المفكر العدني اليمني عصام غانم ..
كتب/ د. شهاب غانمفي يوم جمعة في منتصف رمضان الماضي توقف فجأة قلب الدكتور المحامي عصام غانم في مدينة عدن، وهي المدينة التي كان يعشقها وكتب في حبه لها القصائد. يقول لها في قصيدة “المراحل” وهي قصيدة كنت قد ترجمتها إلى الإنكليزية عام 1999 في كتابي “قصائد من أرض سبأ”:إذا فرقت جسدينا السنون[c1] *** [/c] فإن لأرواحنا الالتقاءولن تستطيع شفار المنون[c1] *** [/c]من الفصل بيني وبين اللقاءأحبك حبا يفوق الجنون[c1] *** [/c] فإنك منبع كل الفنون ..وفي قصيدة “آمال” وهو عنوان مجموعته الشعرية الصغيرة والوحيدة التي أعاد نشرها عدة مرات بين 1980 و1999 وإن كان يؤكد بأنه لم يكن يعد نفسه شاعرا، يقول في مطلع القصيدة عن عدن التي اضطر لمغادرتها بسبب الحكم الشمولي الرهيب في جنوب اليمن:أغدا أزورك يا أغن[c1] *** [/c]أم ياترى لا نلتقي؟حتى وإن شاخ الزمن[c1] *** [/c] يا لوعة في خافقي ! ولد الدكتور عصام غانم في يونيه 1944 في مدينة التواهي بعدن الابن الرابع للبروفسور الشاعر د. محمد عبده غانم الهاشمي أول خريج جامعي يمني بل أول خريج من جامعة حديثة في الجزيرة العربية (أي ما يضم اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي) ووالدته ابنة رجل التنوير اليمني محمد علي لقمان أول خريج في المحاماة من اليمن ومؤسس “ فتاة الجزيرة” أول صحيفة عربية مستقلة في عدن وأيضا “الإيدن كرونكل” أول صحيفة إنكليزية مستقلة فيها ومؤلف أول رواية يمنية وعنوانها “سعيد”. وأشقاء عصام هم البروفسور د. قيس غانم الذي ترأس لعدة سنوات جمعية أطباء الأعصاب في كندا وهو طبيب وروائي وشاعر وصاحب برنامج إذاعي كندي نال جوائز لعدة سنوات متلاحقة وهو ناشط اجتماعي ترشح للبرلمان الكندي وله عدد من الكتب وعشرات الأبحاث العلمية، والدكتور المهندس الشاعر شهاب غانم وله خمسون كتابا وكان مدير دائرة الهندسة بموانئ دبي والمنطقة الحرة بجبل علي ومدير عام مدينة محمد بن راشد للتقنية، والبروفسورة د. عزة غانم أول خريجة جامعية يمنية وأول بروفسورة يمنية ولها عدد من المؤلفات في مجال المعوقين، ثم د. عصام وتتبعه الأستاذة سوسن التي تخرجت في الإدارة، فالدكتور نزار غانم وله العديد من الكتب والأبحاث ويعمل أستاذا في كلية الطب بصنعاء وله اهتمام ومعرفة واسعة في مجال الموسيقى في اليمن والخليج والسودان.درس عصام مرحلة الدراسة الثانوية في كلية عدن التي كانت حسب تقييم اليونسكو في الخمسينيات من أرقى المدارس الثانوية العليا في الوطن العربي. وكان رئيس العرفاء فيها وبطل لعبة التنس الفردي وبطل لعبة مضرب الريشة الفردي عام 1960 وكذلك في بطولة الزوجي في هاتين اللعبتين، وكنت أنا، شقيقه الأكبر، شريكه في البطولتين الزوجيتين. وفي الدراسة تفوق عصام وحصل على 12 موضوعا في امتحانات الثقافة العامة العادية وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الكلية فالكلية لا تدرس سوى 9 مواضيع وبعد أن حصل أيضا على 4 موضوعات عليا قبلته جامعة كامبردج كأول يمني يقبل فيها. وقد كتب الدكتور البارز عبدالله السياري الاستشاري في زراعة الكلى ومؤسس موقع كلية عدن على الشبكة العنكبوتية إثر وفاة عصام قائلا بأنه يعتقد أن عصام ربما كان أذكى خريجي كلية عدن، كما بين بأن عصام كان من ساعده في تأسيس موقع كلية عدن وجند شقيقه د. شهاب وبعض خريجي الكلية لذلك، وهو كلام صحيح.