القاهرة / متابعات:منذ صدوره عام 1921 في باريس، لم يعرف كتاب (الأدب والشرق) للشاعر الفرنسي هنري تويل (1885 ـ 1960) أي طبعة جديدة رغم قيمته النقدية الكبيرة وتشكيله شهادة مهمة على ولع صاحبه بالشرق وعلى دوره المحوري في النشاط الأدبي (الكوزموبوليتي) الذي شهدته مصر خلال النصف الأول من القرن الماضي.وهذا ما يفسر قيام دار (إيلوغ) الفرنسية حديثا بإعادة نشره مرفقا بملف خاص يتناول مسار تويل الفريد وإنجازاته وصداقاته الثمينة، وبالتالي يساهم في إخراجه من دائرة النسيان الرمادية.وتجدر الإشارة أولا إلى أن عمل والد تويل مهندسا في شركة سكة الحديد المصرية هو الذي دفعه إلى الاستقرار مع أولاده الخمسة في القاهرة عام 1895، بعد وفاة زوجته، ثم في الإسكندرية عام 1897، قبل أن ينتقل تويل وإخوته للعيش في منزل الجدين الذي يقع في قرية المكس المحاذية للإسكندرية بعد وفاة والدهم عام 1900.ونظرا إلى شغف تويل وأخيه جان ليون بالأدب، تحول هذا المنزل بسرعة إلى صالون أدبي مهم تردد عليه كبار الكتاب الأجانب الذين جعلوا من مصر موطنهم الثاني، مثل جوزيبي أونغاريتي وأغوستينو سينادينو وقسطنطين زوغرافو وغريغوار سركيسيان وإنريكو بييا ولويس فليري وبيار بونوا وفالنتين دو سان بوان، ومعظمهم شارك في تحرير مجلة الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافي (غراماتا).ويجب انتظار تسع سنوات كي يصدر تويل كتاب (الأدب والشرق) في باريس الذي يتألف من ثلاثين نصا قصيرا كتبها تويل على شكل رسائل موجهة إلى ستيفانوس بارغاس، وهو الاسم المستعار لنيكوس زيليتاس، رئيس تحرير مجلة «غراماتا».وتتابع هذه الرسائل الحوارات التي كانت تدور في منزل تويل حول الإصدارات الشعرية والأدبية الجديدة والقراءات المتفرقة. وحتى حين لا تعالج سوى موضوع واحد، ويتحكم فيها ميل إلى الاستطراد والشرود والاستشهاد بمقاطع شعرية ونثرية، مما يعكس سعة اطلاع تويل وسداد حججه وصواب أحكامه.وفي بساطته، يُحل عنوان الكتاب تواصلا وتمايزا في آن واحد بين العالم الغربي والعالم الشرقي. ومن موقعه (على عتبة باب الصحراء)، يشرف تويل بنظرته على العالمين ضمن سعي للاحتفاء بأدبيهما وكشف الواحد للآخر.وفي هذا السياق، يتوقف أولا عند الشعراء الفرنسيين الذين واظب على مراسلتهم، مثل فرانسيس جام وبول فور، قبل أن ينتقل إلى بول كلوديل وبودلير وتريستان كوربيير ورامبو وموريياس وفرهايرين وميلوس وإمانويل سينيوريه، بدون أن يهمل شاتوبريان ونرفال وفيليي دو ليل أدان وريمي دو غورمون وبيار لويس ومارسيل شووب وأندريه جيد وهنري باربوس.بعد ذلك، يتناول تويل بمعرفة لافتة أدباء عربا وفرسا كلاسيكيين من خلال كتبهم المتوفرة باللغة الفرنسية، مثل (تاج الملوك) للبخاري و(مروج الذهب) للمسعودي، إضافة إلى نصوص لامرئ القيس والمتنبي والفردوسي وابن الفريد وطرفة بن العبد وأبي نواس.لكن شغف تويل بالشرق لا ينحصر في الأدب، كما يتجلى ذلك في الرسالة التي يكرسها لمدح القرآن الكريم، مبنى ومضمونا، أو في الرسالة التي يصف فيها بإعجاب كبير جامع الأزهر والمسجد الأزرق، أو في الرسائل التي يرصدها لتعظيم إنجازات الحضارة الإسلامية على مر التاريخ.ويتوقف فيها عند الإساءات التي تعرض لها الإسلام على أيدي المسيحيين، مبينا بالأرقام تسامح المسلمين في العالم العربي والأندلس مقارنة بهمجية الحروب الصليبية والحروب المسيحية اللاحقة.أكثر من ذلك، يمنحنا تويل في كتابه وصفا رائعا للصحراء، كما في الرسالة السادسة عشرة التي يقول في نهايتها: (لا أريد أن أتأمل سوى الخط الجبلي حيث يتكئ الشرق على قوسه المضيء. ها هي اللحظة الرقيقة التي يتوارى الظُهر فيها خلف شبكة عنكبوت. حين ترتفع من السهول المصرية فوق الواحات، هذه الغيوم البيضاء الثقيلة التي تشكلها وتفككها ريح الصحراء، أتمنى، أنا الفار من تعاسات قريبة، أن لا أعود أسمع سوى صوت مؤذن المسجد).وحتى ديوانه الثاني والأخير، (ألعاب مهرج)، الذي صدر عام 1932، بعد عودة الشاعر إلى فرنسا، هو في الواقع تصريح أخير بحبه لمصر وعالمنا العربي الحاضرين بقوة في قصائده المائة. ففي قصيدته الأخيرة نقرأ:(أقول لك الوداع، يا سراب مصر الوديع. قلبي مليء بالنسيان سأترك ثوبي المجوسي للأرض الكنودة والعزيزة لكنكم ترافقوني، أيها الشعراء العرب الغالون فبأعيادكم تبهروني وبأبياتكم تواسوني).
|
ثقافة
(الأدب والشرق)... رسائل الشاعر الفرنسي هنري تويل في حب مصر
أخبار متعلقة