قرأت كتاباً شيقاً ومفيداً في بابه للشيخ يوسف القرضاوي عنوانه: “في فقه الأولويات” عالج فيه قضية اختلال النسب واضطراب الموازين من الوجهة الشرعية في تقدير الأمور والأفكار والأعمال وتقديم بعضها على بعض وأيها ينبغي أن يؤخر وأيها ترتيبه الأول وأيها الأخير في سلم الأوامر ولاسيما مع ظهور الخلل في ميزان الأولويات في عصرنا.
وقد ذكر المؤلف في كتابه الآنف الذكر بعض الأمثلة على فقه الأولويات نذكر منها تقديم العلم على العمل وتقديم المقاصد على الظواهر وتقديم الكيف على الكم وتقديم القلوب على أعمال الجوارح وتقديم العمل في وقت الأزمات والمحن والفتن على اعتزال الناس والجلوس في المنازل والبيوت .. سيتساءل القارئ اللبيب ما علاقة قراءة كتاب “في فقه الأولويات” للقرضاوي بعنوان مقالتنا التي تتساءل عن أولوية تنظيف المدن من القمامة أولاً أم تنظيفها من السلاح..؟! وتأتي الإجابة من أحد المواطنين الذين ظهروا على شاشة التلفزيون وشاركوا مؤخراً في حملة تنظيف أمانة العاصمة صنعاء من أكوام القمامات وأطنان الكداديف التي تراكمت طوال مدة الأزمة التي مرت بها البلاد فعندما سأل مذيع التلفزيون ذلك المواطن عن رأيه في حملة النظافة أجاب: لقد نظفنا العاصمة من القمامات والكداديف وعندنا الاستعداد لتنظيف أي مكان آخر في أقصر مدة ممكنة ولكن من سينظف لنا المظاهر المسلحة ومشاهد حاملي السلاح الذين يتجولون في كل ساحة وشارع وركن وممر وزقاق من العاصمة صنعاء وغيرها من المدن اليمنية الأخرى يهددون أمننا وسلامتنا واستقرارنا النفسي والاجتماعي على الرغم من وجود لجنة أمنية وعسكرية تقوم بهذه المهمة وقد بذلت جهداً تشكر عليه إلا أن انتشار السلاح ما زال يمثل عائقاً أمام الجميع خاصة ونحن على أعتاب التحضير لمؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي يتطلب تهيئة أجواء آمنة مطمئنة تضمن تقاطر الوفود إلى المدينة التي سيتم تدشين الحوار فيها. صحيح أن تنظيف المدن من الأوساخ والقمامات سلوك حضاري راق وهو من الدين وضرورة عصرية مستمرة في الحياة اليومية لأن القمامات والكداديف والأوساخ جالبة للجراثيم الضارة والميكروبات المسببة للأمراض الفتاكة التي تفتك بحياة الكثير من الناس وتهدد وتؤثر وتعيق صحتهم واستقرارهم النفسي والاجتماعي والعملي وتعطلهم عن مواصلة سير أعمالهم وشؤون حياتهم بصورة طبيعية وسلسة ومألوفة .. لكن حامل السلاح غير المنضبط يمكن أن يزهق روحاً بريئة في لحظة طيش أو نزق أو انفعال أو رد فعل متشنج من شخص تربى على العادات السيئة للقبيلة كالثأر ونحوه وحمل السلاح الذي تربى وهو يحمله منذ الصغر ولا يسمع أو يشاهد إلا فلاناً قتل فلاناً وعلاناً انتقم من فلتان أو زعطان ولا يجد راحته إلا في حديث القتل وكأنه في رحلة صيد ثمين وهكذا سلوك بعض النعرات القبلية المتطرفة الناتجة عن الجهل بحقوق الآخرين وآدميتهم واختلافهم عن تفكير حامل هذا السلاح والمعجب به وكأن رجولته وفحولته لا تكتمل إلا بحمل آلة القتل والدمار وإفناء الحياة وهذا السلوك السلبي مناف لكل أعراف المجتمع المدني المتحضر القائم لا على الحرية والعدالة والمساواة والشورى والديمقراطية والرأي والرأي الآخر لا على سيطرة الشيخ أوزعيم القبيلة المستبد والقمعي .. فعلى الرغم من أهمية تنظيف المدن من الأوساخ والقاذورات والكداديف إلا أن أهمية تنظيفها من المظاهر المسلحة تبقى لها الأولوية القصوى لأن قتل نفس أو إزهاق روح معناه قتلاً وإفناء للناس جميعاً وإحياء نفس والمحافظة عليها معناه إبقاء الناس جميعاً أحياء يرزقون.
في الختام لماذا لا يتزامن تنظيف المدن من السلاح مع تنظيفها من القمامات في وقت واحد حتى لا نضع أنفسنا في مأزق الأولوية لمن؟ للدجاجة أم للبيضة، فالسلاح والقمامة وجهان لعملة واحدة تفتك بحياة الإنسان وتهددها بالفناء والدمار.
تنظيف المدن من القمامة أولا أم تنظيفها من السلاح..؟!
أخبار متعلقة