قامت واحدة من سمات الأدبيّات اللاساميّة للمسيحيّة الأوروبيّة، لدى وصف اليهود و «مؤامراتهم»، على جمع المتناقضات بكثرة وإفراط. فاليهوديّ، وفقاً لتلك الأدبيّات الهائلة الشيوع، متعصّب دينيّاً لا يندمج مع غير اليهود، وهو، في الوقت نفسه، لا يؤمن بأيّ دين ولا ينصاع إلاّ لمصالحه الضيّقة وغرائزه الجامحة. وهو، أيضاً، من اخترع الرأسماليّة لكنز المال ومصّ ثروة الأمم طفيليّاً، لكنّه، إلى ذلك، من اخترع الشيوعيّة لنشر الكراهية والفوضى. وهو محافظ، مؤيّد للأوضاع القائمة، تبعاً لمصالحه التي تتضارب مع مصالح الشعوب، وهو، أيضاً وأيضاً، ثوريّ خطير لا يفعل إلاّ تخريب الأوضاع والمؤسّسات والأعراف القائمة. وهو ضيّق الأفق، أبرشيّ، لكنّه أمميّ عابر للحدود، يحتقر الأوطان ويتآمر على القوميّات. وهكذا دواليك...تناقضات كهذه، بما تنمّ عنه من تعصّب أصحابها وجهلهم في وقت واحد، تحاصرنا نسخة منها في لبنان اليوم، طارحة أسئلتها الكبيرة والكثيرة على كلّ ذي عقل متماسك أو ضمير حيّ.فعند كلّ جريمة اغتيال، وكان آخرها اغتيال الوزير السابق محمّد شطح، يظهر اتّهامان، وغالباً ما يظهران داخل صوت واحد وفي عبارة واحدة: إسرائيل هي منفّذة الاغتيال، والتكفيريّون الجهاديّون هم منفّذوه.والحال أنّ إسرائيل لا تتعفّف عن اغتيال، وكذلك حال التكفيريّين الجهاديّين. لكنّ المدهش أنّ الذين يُغتالون يكونون هم أنفسهم، وقبل يوم واحد على اغتيالهم، عملاء لإسرائيل ورعاة للتكفيريّين الجهاديّين. على هذا النحو يقدّمهم خصومهم قبل أن يقدّموهم، بفارق ساعات فقط، ضحايا إسرائيل والتكفيريّين.وإلى ذلك يقفز إشراك التكفيريّين وإسرائيل، ومن ورائها أميركا طبعاً، في نشاط واحد كبير ومتّصل، عن واقع الحرب الدائرة بين التكفيريّين وأميركا، وفي جعبتها بالطبع إسرائيل. وقد تترافق الحجّة هذه، داخل صوت واحد وعبارة واحدة، مع القول إنّ «الحرب على الإرهاب» تدفع إسرائيل وأميركا إلى غضّ النظر عن بشّار الأسد، إن لم يكن التعاطف معه، أو أنّ التكفيريّين يقتلون محمّد شطح لأنّه معتدل وأميركيّ الطباع والثقافة!ولا يقف التهافت عند هذا الحدّ. ذاك أنّ إقدام إسرائيل والتكفيريّين على أعمال الاغتيال يُفترض به أن يوفّر سبباً آخر للمطالبة بمحكمة دوليّة تحدّ من ارتكابات الطرفين المذكورين، أو على الأقلّ تفضحهما وتعمّم مسؤوليّتهما عن مآسٍ تطال أوطاننا وأفرادنا. لكنْ لا. فالمحكمة الدوليّة تبقى مرفوضة بإلحاح وتصميم مطلقين،بل يمكن، عملاً بتمييع المسؤوليّة، اكتشاف خيوط تربط بين تلك المحكمة وتحقيقها العتيد وبين الجريمة المتمادية.وحين تكون الحاجة إلى التمويه قويّة إلى هذا الحدّ، دافعة بأصحابها إلى ارتكاب هذه التناقضات كلّها، فهذا ممّا يجيز لكثيرين أن يشتبهوا بعلاقة هي العلاقة بين قاتل وقتيل. وهذا واقع الحال في لبنان اليوم، حيث تُزوّر المعاني، بعد تزوير المشاعر، ويقضي من يقضي في كهف من التزوير يكاد أن يبتلع عالمنا كلّه.وفي النهاية، هو وطن واحد، وشعب واحد. أليس كذلك؟
وفي النهاية: شعب واحد ووطن واحد!
أخبار متعلقة