لا يمكن فهم الجذور الإسرائيلية في المعتقدات المذهبية الوضعية التي سادت التاريخ المسيحي والإسلامي بدون التعرف على مسار تطور الأفكار والمعتقدات الإسرائيلية بما في ذلك المؤثرات الخارجية للفكر الوثني السابق لظهور الديانة اليهودية، خصوصا بعد انتقال بني إسرائيل من حياة البداوة والخيام في الجزيرة العربية إلى حياة الاستقرار بعد نزوحهم وانشغالهم بالزراعة والصناعات الحرفية التي تدخل في صناعة السيوف والأسلحة والنقوش الفضية والآلات الزراعية والأواني الفخارية والمعابد. وبعد ظهور الديانة اليهودية تعرضت أحكامها ومعتقداتها الأساسية لضغوط عديدة بفعل الرواسب الموروثة عن الحقبة الوثنية والعقائد الفرعونية والمصالح المتناقضة في أرض الواقع، فقد اتجه الأحبار بتأثير مصالحهم والعقائد الموروثة إلى تأليه ملوك بني إسرائيل. كما أضفى بعض الأحبار على أنفسهم صفات النبوءة، وصولا إلى تحول بعض الأنبياء إلى ملوك، حيث تكرست تاريخيا ظاهرة التوحد بين الملكية والدين والتي أفرزت بدورها عقيدة تجسيم صفات الله التي يتماهى فيها الملك مع صفات الله.
بتأثير كل ذلك تعرضت العقيدة اليهودية للانحراف أولا ، ثم التحريف ثانيـا، حيث كان العقل اليهودي مطالبا باستيعاب الممارسات الظالمة والمستبدة والفاسدة لملوك بني إسرائيل في صميم العقيدة اليهودية، حتى لا يبدو ثمة تناقض بين التوراة وشرائع موسى المستوحاة من الله، وبين انحرافات ملوك بني إسرائيل الذين افسدوا القرى التي دخلوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة بحسب ما جاء في القرآن الكريم وكتب التاريخ.
ولا يتسع الحيز لإبراز القصص التي وردت في سفر صموئيل الثاني وسفر الملوك عن مظالم واستبداد وفسوق وفساد وقسوة ملوك بني إسرائيل ، والتي انعكست على سلوك غالبية الأحبار اليهود الذين اتجهوا الى التأسي بملوكهم سواء من خلال التطبع بالقسوة ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) (البقرة - 74).. أو النزوع إلى التحريف والافتراء على الله (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليـا بألسنتهم وطعنا في الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) ( النساء 46 ).
تناول كتاب (الله والإنسان في إسرائيل القديمة )
GOD AND MAN IN OLD ISRAE
الذي قام بتأليفه عدد من المفكرين اليهود جوانب واسعة من تاريخ الأحبار اليهود الأوائل الذين وضعوا أصول الاختلافات بين المذاهب الدينية اليهودية، في سياق دور أولئك الأحبار الذين قاموا بتسخير العقيدة لخدمة مصالح ملوك بني إسرائيل، وهو ما دفع مؤلفي هذا الكتاب إلى إطلاق صفة أحبار الملوك على رجال الدين اليهودي الأوائل، ولعلها الصفة التي تعود إليها ظاهرة فقهاء السلاطين في التاريخ الإسلامي.
ويرى مؤلفو هذا الكتاب أن النبي موسى ظهر بين بني إسرائيل وهم يعيشون غرباء، مضطهدين في المجتمع المصري تحت حكم الفراعنة، فقادهم موسى وخرج بهم من مصر وكان لهم قائدا ومشرعا وإمامـا . وترجع إلى نبوءته المستوحاة من الله ما عرف لبني إسرائيل في الديانة اليهودية من ألواح، قبل أن تظهر كتب وأسفار التوراة بعد وفاة النبي موسى، حيث دعاهم موسى إلى التوحيد، وهي عقيدة ظهرت في العالم قبل ذلك على يد الملك أخناتون في مصر التي أمضى موسى طفولته وصباه وشبابه في ربوعها متأثرا بعقيدة التوحيد الفرعونية التي كانت تؤمن بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت بين يدي الله.
وإذ يلخص هذا الكتاب كثيرا من مظاهر الإساءة إلى شخص النبي موسى وسيرته المطهرة على أيدي أحبار الملوك الذين كرسوا دورهم الكهنوتي لتوظيف العقيدة الدينية في خدمة الملوك، فإننا نكتفي بإيراد هذه الواقعة التي يذكرها أحد أسفار التوراة وهو سفر الملوك الذي جاء فيه أن موسى سمح لملوك بني إسرائيل بسرقة أموال الناس، وأوصى الناس بالصبر على ما يأخذه الملوك من أمتعة وذهب وفضة وأراض، لأن ذلك يتم بمشيئة الرب وعلمه.
