الطائفية والمذهبية وإثارة الفتن الممنهجة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى قيام دويلات هشة وركيكة متناحرة تتمكن في ظلها الولايات المتحدة الأمريكية من الهيمنة المطلقة على ثرواتها الطبيعية ومواقعها الجغرافية الإستراتيجية والحيوية في العالم وتحويلها إلى سوق استهلاكية لمنتجاتها الصناعية، وبالتالي تحويل إسرائيل إلى قوة إقليمية تتربع على عرش الهيمنة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، ومثل هذه الإستراتيجية المدعومة مالياً من بعض الأنظمة العربية، هدفت إلى تحقيق اقتصاد آمن ونماء متطور للمجتمع الأمريكي، وفرض الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على العالم بما في ذلك حلفاؤها في حلف الناتو.
وكان لابد للإدارة الأمريكية بعد فشلها العسكري في أفغانستان والعراق من إيجاد وسائل أخرى تكفل لها تحقيق أهدافها الاستعمارية الجديدة في الحاضر وعلى المدى المتوسط والبعيد رغم الفشل المتكرر لسياستها العدوانية التي أدت إلى حدوث خسائر كبيرة بين صفوف قواتها في أفغانستان والعراق وأزمة اقتصادية قوية جعلتها تعيد النظر في منظومة سياستها الخارجية وتدخلها المباشر في شؤون الغير، ولكن من الناحية التكتيكية، فعمدت إلى تصعيد القوى الإسلامية في دول الربيع العربي خاصة التنظيم العالمي للإخوان بدلاً عن حلفائها القدامى الذين أسقطتهم شعوبهم، وذلك ليس حباً فيهم، بل كونهم الأداة السهلة والمطلوبة «الإسلام السياسي» التي تمكنها من تحقيق أهدافها دون خسائر مادية أو بشرية، كما هو الحال في سوريا، ولكن من حيث تعلم خصوصاً بعد أن سارعت بسحب ملف مشروع الإسلام السياسي من قطر وبعد عام من وصول الإخوان إلى الحكم في مصر جاءت ثورة 30يونيو لتسقط مشروعها الذي هدفت من ورائه إلى إشعال نيران الاقتتال بين المسلمين في حرب مذهبية طائفية لا نهاية لها يكون أولاً وأخيراً المنتصر فيها مشروع الهيمنة -الامريكصهيوني- الاستعماري الجديد لتصاب الإدارة الأمريكية مرة أخرى بالإخفاق، لاسيما وان انتكاسة مشروعها في مصر قد شكل هزيمة للإخوان في كل مكان، وبالتزامن مع فشلها الذريع في سوريا الذي جيشها أصبح يحقق انتصارات متواصلة ضد جحافل المرتزقة والإرهاب الذين تم جلبهم من أصقاع العالم ليسقطوا نظام بشار الأسد بقوة السلاح.. لتهرع سياسة البيت الأبيض مسرعة إلى الشرق الأوسط لإحياء ما يسمى بعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد أن أصبحت على يقين بان مشروع إعادة تقسيم المنطقة وفقاً لمشروعها «الشرق الأوسط الجديد» قد أصيب في مقتل بفضل يقظة الشعوب وبروز الدور الروسي الفاعل في الشرق الأوسط والذي يعد مؤشراً على أن زمن هيمنة القطب الأوحد قد أفل، وان زمن عالم جديد متعدد الأقطاب قد بات أمراً واقعاً لا مفر منه.
من هذا المنظور فان سياسة الفوضى الخلاقة ومشروع الإسلام السياسي وغيرها من أدوات السياسة الامريكصهيونية لم تعد نافعة لصانعيها ومصدريها البتة، وان واقع اليوم بمتغيراته ومستجداته لا يحترم المصالح الأمريكية إذا استمرت تعتبر نفسها هي الكل في هذا العالم, لذلك فان كل الاحتمالات الموضوعية تشير إلى أن أمريكا سوف تخسر مشروعها في الشرق الاوسط والحلفاء الاقليميين الذين هم جزء من هذا المشروع من خلال ثورات شعبية تغييرية أصبحت ملامح شروطها وعواملها واضحة في اكثر من دولة بالمنطقة على حد وصف محللين ومهتمين في هذه المنطقة الحيوية من العالم.. ناصحين الإدارة الأمريكية بان تعتبر نفسها من الآن فصاعداً جزءاً من كل، لينعم العالم العيش بسلام واستقرار دائمين.. وينظر أن البشرية اليوم تقف على مسافة قصيرة من بزوغ عالم متعدد الأقطاب.. فروسيا والصين والهند والبرازيل وإيران ودول أخرى بما فيها دول أمريكا اللاتينية تمثل قوة توازن عسكرية واقتصادية.. كما أن دول الاتحاد الأوروبي هي الأخرى عانت الكثير من الهيمنة الأمريكية وصراعاتها وحروبها وسياستها الاستحواذية في العالم، وأصبحت قادرة على أن تكون قطباً عالمياً جديداً وفعالاً.
ولذلك كله لم يبق بيد الولايات المتحدة الأمريكية إلا القبول بنظام دولي جديد متعدد الاقطاب يعيد التوازن للعالم المنشود الذي لا مكانة فيه للهيمنة والغطرسة ونهب مقدرات الشعوب، وأما الخيار الثاني الذي حتماً سيكون مرفوضاً من قبل الشعب الأمريكي فهو القيام بتفجير حرب عالمية ثالثة ستكون هي الخاسر الأكبر فيها، لأنها لن تستطيع إعاقة مسار البشرية صوب عالم يسوده العدل والرخاء والتعايش بسلام ووئام، وعليها أن تدرك أن لكل شيء في هذا الكون نهاية، وعلى الإدارة الأمريكية أن تقنع ذاتها وشعبها بان زمن الهيمنة أفل دون رجعة، وان العودة بالتاريخ إلى عقد تسعينيات القرن الماضي باتت مستحيلة.. وعلى أولئك الذين لا يزالون يراهنون على أمريكا نقول لهم راهنوا على إرادة شعوبكم فقط، لأن هذه الإرادة هي وحدها القادرة على إعادة الاعتبار للأمة العربية ومقدراتها ومعتقداتها وحقها في العيش الكريم بين شعوب وأمم الأرض بحرية وتطور ونماء وازدهار..
نحو نظام دولي متعدد الأقطاب
أخبار متعلقة