بما أن نظام جامعة كامبردج كان يتطلب انتظار عام قبل الدراسة فيها، وكان عصام بطبيعته لا يحب الانتظار فقد آثر أن يذهب لدراسة الهندسة في جامعة أبردين عام 1964،حيث كنت قد انهيت دراستي للهندسة الميكانيكية ثم الكهربائية فيها قبل ذلك بأشهر وكانت شقيقتي مازالت تدرس فيها الرياضيات وعلم النفس. وفي جامعة أبردين كان عصام عازف العود للفريق الموسيقي العربي في الجامعة فقد تعلم عزف العود على يد والده الشاعر التربوي العلامة د.محمد عبده غانم، كما تعلم العزف بعد ذلك بسنوات شقيقه الطبيب الفنان د نزار على يد والده أيضا. وقد كتب عصام كلمات بعض الأغاني التي لحنها فنانون يمنيون معروفون مثل سالم أحمد بامدهف. يقول عصام في إحدى قصائده:يا ساهر الليل ماذا أنت تنتظر [c1] *** [/c] نامت عيون العذارى واختفى القمركم طال بحثك في الأسحار عن سحر [c1] *** [/c] يشدو به الوتر المشدوه والسمروفي يمينك للخيام باطية [c1] *** [/c] وفي شمالك لحن صاغه عمرولكن دراسة الهندسة لم تثر اهتمامة فبعد أن انهى السنة الأولى في الهندسة بنجاح كامل في أبردين قرر الانتقال لدراسة القانون في جامعة برمنجهام حيث تخرج عام 1968 بدرجة الشرف ثم أتم الماجستير في القانون هناك وقد نُشرت أطروحته في كتاب بالانكليزية عام 1979بعنوان “الوجيز في الفقه” أعيد نشره عام 1981 ثم عام 1983. التحق بعد ذلك بجامعة لندن وحصل على ماجستير الفلسفة ونشرت أطروحته بالانكليزية في كتاب قيم عام 1982 بعنوان “الطب الشرعي” قال عنه العلامة البروفسور الطبيب محمد علي البار بأنه أفضل من بعض أطروحات الدكتوراه في ذلك المجال وقد أعيد نشره عام 1987. وعمل د عصام محاضرا في جامعة ويستمنستر في وسط لندن.عاد بعدها إلى مدينته المفضلة عدن حيث عمل قاضيا، وكان أصغر شخص سنا يعين قاضيا في زمنه، وأذكر أنه حكم على رجل سرق زجاجة حليب لإنقاذ أطفاله من الجوع بغرامة شلن أو درهم واحد مع إنذار(بل واعطى الرجل مبلغا صغيرا من جيبه كمساعدة) ويبدو أنه كان متأسيا بما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة فقد كان كثير من الناس في وضع إقتصادي وسياسي مزر. و لم يستطع عصام تحمل الحكم الشمولي الرهيب هناك فرحل إلى الجزء الشمالي من اليمن للعمل مستشاراً قانونياً ثم محاضرا في جامعة أحمدو بيلو في نايجيريا حيث درس القانون الدولي والشريعة، ثم كمندوب لإحدى الشركات التجارية في صنعاء. وكان يقول لي في تلك الفترة، (كما جاء ذلك أيضا في كتاباته) أن تجربته في اليمن بشطريها “ أفقدته حاسة الاستغراب” ويقول “ كنت أحلم بالعدل فأصبحت أحلم بالظلم العاقل!!”. ومن أهم كتب عصام سيرته الذاتية الجزئية باللغة الإنكليزية “دموع عربية في مياه بريطانية” وفيها تحليل عميق لنكبة عدن التي كانت زهرة الجزيرة العربية منذ منتصف الستينيات. وهذه السيرة الذاتية هي الثانية باللغة الإنكليزية في تاريخ اليمن بعد سيرة جده محمد علي لقمان الذي نشر سيرته الذاتية في أكثر من مئة حلقة في صحيفته (إيدن كوونكل) في الستينيات وبالعربية في صحيفته (فتاة الجزيرة) ولم تجمع في كتاب إلا منذ نحو عامين وهي سيرة ممتعة تلقي الكثير من الضوء على الحياة في عدن في النصف الأول من القرن العشرين.