وفي كتابه الرائع (تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم) (الجزء 11) علق المفكر الاسلامي محمد عزت دروزة على هذا النص بقوله إن فكرة استحلال أموال الناس وسلبها بأية وسيلة ولو لم تكن حالة حرب ودفاع عن النفس كان لها تأثير سلبي ليس فقط على العقيدة الدينية التي تعرضت للتحريف، بل على مصير بني إسرائيل وملوكهم أيضـا . لكن الأستاذ دروزة لم يشر إلى تسلل هذه المعتقدات اليهودية التلمودية إلى الفقه الإسلامي ، عندما اخترع فقهاء الاستبداد أحاديث موضوعة ونسبوها إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وزعموا فيها أن رسولنا الكريم دعا المسلمين إلى طاعة ملوكهم وأمرائهم ،والصبر عليهم حتى ولو جلدوا ظهورهم ونهبوا أموالهم بحسب رواية وضعها بعض الفقهاء المسلمين بعد تحول دولة الخلافة الى نظام ملكي وراثي عضوض ، ثم نسبوا هذه الرواية زورا وبهتانا الى النبي محمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يعتمدها ابن حنبل والبخاري ومسلم ضمن الأحاديث الصحيحة ، وصولا الى اعتمادها بعد مئات السنين على أيدي ابن تيمية وابن الجوزية وابن رجب الحنبلي ومحمد بن عبدالوهاب كايديولوجيا سياسية مستمدة من مفهوم سلفي متكامل للشريعة الاسلامية باعتبارها ( وحيا ثانيا ) من الله ، بحسب زعمهم !!!!
من نافل القول إن الإسلام لا يعترف بالأسفار الملحقة بالتوراة، لأنها ليست من الكتب المقدسة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق مصدقـا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس) (آل عمران 2 - 3)، (ومن قبله كتاب موسى ) (الاحقاف - 12)، وبالإضافة الى ذلك فإن الله لا يعترف بما نسبه الأحبار إلى النبي موسى عليه السلام في تلك الكتب التي زعموا أنها الوحي الثاني.
وبالنظر إلى أن كتاب موسى المذكور في القرآن والموحى إليه من الله، يختلف عن كتب الروايات والأحاديث الشفاهية التي نسبها الأحبار إلى النبي موسى عليه السلام في أسفار التكوين والملوك والقضاة ويوشع، وزعموا أنها (الوحي الثاني )، تبرز تساؤلات مشروعة عن مصير التوراة التي أوحى بها الله إلى موسى عليه السلام. لكن الإجابة على هذه التساؤلات لا يمكن فصلها عن قول الله في القرآن الكريم بأن اليهود أهملوا بعضـا من التوراة فأصابه الضياع، بينما حرفوا البعض الآخر بما يخدم مصالح ملوك بني إسرائيل وأحبارهم ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظـَّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (سورة المائدة - الآية 13).
إلى ذلك تقول كتب التاريخ اليهودية أن النبي موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة ووضعها في تابوت مع لوحين حجريين بحسب ما أورده الأحبار الذين كتبوا (سفر الخروج). ثم جاء عهد الملك سليمان وفتح التابوت بعد أن وضعه في الهيكل، لكن اليهود فوجئوا بعدم وجود نسخة «التوراة»، بينما وجدوا فقط اللوحين الحجريين. وكان عهد الملك سليمان قد شهد أحداثـا مثيرة ليس أقلها انتشار الاستبداد وحروب التوسع وما رافقها من نهب وسلب على نحو ما حدث عند غزو بيت المقدس، بل إنها وصلت إلى الردة والعودة الى عبادة الأوثان وعبادة آلهة الأقوام والشعوب المجاورة. وبعد وفاة الملك سليمان ووصول الملك يوشيا إلى الحكم (629 - 598 ق. م) لم يخف الملك الجديد ميوله للتدين والعودة إلى الإيمان واتباع تعاليم التوراة بهدف إنقاذ مملكته من الفوضى والدمار. بيد أنه اعتمد على مجموعة من رجال الدين الكهنوتيين وعلى رأسهم الكاهن حلقيـا الذي أدعى بعد سبعة عشر عامـا من وصول الملك يوشيا إلى الحكم أنه وجد نسخة التوراة في بيت المقدس !!؟؟
وبحسب كتاب (إظهار الحق) للعلامة رحمة الله الهندي (ص 323 - 335) لا يعقل أن توجد نسخة التوراة في بيت المقدس ولا يراها أحد سواه قبل وصول الملك يوشيا إلى الحكم، أو خلال السبعة عشر عامـا الأولى من حكمه . لكن الهدف الحقيقي من وراء هذه القصة يكمن في لجوء الكهنة ورجال الدين في عهد الملك يوشيا إلى استغلال ميول الملك في العودة إلى الدين ، وتوظيفها في وضع واختراع الأحاديث والروايات المنسوبة إلى النبي موسى عليه السلام، وصولا إلى الادعاء بأنها تشكل ما يسمى (الوحي الثاني) ، بعد أن قاموا بتدوينها في أسفار التوراة، وهو ما تناولناه في حلقة سابقة أوضحنا فيها انحراف معتقدات أتباع اليهودية الأوائل، وتنكرهم للتوراة، لأنها تختلف عن ممارساتهم وطبائعهم، فأضافوا إليها الأحاديث والراويات الشفوية من خلال أسفار التوراة، بما يتناسب مع ما يرونه متوائمـا مع مصالحهم من تاريخ وعقيدة حيث انطبق عليهم القول الحق : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (سورة الجمعة الآية 5).
