إن من دواعي اليأس والإحباط وعدم التفاؤل أن تجد في مجتمعنا عناصر وأفراداً وشخصيات اجتماعية وسياسية وأكاديمية وقبلية مرموقة وبارزة ومؤثرة تعيش في هذا الزمن المعاصر من الألفية الثالثة لكنها ما تزال متقوقعة داخل جلابيب آبائها وأجدادها وكأن إرث الماضي يقف عائقاً وعبئاً ثقيلاً عليها وعلى عواتقها لا تستطيع الفكاك منه ، والأغرب أنك تجد هذه الشخصيات تتكلم عن الحداثة والحياة المدنية وعن الحرية وحقوق الإنسان وعن الديمقراطية وعن العدالة والمساواة وعند ملاحظة سلوك وأفعال هذه الشخصيات تجدها على عكس ما تقول وتصرح به، وهذا الازدواج بين القول والفعل قد استنكره الحكيم العليم في كتابه الكريم وسماه مقتاً كبيراً وغضباً ويعتبر انحرافاً عن الفطرة التي يتطابق فيها القول والفعل والعمل.
ونعتقد بأن السبب يعود في ذلك إلى التربية وإلى النشأة الخاطئة وإلى التقليد الأعمى وعدم الخروج من جلابيب الآباء والأجداد أو الأسلاف أو التحرر من العادات السيئة المتوارثة . التقاليد الخشبية المحنطة والمعيقة للإبداع والتجديد والتطور والتغيير وإلا ما معنى أن يتفاخر كل شخص بانتمائه لقبيلته وعشيرته وعصبيته وجميعها من الماضي ولا يتفاخر بتحضره ومدنيته ومواطنته العصرية والمتحضرة.
والعجيب والغريب أن يتحدث هذا المشدود لماضيه عن المدنية والمجتمع المدني المتحضر ويزعم أنه مع حقوق الإنسان ونسمع أن لديه سجناً في قصره وداره ومنزله يقمع ويستبد بمن يشاء من رعيته ويصادر ما يشاء ويضطهد من يشاء وكأنه دولة داخل دولة وفي نفس الوقت يتكلم عن المساواة وهو يرى أن له أفضلية على غيره وعندما يتحدث عن الوحدة تجده ابعد عنها بسلوكه وتصرفاته وأفعاله.. وميزانيته من الدولة تدفعها له شاءت أم أبت !! وربما من دول صديق أو شقيقة..
إن الإنسان المرتبط بالماضي والمقيد به حاله هذه تشبه إلى حد كبير حال من يدور في حلقة مغلقة لا يستطيع الخروج من أسرها أو إطارها ولا يستطيع أن يتطور أو يتغير أو يتقدم لأنه يدور في حلقة مفرغة يراوح مكانه ويعيد إنتاج الماضي ولكن بصورة مزيفة ومقلدة ومشوهة ومستنسخة أما صاحب النظرة المتفاءلة المنفتحة على المستقبل المتحررة العقل والوجدان والتفكير من سجن الماضي وعبئه الثقيل فإن تفكيره هذا يشبه إلى حد كبير الخط المستقيم راسياً وأفقياً تراه يعيش لحظته التاريخية الراهنة ولا يعمل قطيعة تامة مع ماضيه بل يستفيد من أبدع وأجمل ماضيه دون أن يشعر أنه يمثل عائقاً في طريق تقدمه و استشرافه للمستقبل ويمضي بخطى ثابته وواثقة غير معقدة أو متحجرة قد يصيبها الإخفاق في بعض الأحيان لكنها تواصل العمل والجهد والإبداع من أجل الوصول إلى الهدف المنشود وتستفيد مما حولها حين ترى قوة الشعوب في تكتلاها الاقتصادية فتعمل على لملمة شملها وجراحها والاستفادة من قدرات أبناء الوطن اليمني الكبير في الوقت الذي يعيش بيننا أناس تفكيرهم ووجدانهم في الماضي غير الموجود ينظرون إلى قضاياهم ومشاكلهم من منظار قبيلتهم وعشيرتهم الماضوية ومن منظار منطقتهم الضيقة المعزولة عن الوطن الأكبر وعن الأمة العظيمة والدولة الكبيرة أولئك الناس هم ممن يريدون إرجاع عجلة التطور والتغيير إلى الوراء وإلى زمن الانقسام والتشظي والتشرذم وزمن الحروب والتربص بين الإخوة الأعداء بعد أن ألف الله بين قلوبهم و لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بينهم.
لماذا لا يتعظ هؤلاء من الأشقاء في السودان الأعلى والسودان الأسفل الذين كانوا كتلة واحدة وصاروا الآن كتلتين متصارعتين على الأرض والثروة والناس البسطاء في كلا البلدين يدفعون الثمن غالياً وها هي كوريا الشمالية تتربص بشقيقتها الجنوبية بل وتهددها بالأسلحة النووية المدمرة والجميع كوريون.
ولم يفكروا بأن العالم قد تحول في زمن العولمة إلى قرى كونية مصغرة ومتشابكة المصالح والأهداف والغايات وكادت أن تتلاشى الحدود والحواجز والموانع بين الدول بل وكادت أيضاً أن تختفي الهويات والخصوصيات التي تميز كل شعب عن الآخر و كل أمة عن غيرها في الوقت الذي يحن فيه البعض إلى العودة إلى مجده الغابر التليد وإلى نفوذه وعنجهيته وسطوته وسيطرته واستبداده وقمعه وجبروته القديم وإلى قبيلته وعشيرته التي تؤويه بعد أن وصلت البشرية إلى الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة المتساوية وكل هذا حدث بسبب العيش في الماضي وكأن الخالق العظيم قد خلق لنا أعيناً في مؤخرة رؤوسنا وليس في مقدمة نواصينا لنرى بها الماضي بدلاً من رؤية المستقبل. قال تعالى “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” صدق الله العظيم.
أيهما أفضل الانشداد للماضي أم النظر إلى المستقبل ؟!
أخبار متعلقة