انتقل عصام بعد ذلك في مطلع الثمانينيات للعمل في دبي التي أعيش فيها وتسكنها إحدى شقيقاتي، وكان شقيقي الأكبر أيضا يعمل فيها رئيسا لقسم طب الأعصاب الذي أسسه بنفسه في مستشفى راشد ويعمل فيه أيضا شقيقي د. نزار طبيبا حديث التخرج، وكان والدي يعمل في نفس الفترة من أوائل الثمانينيات مستشارا ثقافيا لسفارة جمهورية اليمن العربية في أبوظبي، وكانت فترة طيبة التأم فيها شمل معظم أفراد الأسرة لبعض الحين.وعمل عصام في وظيفة رئيسة في مجموعة عبدالوهاب كلاداري ومجموعة بيت ترافالغار كسكرتير المجموعة ومستشارها القانوني وعمل في نفس الوقت مديرا بديلا في عدد من مجالس إدارة الشركات المتعلقة بها (ونشر فيما بعد عام 1994 كتابا بالانكليزية عن قصة الجالاريا التي كانت مملوكة للمجموعة). كما نشر في تلك الفترة من الثمانينيات عددا من الأبحاث في المجلات المحكمة القانونية والطبية والإدارية البريطانية والسعودية وساهم في عدد من الندوات المتخصصة كما نشر عددا من الكتب منها ديوان آمال وأصبح زميلا في معهد الإدارة البريطاني والتحق بجامعة لندن لدراسة الدكتوراه كطالب خارجي وكان ثاني يمني فقط يقبل كطالب خارجي للدكتوراه في جامعة لندن بعد والده محمد عبده غانم. ونشرت أطروحته بالإنكليزية في كتاب عام 1989 بعنوان “دور علم الكلام الزيدي في القضاء البحري”.ومن مؤلفاته بالعربية “حارة أركزه” ونشر في بريطانيا عام 1989، و”شرح أزهار أدب القوارير” ونشر في بريطانيا عام 1991، وهما كتيبان عميقان يحلل فيهما الانحرافات والتشوهات في القيادة السياسية والمجتمع اليمني بأسلوب ساخر مستفز قد يزعج بعض الناس وقد لا يتفق معه آخرون ولكنه صادر عن حس وطني مخلص. كما نشر عام 1991 سيرة مختصرة لوالده وكان أول كتاب عن محمد عبده غانم الذي كتبت عنه بعد ذلك عدة أطروحات وكتب منها كتابي “صورة مدينتين - عدن وصنعاء في شعر محمد عبده غانم” . كما نشر عصام كتيبا عن علم الكلام في المذهب الزيدي عام 2005.كان لعصام أهتمام كبير بالإنثروبولوجيا وقد سافر ألى بلدان كثيرة جدا وأماكن مثل تمبكتو وكاتماندو ونيبال والهملايا والمالديف وجزر السيشل وجزر الكناري وبركينا فاسو وتوجو وبابل ومراكش والقيروان وسمرقند وبخارى والعديد من دول أوروبا وشرق آسيا. وكانت أسفاره وتجاربه تظهر في كتاباته وخصوصا في سلسلة كتبه حديث الثلاثاء الذي ظهر منها عشرة أجزاء عبر سنوات طويلة وآخرها قبيل وفاته. وكنت قد كتبت مقدمة للجزء السادس وكتب لي قبيل وفاته بأيام يطلب مني أن اكتب مقدمة للجزء الذي كان ينوي إصداره في العام المقبل ويحوي فيما يحوي مقالاته المتعلقة بالربيع العربي في اليمن وأخبرته بأن ذلك سيسعدني. وعصام نفسه كتب مقدمات لآخرين مثل مقدمته لكتاب الدكتور محمد علي البار “مواضيع معاصرة في الطب الإسلامي” المنشور بالإنكليزية.و”حديث الثلاثاء” الذي كان يصدر كمقالات أسبوعية في صحيفتي “الشموع” و”الرأي العام” كان مقالاً سياسيا واجتماعياً وفكريا جريئا ولكن في أسلوب ساخر وفكاهي وبلغة بسيطة تستعمل الكثير من العبارات الفولكلورية والعامية التي تنتمي بشكل خاص للمجتمع العدني واليمني. وكان ينتقد فيها الفساد وانحرافات السياسيين حتى أن المخابرات حذرته من التعرض للرئيس في مقالاته، ومع ذلك كتب مرة ان مواكب الرئيس تعطل المرور مضيفا أنه متاكد بأن الرئيس لا يرضيه ذلك.