تأسيسـا على التاريخ اليهودي بكل تناقضاته وشبهاته ظهرت مذاهب وضعية تختلف في مبادئها وطقوسها ونظرتها إلى الكون وما وراء الكون، وأهمها الفريسيون الذين يعتقدون في مذهبهم بأن أسفار التوراة الخمسة خلقت منذ الأزل، وكانت مدونة على ألواح مقدسة ثم أوحي بها إلى موسى. وبموجب هذا المذهب ـــ الذي تسلل إلى المسيحية ومنها إلى بعض الفرق الإسلامية مثل المعتزلة ـــ يرى الفريسيون أن تدوين (الوحيين) (التوراة والأسفار) هو في الحقيقة إعادة تدوين للوحيين بعد ضياع التوراة، وهو الأمر الذي مهد الطريق لظهور (التلمود) بوصفه الكتاب الجامع للسنة النبوية لموسى عليه السلام بحسب زعم التلموديين.
ويرى الفريسيون أن التوراة ليست هي كل الوحي، بل هناك بجانب التوراة وحي ثان هو الروايات الشفوية التي تناقلها الأصفياء والأحبار، وعلى أساسها صاغ الأحبار والحاخامات الأسلاف مجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير التي تدخل ضمن الشرائع الدنيوية باعتبارها التوراة الشفوية الموحى بها أيضـا من الله بحسب مزاعم (التلمود).
إلى جانب مذهب الفريسيين ظهر أيضـا مذهب آخر عرف أتباعه بالصدوقيين نسبة إلى الكاهن صادق الأعظم أحد كهنة الملك سليمان. وينكر الصدوقيون في مذهبهم التعاليم الشفوية (التلمود) وأسفار التوراة، و لا يرون أنها مقدسة مطلقـا، ولا يقولون بالقضاء والقدر، ويؤمنون بحرية الاختيار ويرون بأن الأفعال مخلوقة للإنسان لا لله ، وينكرون كذلك المسيح المنتظر الذي بشرت به الأسفار.
ثم ظهر مذهب ثالث هو القراؤون وكانوا يمثلون قلة بين اليهود، لكن نفوذهم اتسع بعد تدهور شأن الفريسيين، حيث كان كل مذهب يقوى وينتشر تبعـا لموقف الملك منه، فإذا تبنى ملك ما من بني إسرائيل أحد المذاهب، زاد نفوذ أتباعه ولحق الاضطهاد والضعف بأتباع المذهب الذي كان يؤمن به الملك السابق.
أما المذهب الأساسي الرابع في اليهودية فهو مذهب (المتعصبين) وقد كانوا بحسب ما تقوله كتب التاريخ قريبين جدا إلى مذهب الفريسيين من حيث الاعتقاد بالمسيح المنتظر، والإكثار من التعبد والمبالغة في طقوس العبادة، لكن هذا المذهب تميز بالعدوانية وعدم التسامح والإفراط في التكفير. وترتب على هذا المذهب قيام أتباعه بخلق الفوضى والاضطرابات في أي منطقة يتبنى ملوكها وأمراؤها عقيدتهم . ولذلك يرى كثير من الباحثين في تاريخ اليهودية أن هذا المذهب بدأ كحركة دينية لمحاربة ما يراه أتباعه بدعا وخروجـا على تعاليم الرب، ولكن تشددهم قادهم إلى ارتكاب جرائم بحق المخالفين نقلتهم من دائرة الدين إلى الدنيا.
