كانت الخطوات تمضي حثيثا باتجاه يوم إعلان قيام الجمهورية اليمنية، وفي الشمال نشأ انقسام بين المؤيدين للوحدة والرافضين لها، وكادت الأغلبية أن تتجه باتجاه الرفض لولا الشطارة الفائقة التي أبداها الرئيس علي عبد الله صالح عندما أعلن أمام مجلس الشورى ما معناه: نحن ذاهبون إلى عدن وسنعلن الوحدة من هناك ومن يأتي معنا أهلا به ومن يعارض فله البقاء في صنعاء، ويتذكر الجميع الهرج والمرج الذي ساد جلسة مجلس الشورى التي منحت علي عبد الله صالح رتبة فريق،. . . في عدن لم يكن هناك اعتراض إلا من قبل القلة الذين أبدوا مبرراتهم لكنهم احترموا الأغلبية وحضروا وشاركوا في كل عمل من أجل تأسيس الدولة المفترضة أما المواطنون فقد كانت الغالبية العظمى منهم مع الوحدة بلا تردد.
كان كاتب هذه السطور يوم 21 مايو 1990م في متابعة بعض الأعمال في سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، وقد طلبوا منا الحضور صباح اليوم التالي إلى قاعة فلسطين ولم يقولوا لنا أن هذا سيكون يوم إعلان الوحدة لكن الخطوات كانت تشير إلى هذا، ويوم 22 تعطلت الحياة في مدينة عدن وذهب الناس لمتابعة الحدث العظيم الذي سينقل اليمن إلى واقع آخر مختلف عن الشمال القائم والجنوب القائم ونشوء يمن جديد: يمن الحرية والديمقراطية، والاقتصاد الحر والتنمية والنهوض بالإنسان اليمني ليصل إلى مستوى مواطني الشعوب والأمم المتحررة: الإنسان الذي انتظر أن تحقق له الدولة الجديدة مجموعة من المصالح التي حرم منها في الماضي وأهمها حصوله على حرية التعبير والمشاركة في صناعة القرار السياسي، وحقه في الاستثمار والحصول على العمل وتحقيق الرخاء المادي والمعنوي والحصول على الخدمة الضرورية من ماء نظيف وكهربا ورعاية طبية تحميه من الأوبئة والأمراض الفتاكة، وحصوله على السكن الملائم، والتعليم الراقي الذي ينقل اليمن من حالة الجهل والاحتراب إلى بيئة الأمن والإخاء والعدالة الاجتماعية . . يمن يجعل أبناءه قادرين على التفكير بحرية والتعبير بحرية والاعتقاد بحرية السفر بحرية والعودة بحرية، ويستطيع نيل احترام الشعوب الأخرى من خلال ظهور اليمني بالمستوى اللائق الذي يبعده من النظر إليه على إنه مجرد باحث عن عمل أو طالب إعانة أو مدمن قات أو رفيق للكلاشنكوف أو مساهم في صناعة الإرهاب. . . هذه الأحلام راودت الجميع ولم تكن آتية من الفراغ أو الرومانسية الثورية لكنها جاءت من اعتقاد المواطن أن المليارات التي ظلت تنفق على الاحتراب بين الشطرين وتجسس النظامين على بعضهما البعض وتدبير المكائد وحياكة الدسائس فيما بينهما كلها ستسخر لخدمة المواطن، وإن الثروات المغمورة التي حال الصراع الشطري دون استثمارها ستستخرج وتستخدم لصالح رفاهية الإنسان، وإن جميع الموارد التي حال الوضع الشطري وغياب المعارضة السياسية دون استخدامها لصالح المجتمع ستغدو أداة للارتقاء بهذا المجتمع نحو الحياة الأكثر حرية والأكثر كرامة.
نعم هذه هي الرهانات التي جعلت الملايين من اليمنيين في الشمال والجنوب يخرجون إلى الشوارع مطالبين باستعجال إعلان الدولة اليمنية الواحدة، دون أن يأبهوا لما يدبره البعض من مكائد أو ما يخطط له من احتيالات وخدع.
بغض النظر عن التفاوت في الحماس للمشروع الوحدوي بين الشطرين فقد كان المواطنون في الجنوب الأكثر حماسة واندفاعا للوحدة، ليس لأنهم سذج كما قد يتصور البعض وليس هربا من معاناة يعيشونها أو بحثا عن نعيم يعيشه أشقاؤهم في الشمال لكنه الصدق الذي تربوا عليه والوطنية العالية التي تعلموها في مدارسهم وجامعاتهم، والرغبة في تحقيق اندماج وطني حقيقي يزيل التشطير من الأرض ويجتثه من الأنفس والعقول.