كما نشرعصام عدة كتب قانونية عملية باللغة الإنكليزية لخدمة المستثمرين في اليمن مثل كتابه “القانون التجاري في اليمن” عام 2001، وكتابه “التمويل للمصدرين في اليمن” عام 2003. كما ساهم عصام في الإشراف على أكثر من دليل للشركات ورجال الاعمال في الإمارات واليمن.غامر عصام بالعودة إلى حبيبته عدن عام 1988 بعد سنتين ونصف من الحرب الأهلية فيها التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف مواطن خلال أيام قليلة في صراع دموي شرس بين جناحين من الشموليين تقاتلوا في صراع على السلطة وعلى الرغم من ادعائهم بأنهم ينتمون لنفس المعسكر الأيديولوجي انقسموا في الحرب حسب الخطوط القبلية. ويقول عصام في الفصل الخامس من كتابه الصغير “حارة أركزه”: ولقد قيل لي بعد أن انتهت زيارتي وهاجرت من جديد، لماذا لم تتمكن من الاستقرار في عدن الحبيبة، مسقط الرأس؟ الحقيقة أن من الصعب على الإنسان أن يبدأ من جديد في أي مكان ولو في مسقط رأسه ولكن الموضوع أبسط من ذلك. لقد كان الموظفون المسؤولون بين معارض ومشفق. فالمعارض لا يرغب في عودة كوادر خبيرة تنافسه والمشفق يتصور أن المهجر أريح بكثير لأن المرتبات في الخارج أحسن. وبين هؤلاء يضيع المرء”.يقول عصام في قصيدة بعنوان “ معنى الشر” نشرها عام 1985:يتمتَ أبناء شعب عاش في قلق [c1] *** [/c] وفي جحيم من الأشجان والكربكأنما أنت في تاريخ أمتنا [c1] *** [/c]جنكيز أطلقه السكسون في العربفغادر الوطن المحبوب أدمغة [c1] *** [/c] كانت تشق ظلام الجهل كالشهبولقد عاد عصام للعمل في اليمن ولكن في صنعاء في منتصف الثمانينات وعمل مستشاراً قانونيا لمجموعة شركة شهاب للتأمين وظل يعمل معها حتى وفاته. ولكن قبل عامين انتقل لمدينته المفضلة عدن لأسباب صحية تتعلق بارتفاع مدينة صنعاء عن سطح البحر وللشركة فرع في عدن. واخيرا قبل عام تقريبا من رحيله، بعد أن قضى حياته ساكنا بالإيجار تمكن عصام من امتلاك فيلا صغيرة قديمة كانت تعود للجيش البريطاني في حي المدينة البيضاء في مدينة خورمكسر، على مرمى حجر من منزل والده الذي فقده بسبب بعض الانتهازيين وفوضى ملكية المنازل والأراضي التي خلقها الحكم الشمولي وهي الفوضى التي لم تحل بعد وحدة اليمن حتى اليوم، بل ربما فاقمتها الحرب الأهلية عام 1994. وقد سافرت إلى صنعاء في منتصف رمضان مع شيقتي واحد ابنائي لموارة الجثمان في المقبرة التي تضم رفاة والدتنا. وحضر الصلاة على جثمانه رئيس الوزراء وعدد كبير من الأهل والأصدقاء والمثقفين كما تحدث معي الرئيس اليمني هاتفيا لتعزيتي وتعزية الأسرة ونشر تعزيته في الصفحة الأولى من صحيفة “الثورة” معربا عن فداحة الخسارة لليمن. وكان عصام في هذه الظروف الصعبة من تاريخ اليمن رئيسا للحوار الداخلي الذي يجريه تجمع أبناء عدن وكان مستشارا للتجمع. وكان له نشاط اجتماعي في رعاية الأسر اللاجئة من أبين والتي تسكن في بعض مدارس عدن ومنها “ثانوية محمد عبده غانم” التي تحمل اسم والدي.وقد عزاني فيه المئات بمختلف الوسائل فلهم جميعا مني ومن ابنائه ومن أشقائي وكل الأسرة خالص الشكر. رحم الله المفكر الموهوب د. عصام غانم وأسكنه فسيح جناته.