مسيرة تأميم المذاهب
ولئن كانت المذاهب السابقة تختلف في كثير من المعتقدات والتصورات بما فيها الموقف من التلمود، إلا أن أتباع التلمود نجحوا لاحقـا في تأميم كافة المذاهب اليهودية الملكية على نحو ما فعله ملوك دولة الخلافة العباسية قبل سقوطها ، ومن بعدهم فقهاء المماليك وعلى رأسهم ابن تيمية ، وصولا الى فقهاء ملوك وسلاطين جزيرة العرب وفي مقدمتهم الامام محمد بن عبدالوهاب في تأميم وتجويف كافة المذاهب السنية، وكذا ما فعله أتباع الامام جعفر الصادق في تجويف وتأميم مختلف الفرق والمذاهب الشيعية، حتى تم اختزال الاختلافات بين المذاهب الشيعية والمذاهب السنية في دائرتين محوريتين فقط ، الدائرة الأولى يمثلها الفكر الملكي الوهابي القائم على فكرة وجوب طاعة الملك بما هو ولي الأمر حتى ولو ظلم المحكومين وجلد ظهورهم ونهب أموالهم ، بحسب ما جاء في كتب ابن حنبل و البخاري ومسلم ، فيما تتمثل الدائرة الثانية في الفكر الإمامي الجعفري القائم على فكرة وجوب طاعة الولي الفقيه بما هو ممثل الامام الوصي الغائب . والمثير للدهشة أن هذه الاختلافات بقيت شكلية فقط بعد ان تحولت الى قواسم مشتركة في مضامين العديد من كتب الفقهاء والمؤرخين السنة والشيعة على حد سواء، وبضمنها كتاب ( روضة الكافي ) للكليني ، وكتاب (بحار الأنوار ) للمجلسي وكتاب (نهج البلاغة) للشريف الرضي وهي من أشهر الكتب المعتمدة لدى الشيعة .
ومما له دلالة ان الأساس الفقهي لكل من المذهب الملكي السني والمذهب الامامي الشيعي يستند الى روايات ملكية وإمامية وضعية اخترعها المؤسسون الأوائل من ملوك وائمة وفقهاء كل من هذين المذهبين ( السني والشيعي ) ثم نسبوها الى الرسول عليه الصلاة والسلام ، على نحو ما فعله قبل الاسلام ملوك وأحبار بني اسرائيل وملوك وكهنة العالم المسيحي عندما اخترعوا روايات وأحاديث ملكية وضعية ، ثم نسبوها الى كل من النبيين الكريمين موسى وعيسى عليهما السلام .
وبوسع الباحث الموضوعي اكتشاف هشاشة الروايات التي يستند اليها كل من المذهبين السني والشيعي بواسطة فحص و نقد مسانيد ومتون الروايات من جهة ، بالاضافة الى نقد الاستدلال النقلي والاستدلال التاريخي وصولا الى نقد التناسخ الشكلي والتشابه الموضوعي في البناء الميثولوجي للروايات من جهة أخرى .
كما يمكن اكتشاف جوانب أخرى من هشاشة الاساس الفقهي للمذهبين السني والشيعي من خلال اختلاف بل وتناقض تفسيرات الفقهاء السنة والشيعة لنصوص القرآن الكريم سواء في حقبة زمنية واحدة ، أو في حقب زمنية مختلفة . مع الأخذ بعين الاعتبار ان الاختلافات والتناقضات في تفسير القرآن الكريم لا توجد فقط بين فقهاء المذهب السني وفقهاء المذهب الشيعي تبعا ً لمعتقدات كل منهم، بل انها تذهب في احيان كثيرة الى سياقات متناقضة في التفسير بين فقهاء المذهب الواحد ، الأمر الذي دفع بعض المؤرخين والمفكرين المسلمين المعاصرين والمتقدمين الى القول بأن الفقهاء لم يقوموا بتعريف الاسلام ، بل قاموا بتقديم تفسيرهم ( الأحادي) للاسلام وفهمهم ( الخاص ) لشريعته انطلاقا من بيئة تاريخية محكومة بمحددات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا يمكن بدون دراستها فهم طبيعة الصراعات التي دارت بين المسلمين حول السلطة والثروة في القرون الثلاثة الأولى تحديدا والقرون اللاحقة عموما ، وما ترتب على ذلك من وصول كل من المذهب الملكي السني والمذهب الامامي الشيعي الى طريق مسدود ، لينفتح بعد ذلك على طريق طويل من السقوط والنهوض خلال مدى زمني يزيد على ألف عام منذ سقوط بغداد في منتصف القرن الرابع الهجري حتى الآن . وهو ما يمكن ملاحظته بكل وضوح عند تناول المسار التاريخي للمذهب الشيعي الذي نشأ في القرن الهجري الأول على أيدي أتباع الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، في موازاة المذهب الملكي السني الذي نشأ على أيدي فقهاء وأتباع معاوية بن ابي سفيان !!