لم يدم شهر العسل طويلا وكانت الأحداث تسير في مسالك مخالفة للأحلام والتطلعات، واتضح أن هناك من كان يحلم بأحلام المواطنين البريئة ويطمح إلى تعويضهم عن سنوات التمزق والانقسام والحرمان، بينما كان هناك من يخطط لتحقيق المزيد من الغنائم من خلال توسيع دائرة الفساد وتعميم سياسات النهب والسلب واغتصاب الجغرافيا والتاريخ، وكان الجنوب هو الأرض البكر التي لم تستثمر بعد ولم تتعرض للسلب والنهب بعد، وكان ينبغي السطو عليها من قبل المنتصرين في الحرب العبثية الخرقاء التي أتخمت المتخمين وأثرت الأثرياء لكنها لم تتسبب فقط في نهب الجنوب و تحويل المواطنين الجنوبيين إلى غرباء في أرضهم، بل لقد طوحت بمشروع الوحدة ذاته وحولته من حلم وردي جميل طالما دغدغ مشاعر المواطنين إلى كابوس لم يجن منه مواطنو الجنوب سوى الإقصاء والازدراء والاستخفاف وخسران المستقبل والقذف بهم إلى رصيف التهميش ودائرة الاستبعاد وكانت استباحة الجنوب أبشع جريمة ترتكب في حق التاريخ الجنوبي منذ زمن أئمة الدولة القاسمية.
اليوم وبعد الحركة الشبابية السلمية التي ما تزال تراوح بين تحقيق رغبة الشعب في التغيير وبين محاولات قوى الماضي العودة إلى حلبة الفعل بعد أن رفضها هذا الشعب، يظل حال الجنوب كما هو منذ العام 1994م لم تتحرك عجلة التغيير باتجاه إزاحة أبسط مظاهر الظلم عن الجنوب فلم ينصف مظلوم واحد ولم يرتدع ظالم واحد، بل أضيف إلى الجنوب ما فعله أنصار الشريعة في أبين وبعض مناطق شبوة، واتساع استهداف القيادات الجنوبية المؤهلة والكوادر الجنوبية الفاعلة من خلال الملثمين ودراجاتهم النارية التي ما تزال أجهزة الأمن المتعددة والمتكاثرة عاجزة عن كشف واحدة منها.
اليوم ما يزال الغالب غالبا والمغلوب مغلوبا، وما يزال الناهب ناهبا والمنهوب منهوبا، والسالب سالبا والمسلوب مسلوبا، وهي معادلة معوجة لا يمكن فهمها بعد ثورة يفترض أنها أطاحت بمن تسببوا باحتواء المشروع الوحدوي وتفريغه من كل مضامينه.
لم يتزحزح المغتصبون قيد أنملة عن تمسكهم بما اغتصبوه من المنشآت والثروات، ولم يعيدوا ولو شبرا واحدا مما نهبوه من الأراضي والمؤسسات والمساكن، حتى أولئك الذين أيدوا الثورة واعلنوا أنفسهم مناصرين لها أو مساهمين فيها لم يبرهنوا على ثوريتهم ووحدويتهم بخطوة صغيرة، ولو فعل هؤلاء شيئا من ذلك لأثبتوا أنهم فعلا يتمسكون بــ(الوحدة) وليس بالمنهوبات والغنائم.
وحدة الغالب والمغلوب والناهب والمنهوب لا يمكن أن تستمر على قيد الحياة لأنها تحمل عوامل موتها في داخلها، فهل سيعي ذلك الذين يعتقدون أن نتائج حرب 1994م هي نهاية التاريخ وآخر حدود الجغرافيا؟ هل يستطيع أدعياء الوحدوية والثورية أن يعترفوا بأن الاستقواء لا يصنع وئاما وأن السلب لا يرسي محبة وأن التعالي لا يبني احتراما وأن الاستحواذ لا ينبت انسجاما، وأن الخداع والغش لا يحفظ مستقبلا خالياً من الظلم والتصادم، وأن المصالح القائمة على الغش والزيف والادعاء مآلها إلى الزوال حتى وإن تدثرت بجلابيب الوحدوية والثورية؟؟
مايو وثنائية الغالب والمغلوب
أخبار متعلقة