[img]6.jpg[/img]عندما نتساءل ماذا يحدث للبنان، فكأننا في الوقت نفسه نتساءل: ماذا يحدث للوطن العربي، فما لبنان سوى جزء من هذا المحيط العربي المأزوم، وما يحدث فيه ليس سوى انعكاس لما يحدث في بقية الأقطار العربية باستثناءات محدودة . والوضع اللبناني لحساسية مكوناته الدينية والمذهبية التي طال عليها المدى، تجعله عرضة للاهتزاز والتأثر السريع والاستجابة الفورية لما يدور حوله، وما أسوأ ما يدور حول لبنان في هذه المرحلة لاسيما بعد انفراط القاسم المشترك بين أبنائه وهو العروبة التي اتخذت من لبنان الحديث مهداً لها في الفكر والإبداع الأدبي والفني، ووجدت اللغة العربية على أرضه اهتماماً غير مسبوق . وهو ما جعل منه إلى وقت قريب نموذجاً للتعددية والتنوع الديني والفكري والمذهبي، وجعل منه نموذجاً رائعاً للتعددية السياسية وتبادل السلطة سلمياً، وهي الصورة المعاصرة التي كان من شأنها أن تكون موضع اقتداء في الأقطار العربية التي أعلنت عن رغبتها في التطور وتجاوز أشكال الحياة التقليدية .ولعل من بين الأسباب التي وضعت لبنان في هذا الموقف انفجار الخصومات في أنحاء كثيرة من الوطن العربي، ووصولها إلى مرحلة الفجور وانعكاسها على هذا البلد الصغير المحشور بين الجبل والشاطئ . فقد ظهرت في الآونة الأخيرة، كما لم يحدث في أي وقت من قبل خلافات بين الأحزاب والمنظمات السياسية فتطورت إلى خصومات فاجرة، تذكرنا بالقول المأثور: «إذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر»، وهذه الخصومات الفاجرة جعلت كل طرف سياسي يدعو إلى اجتثاث الطرف الآخر، وإهالة التراب عليه وعلى تاريخه، وهو اختيار عدواني لا يدع مجالاً لإصلاح ذات البين أو تنقية الأجواء وتقريب وجهات النظر . فقد صار «الموت للآخر» هو الشعار الذي يرفعه الجميع ضد الجميع، ولا مجال لرفع شعار آخر يسوّي بين المتخاصمين ويضمن لكل طرف حقه ووجوده في الوطن الذي يتسع للجميع ويحتاج إلى جهود الجميع .وفي قلب هذا العصر المريع، عصر الخصومات الفاجرة ما الذي يستطيع لبنان أن يفعله بتجاربه وحكمته السابقة سواءً لنفسه أو لأشقائه؟ كما لا يستطيع أن يعتزل عن محيطه، ويبتعد بنفسه عن الحريق الذي يشبّ ويدمر كل شيء حوله . وليس في إمكانه أيضاً أن يحمي شوارع عاصمته بيروت وغيرها من المدن اللبنانية من السيارات الملغومة، وهو ما تشهده العواصم العربية ومدنها الكبيرة والصغيرة، وما يرافق ذلك الفعل الشنيع من قتلٍ للضحايا الأبرياء وترويعٍ للآمنين؟ وهل تمكنت الخنادق ونقاط التفتيش والإجراءات الاستثنائية من إيقاف الأفعال الشريرة التي لم يكن الشيطان نفسه يحلم بأن يشهد مثلها في بلدان كانت مثالاً للأمان والاستقرار، وكانت مدنها بمثابة الواحات الآمنة المطمئنة التي يجد فيها الإنسان بعضاً مما وعد الله به في جنات الخلد بعد عمر سعيد وكريم .إن مأساة لبنان - بكل تأكيد - لم تكن سوى جزء من مأساة الوطن العربي، وما معاناة أبنائه سوى جزء من معاناة أشقائهم. كما أن ما يحدث في بيروت يحدث أبشع منه بما لا يقاس في دمشق وبغداد، ويحدث مثله في صنعاء وبنغازي وفي مدن أخرى شاءت لها الخصومات الفاجرة أن تأكل نفسها وأن يحكمها الخوف ويسيطر على سكانها حال من الإحباط والشعور بفقدان الأمن المادي والنفسي، ولا غرابة أن تتقاطر صفوف من ضحايا اللحظة الراهنة على عيادات أطباء الأمراض النفسية بحثاً عما يعيد إلى نفوسهم قدراً من الطمأنينة ويبعد عن أذهانهم المشوشة أشباح الخوف والإحباط .
لبنان وعصر الخصومات الفاجرة
أخبار متعلقة