والثابت ان مواجهة هذه الأفكار يتطلب الحوار معها ونقدها وتفكيك بنيتها وإظهار ضلالها ، الأمر الذي يقتضي الحذر من تكفيرها ومحاربة اتباعها بالعنف تحت مسمى الجهاد في سبيل الله ومحاربة الكفر والردة عن دين الله ، ومن أهم ملامح الجهاد الاسلامي، يقول تعالى ( ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) .( الفرقان52-51 ) .
ولا نبالغ حين نقول أن القرآن هو الرسول القائم بيننا طالما ظل هناك قرآن يتلى، وطالما هو محفوظ بقدرة الله جل وعلا الى قيام الساعة. ومهمة القرآن أن يظل حجة الله تعالى على الناس الى قيام الساعة. لأن النبي بشر مات ولا تجوز عبادته بحسب ما روته كتب التاريخ المعتبرة على لسان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فور وفاة النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام : (( من كان يعبد محمدا فان محمدا بشر قد مات .. ومن كان يعبد الله فان الله حي لايموت )) .
وقد شرح القرآن الكريم مهمة ابليس وهي تضليل الناس وإبعادهم عن الطريق المستقيم أي وحي الله تعالى الحق، وخداع الناس بالأمنيات الباطلة أي بدخول الجنة مهما عصوا ومهما رضخوا للحكام الظلمة “الأعراف 16 - 17 “”النساء 118-120”. وهذه المهمة الشيطانية لها وسائل محددة تماثل وسائل الهداية ونقصد بها الوحي. فكما يوحي الله تعالى للأنبياء كذلك يوحي الشيطان لأوليائه. عن القرآن يقول تعالى : «وانه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»... « وما تنزلت به الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون، انهم عن السمع لمعزولون.». وبعدها يقول تعالى عن الوحي الشيطاني «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم . يلقون السمع وأكثرهم كاذبون.» الشعراء 195-192،،،210 ـ 212 ،، 223-221.”
من نافل القول ان الشياطين تختار أكثر البشر كذبا واثما “أفاك أثيم” ليتسلط على الناس ببث أكاذيبه يقنعهم أنها من عند الله تعالى أو رسوله. يسميها وحيا أو مناما أو هاتفا في يقظة أو منام. ويلقي اليه الناس اسماعهم ، وأكثرالمستمعين كاذبون يروي ويحكي عنه مصدقا له ،أو يكتب عنه ما يقول وينسخها أي يكتبها ويشاء الله تعالى أن يسمح بهذا التصرف فتتكاثر كتب الوحي الكاذب ونسخها “الحج 55-52”. اولئك هم اعداء الأنبياء أو شياطين الانس بتعبير القرآن الكريم .يقول تعالى عنهم: « وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون».
ويقول تعالى عن المستمعين المبهورين بهذا الوحي الضال: «ولتصغى اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون » .
ثم يجعل الله تعالى القرآن الكريم حكما على هذا الوحي الكاذب فيقول: « أفغير الله ابتغي حكما؟ وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا ؟.» الأنعام 113-112 “وهكذا يكون الجهاد بالقرآن ضد اولئك الذين افتروا على الله تعالى كذبا وكذبوا بآياته، وهم الذين جعلهم الله تعالى اظلم الناس جميعا: «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته.» الاعراف 37 يونس 17””.
الجهاد هنا فكري عقلي بالقرآن ليواجه الأكاذيب التي ينسبونها لله تعالى ووحيه ورسله. ليس موجها للأشخاص مثل الجهاد القتالي ولكنه موجه للوحي الكاذب نفسه يحتكم فيه لكتاب الله تعالى، محذرا الناس منه، وللنصح والتذكير وليس للسب والتكفير..
قبل طرد ابليس من الملأ الأعلى - بسبب عصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم - قال ابليس متحديا رب العزة جل وعلا عن ذرية آدم ـــ أي عنا : «..لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين»”الأعراف17-16.” ومع أن الله تعالى كشف ألاعيبه وأوضح وسائله الا أنه ينجح دائما في خداع الأكثرية من البشر حتى الآن والى قيام الساعة ، والسبب انه لا يقدم لهم نفسه كشيطان عدو للرحمن ولكن من خلال تحريف الأديان السماوية ، بروايات وضعها بعض الرهبان والأحبار وفقهاء الملوك والسلاطين ، ثم نسبوها بعد ذلك الى الله ورسله بدعوى انها وحي ثان من عند الله . وقد أخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم بما سيقوله للبشر الضالين يوم القيامة وقد خدعهم ابليس جيلا بعد جيل بسبب التقليد وعبادة المتوارث والتراث دون فهم او تعقل.
ولسوف يذكـِّـر الله تعالى كل الضالين جميعا يوم القيامة بما نسوه (ألم أعهد اليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون.»”يس 60 - 63 . وفي جهنم سيجدونه بينهم : (وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان . الا ان دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم..) ( ابراهيم23 ) ، ثم يضيف الله جل وعلا قائلا: (انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار).”غافر 52-51”.
الكهنوت ومحاكم التفتيش
وبحسب ما قاله فضيلة الشيخ الدكتور احمد صبحي منصور في كتابه ( كهنة الملوك ) فقد أجمع الكثير من المفكرين الاسلاميين على أن ما ينطوي عليه الكهنوت هو ادعاء التحدث باسم الله، ولذلك فإنه حيث يوجد الكهنوت يوجد اتهام بالكفر وتوجد محاكم التفتيش، وتوجد صكوك الغفران، وليس فى الإسلام كهنوت، ولنتذكر أن الله تعالى دعا أهل الكتاب لنبذ الكهنوت حين قال ﴿«قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ»﴾ (آل عمران 64).
كما أثبت التاريخ أن محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في العقيدة يأتي دائماً فى العصور التي يسيطر فيها الكهنوت وتقديس البشر من الأئمة والأولياء والأحبار والرهبان لارغام الآخرين على الاستسلام لهذا الضلال ، بينما ينعدم ذلك في عصور التدين الصحيح المرتبط بحرية التدين وعدم الاكراه في الدين..ففي عصر الرسول والخلفاء الراشدين لم يعرف المسلمون محاكم التفتيش أو حد الردة المزعوم.. مع أن الدولة البيزنطية كانت تضطهد الأقباط المصريين وتقيم لهم محاكم التفتيش بسبب الخلاف في طبيعة المسيح عليه السلام، لذلك كان ترحيب المصريين بالفتح العربي لأنهم كانوا يتوقون لمن ينقذهم من الاضطهاد الروماني الديني..لأن الله تعالى لم يضع تشريعاً لمعاقبة الذين يسارعون في الكفر بعد الإيمان لأنهم كما قال الله تعالى ﴿لن يضروا الله شيئا﴾ . أما الكهنوت الديني والسياسي فهو يلجأ لمعاقبة الخصوم لأن أولئك الخصوم سيضرونهم شيئاً وأشياء..
والحال أن الكهنوت يقوم على أسس خرافية تجافي العقل وتعارض الحق وتنافي دين الله تعالى، وحيث تنعدم الحجة فالسبيل الوحيد هو استعمال القوة.. ولذلك يقيم الكهنوت يوماً للحساب قبل يوم الحساب ويقعد محاكم التفتيش قبل يوم القيامة ويزعمون أنهم يحكمون باسم الله مع أنهم في الحقيقة يغتصبون حقوق الله..
وبوسع من يقرأ كتاب ( اليهودية ) للدكتور أحمد شلبي (أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة) ملاحظة أن أكثر اليهود يعتبرون (التلمود) كتابـا منزلا من السماء بواسطة ما يسمونه الوحي الثاني ويضعونه في منزلة التوراة، ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة، لكنه أعطاه مثلها شفاهة وهو التلمود الذي تم تدوينه استنادا الى روايات واحاديث تناقلها الرواة . ويرى بعضهم أن لا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط، لأن أقوال علماء التلمود غالبة على ما جاء في شريعة موسى وشرائع أنبياء العهد القديم التي ورثها عنهم هؤلاء (العلماء).. بل إنهم يقولون إن التلمود وإن كان في مجمله روايات شفاهية تداولها الأصفياء وقام بتدوينها الأحبار والحاخامات فهي أيضـا جزء لا يتجزأ من التوراة، لأن أقوال الأصفياء والأحبار منقولة عن وحي الله الشفاهي للنبي موسى، وأن الله ائتمن الأحبار والحاخامات على شريعته في الأرض، وإذا خالف أحد من اليهود أقوال الحاخامات يُعاقب أشد العقاب . لأن الذي يخالف شريعة موسى فإن خطيئته قد تصغر، أما من يخالف التلمود فيعاقب بالقتل، لأنه ينكر الوحي الشفاهي على نحو ما جاء في كتاب (الكنز المرصود في قواعد التلمود - 29 - 30)، الذي أعده مؤرخان فرنسيان يهوديان مشهوران وهما روهلنج وشيل لوران، وترجمه الى العربية الدكتور يوسف نصر الله، وهو من كبار المسيحيين في مصر، فيما راجع الكتاب الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا - رحمه الله.
أما أهم ما احتواه (التلمود ) من عقائد تركت آثارها على التاريخ اليهودي والمسيحي والإسلامي لاحقـا ، فهي عقيدة تجسيم صفات الله في ملوك بني إسرائيل. وانطلاقـا من هذه العقيدة، يرى التلمود أن اليهودي بما هو إنسان يحمل صفات الله الذي خلقه على مثاله، فإذا ضرب أمي إسرائيليـا فكأنه ضرب الملكوت الالهي، أما الفرق بين صفات الإنسان وصفات الحيوان فهو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود، فكما لا يجوز قتل الانسان إذا قتل حيوانـا، فلا يجوز قتل اليهودي إذا قتل غير يهودي . وقد تسللت هذه المعتقدات الإسرائيلية إلى كثير من المعتقدات المذهبية الوضعية في التاريخ المسيحي والإسلامي لاحقا.
محاكمة المسيح على ايدي كهنة الهيئة العليا للوحيين
ومما له دلالة تاريخية ومغزى عميق إن القول بوجود وحيين أنزلهما الله على النبي موسى عليه السلام ـــ الوحي المكتوب في التوراة والوحي الشفاهي الذي تم تدوينه في التلمود بعد ثلاثمائة عام من وفاة النبي موسى وأصفيائه ـــ أفرز عقيدة مركبة فتحت الباب لأن يكون بعضها توحيديا والبعض الآخر حلوليا من خلال مذاهب اعتقادية متناقضة. لكن ذلك لا يمنع القول بأن ثمة قاسمـا مشتركـا بين جميع كل تلك المذاهب وهو دنيوي بطبيعة الحال .. ويتمحور هذا القاسم حول اتفاق هذه المذاهب على الاعتقاد بوجود وحي ثان إلى جانب التوراة، لكنها تختلف فيما بينها في تعريف هذا الوحي وتحديد نطاقه ، حيث يؤمن اتباع بعض المذاهب بروايات منسوبة للنبي موسى ويعتبرونها صحيحة، بينما ترفضها مذاهب أخرى، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن المصالح الدنيوية كانت تفرض على الملوك والأحبار وحاخامات هذه المذاهب نوعـا من التقريب والتوافق في المواقف على نحو ما تجسد في ما تسمى الهيئة العليا للوحيين التي أنشأها الأحبار والحاخامات في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، والتي قامت بمحاكمة المسيح عليه السلام ، وأقرت صلبه وقتله . فقد كان يجلس الصدوقيون الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث واليوم الآخر إلى جانب الفريسيين الذين يخالفونهم معتقداتهم، لكنهم جميعـا كانوا يتفقون على ضرورة استخلاص أحكام تشريعية من العقائد الشفوية وهو ما يسمى (الشريعة الشفوية) التي تجسدت في (التلمود) كخلاصة لروايات وأحاديث شفوية منسوبة للنبي موسى عليه السلام، نقلا عن الأصفياء المقربين الذين عاصروه في حياته بحسب مزاعم رواة تلك الروايات الشفوية الموصوفة بأنها ( وحي ثان ) !!
وقد تم الحكم بإعدام المسيح عيسى عليه السلام ليس على أساس شريعة التوراة، بل على أساس الشريعة الشفوية التلمودية وما ترتب على ذلك من فتح الباب أمام انحرافات عقائدية وصلت ذروتها إلى حد ارتكاب جرائم بشعة بسبب ارتباط الدين بالملكية، حيث سار الملوك اللاحقون في القرون الأخيرة السابقة للميلاد ـــ بمن في ذلك الملوك الذين اعتنقوا المسيحية بعد الميلاد ـــ على نهج استخدام العقيدة الدينية كغطاء لحروب التوسع وفرض الخراج والضرائب وتحويل الأسرى إلى عبيد وسبايا ، وتصفية الخصوم بتهم الردة والهرطقة ، فيما أفرط آخرون في تهديد الملوك الذين كانوا يعبدون النار والشمس بالغزو مقابل الاستسلام ودفع الخراج أو الزواج، كما حدث للملك سليمان الذي هدد ملكة سبأ بغزو بلادها وإذلال أهلها إن لم توافق على السفر إليه والزواج به، بعد أن نجحت هذه الملكة في بناء دولة قوية ومزدهرة .
في هذا السياق تحدث القرآن الكريم بإجلال عن مناقب ملكة سبأ التي أفلحت في قيادة وإدارة شؤون مملكتها بالشورى والحكم الرشيد ، حتى أصبح أهلها ذوي قوة وبأس شديد، فيما تحدثت كتب تاريخية عن أن الملك سليمان جمع أكثر من سبعمائة زوجة، وكان معظم هذا العدد من صفوة نساء الأسر المالكة اللاتي تزوج بهن الملك سليمان، عن طريق حروب التوسع أو التهديد بالغزو.
في هذا السياق التاريخي ثمة قصص يرويها سفر الملوك عن الصراعات بين ملوك بني إسرائيل. فثمة ملك ثار على ملك، وآخر غدر بأخيه وثالث تآمر على ابن عمه بواسطة زوجته بعد ان أصبحت عشيقة له ، ورابع أسرف في اضطهاد العبيد وإفساد الأرض وفرض الضرائب وانتزاع الأراضي من الفلاحين، فتحالف الفلاحون ضده مع العبيد وانقلبوا عليه وعينوا أحد الأحبار ملكـا بديلا.. وهكذا دواليك.
صحيح أن هذه الانحرافات قد ارتبطت بتسخير الدين من أجل الصراع على السلطة والثروة والشهوة بحسب الدكتور أحمد شلبي في كتابه القيم (مقارنة الأديان - الجزء الأول)، ثم تركت آثارا سلبية على الحياة الروحية للمجتمع آنذاك تحت تأثير الربط بين الدين وسلطة الملك، ما أدى إلى الفصل بين الدين والأخلاق، إلا أن التأثير السلبي الأبرز لهذه الانحرافات امتد ليشمل بنية العقيدة الدينية من خلال فقهاء المذاهب المتصارعة على نحو ما جرى بين ملوك بني إسرائيل في مواجهة بعضهم البعض من جهة، وبين ملوك بني إسرائيل في مواجهة الملوك والمحكومين من غير بني إسرائيل من جهة أخرى.
وقد لعب الأحبار والحاخامات الكهنة دورا سلبيـا كبيرا في تكييف العقيدة الدينية وتوظيفها للأغراض والأطماع السياسية التي كانت تختفي خلف مذاهب يهودية وضعية قامت على أساس روايات منسوبة إلى النبي موسى قبل أن يتم تدوينها في ما يسمى (الشريعة الشفوية) أو الوحي الثاني المدون في (التلمود)، حيث قام أسلاف اليهود من الأحبار الذين تحالفوا مع ملوك بني إسرائيل بإضفاء القداسة الدينية على هذه المذاهب، من خلال الزعم بأنها امتداد للتوراة والوصايا والشرائع التي أوحى بها الله الى النبي موسى عليه السلام، وصولا إلى التدليس بأن الشريعة الشفوية هي الوحي الثاني الذي لم يكن منطوقه مدونـا في التوراة التي حفظها الله في الألواح الضائعة بحسب زعمهم.. ثم أضافوا إلى تلك المزاعم أن الروايات المنسوبة إلى موسى عليه السلام في كتب الأسفار هي وحي آخر تناقله أصفياء النبي موسى وهارون بعد وفاتهما، ثم قام الأحبار بعد ذلك بجمع وتدوين الوحي الثاني باعتبارهم ورثة لأنبياء بني إسرائيل وهي الصفة التي أطلقها على الأحبار والحاخامات الإصحاح العاشر من سفر يوشع وكتاب (التلمود) الذي كان أول من تحدث عن وجود وحيين من الله ..الأول أجمله الله في التوراة، والثاني دونه الجيل الثاني من الأحبار والحاخامات في (التلمود) الذي يصفه اليهود بأنه السنة النبوية لموسى عليه السلام، بحسب ما جاء في (التلمود) والإصحاحين التاسع والعاشر من سفر يوشع، وهو ما انتقل بشكل ملحوظ إلى المسيحية بعد ذلك ، ثم تسبب في ظهور مذاهب وضعية ألقت ظلالا مثقلة بالأساطيرالاسرائيلية على تاريخ المسيحية والاسلام في وقت لاحق .. والمثير للدهشة أن هذه الظلال والأساطير الاسرائيلية التلمودية الثقيلة التي تخلص منها أتباع الديانة المسيحية في أوروبا بعد ظهور الثورة العلمية وسقوط محاكم التفتيش ، أصبحت مكونا أساسيا لايديولوجيا الاسلام السياسي الحركي الذي يتبنى مفهوما للشريعة الاسلامية لا يخلو من رواسب العقائد التلمودية منذ ظهور الدعوة الوهابية في شبه جزيرة العرب ، وتحولها في ما بعد الى بيئة حاضنة لحركة الاخوان المسلمين والجماعات الجهادية والسلفية التي خرجت من جلبابها ، ونشأت على أطرافها وتخومها .. وسوف نقوم بعرض ومناقشته هذه الايديولوجيا السياسية الملتبسة بالدين ، وتقديم الأدلة العلمية والتاريخية على فسادها وعوارها قريبا جدا باذن الله في صحيفتي ( 26 سبتمبر ) و ( 14 اكتوبر ) ، اسهاما من كاتب هذه السطور المتواضعة في دعم نشاط وعمل فرق العمل التسع التي انبثقت عن مؤتمر الحوار الوطني .. ولله الشكر والحمد من قبل ومن بعد .
لا تقرأ هذا .. الجذور الإسـرائيلـية لـــفـقه الاستبداد
أخبار متعلقة