منذ طالعتنا قصيدة النثر في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي من خلال مجلة شعر اللبنانية، والموقف النقدي العربي إزاء هذا النوع الأدبي الجديد منقسم على نفسه بين الرفض والتأييد بيد أن كلا الفريقين الرافض والمؤيد، لم يقدم أسباباً منطقية واضحة و مقنعة فالفريق الرافض لم يطرح سوى مسألتين أساسيتين : الأولى : ابتعاد قصيدة النثر عن الانتظام الوزني، الذي يعده شرطاً أساسياً لتحقق الشعر والأخرى : أن قصيدة النثر نوع أدبي تم استيراده من الغرب، في جملة ما استورده الأدب العربي، خلال موجات الاحتكاك الثقافي. أما الفريق المؤيد فهو على شحة ما قدمه من معالجة تنظيرية لم يتطرق إلى سبر أغوار قصيدة النثر، وفتح مغالقها واكتشاف فضاءاتها وعوالمها ،إذ توقف فجأة مكتفياً بمشواره الذي قطعه، بل إن بعضهم يرى أن الخوض في هذا الصدد مغامرة لا فائدة منها وربما كنت واحداً من أولئك الذين يشكلون فريقاً ثالثاً، يقف موقف المراقب الحذر في انتظار ما يؤول إليه الجدل النقدي بين الفريقين السابقين وما يمكن أن تحققه قصيدة النثر من نتائج ملموسة على الساحة الإبداعية، وظل الأمر كذلك حتى ( آذنتنا بوصلها بغداد) حيث هيأت لي ظروف الدراسة في بغداد أن أكون أحد الشعراء المشاركين في مهرجان المربد الشعري للأعوام (99 - 2000 - 2001) ولعل أكثر ما لفت انتباهي وانتباه كثير من النقاد آنذاك هو حضور قصيدة النثر المتميز واللافت للنظر ومنذ تلك اللحظة أخذ موضوع قصيدة النثر يراودني بين الفينة والأخرى حتى تمت الاستجابة فحاولت أن أدلو بدلوي للمرة الأولى في مغامرة أرجو أن تضيف شيئاً إلى الجهد النقدي العربي المنجز بهذا الصددوقد اخترت نصوص قصائد النثر من خلال دواوين المربد التسعينية حتى تكون أكثر تنوعاً وشمولية، بالإضافة إلى اختيار بعض القصائد النثرية التي تلبي أهداف الدراسة، مدركاً مغامرة الخوض في موضوع كهذا، نظراً لشحة الدراسات المتعلقة به، و لاسيما التطبيقية منها على وجه الخصوص، ولكن شعوراً بحاجة دارسي الأدب لما يعينهم على التعامل مع قصيدة النثر - بالشكل الذي يجعلهم يملكون رؤية واضحة عنها معمدة بالدرس و التحليل - جاءت هذه الدراسة. المشروع الغربي / الإرهاصات المبكرة : لا شك أن النثر الشعري وقصيدة النثر ميدانان متميزان متشابهان على سطح الساحة الأدبية الفرنسية، فكل منهما يتسم برغبة عارمة في الإنعتاق من التقاليد الموروثة واللجوء إلى قوى جديدة للغة، ولكن السؤال الذي تنكشف معه رحلة ميلاد هذا النوع الشعري الجديد، هو: كيف تم الانتقال بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر من النثر الشعري الذي كان ما يزال غير عضوي إلى قصيدة النثر التي عدت نوعاً أدبياً حقيقياً ؟ من دون شك أن تفتح بذرة قصيدة النثر في حقل الآداب الفرنسية لم يحدث فجأةً، بل كان يحتاج إلى أرض مهيأة خصبة، وأذهان مشرئبة تؤرقها، شعورياً أو لاشعورياً، الرغبة في إيجاد شكل جديد للشعر، كما كان يحتاج أيضاً إلى الفكرة الأكثر خصوبة المشحونة بالإيمان أن النثر قابل لأن يكون شعراً . فقصيدة النثر ولدت من رغبة في التحرر و الانعتاق، ومن تمرد على التقاليد المسماة شعرية وعروضية، وقد كان الطريق مهيئاً بعد أن فرض النثر الشعري آنذاك طابع التمرد على القوانين القائمة والطغيان الشكلي، فكان القرن الثامن عشر إطاراً زمنياً تبلورت خلاله وعبر محاولات عديدة المبادئ الأساسية لقصيدة النثر(الحصر- الإيجاز- شدة التأثير- الوحدة العضوية ). بيد أن هناك من يرجع الإرهاصات الأولى لقصيدة النثر في فرنسا إلى عصر لويس الرابع عشر، والحقيقة أن القوى المحافظة وحب النظام والبنية التناسقية الجميلة كانت ما تزال قوية ومهيمنة في عصر لويس الرابع عشر وكانت بحاجة إلى قوة فاعلة تعمل على تصدع البيت الإسكندري، ولم يطل الانتظار حتى كانت رياح المد الرومانتيكي تعلن عن ميلاد فجر جديد رافعاً لواء القضاء على البيت الكلاسيكي . وعلى الرغم من ردود فعل الكلاسيكيين، إلا أن شيئاً لم يحدث، إذ أعلن الكتاب بحماس شديد أنهم قد تحرروا من عبودية أبيات الشعر متأثرين ومتبنين طروحات جماعات المترجمين الذين كانوا يتحدثون عن ضعف الشعر المنظوم في القرن الثامن عشر، وينادون بتحرر اللغة ،مما هيأ الطريق أمام الكتاب وقادهم إلى البحث في النثر عن صيغ شعرية خارج سلطة الوزن والقافية، الأمر الذي جعل الباب مفتوحاً لمجيء هذا النوع الأدبي الأكثر حرية ومرونة وحداثة فكانت قصيدة النثر، فقصيدة النثر كما قدمتها سوزان بيرنار هي : ( القصيدة التي أنكرت على نحو تام قوانين علم العروض و رفضت بإصرار أن تنقاد للتقنين، فهي قصيدة ولدت من تمرد على الاستعبادات الشكلية التي تحول دون أن يخلق الشاعر لنفسه لغة فردية، و التي تضطره إلى أن يصب مادة جمله اللدنة في قوالب جاهزة، لكن هذا النوع الأدبي الجديد، لم يتشكل جمالياً في الأدب الفرنسي، إلا على يد ( بودلير ) الذي وضع أسس الغنائية الحديثة حين قدم الفن في صيغة مغايرة ترى أنه : سحر إيحائي يحتوي على الموضوع والفاعل، العالم الخارجي بالنسبة إلى الفنان والفنان نفسه في آن واحد. - ومما لا شك فيه أن (بودلير ) استطاع أن يقنع القارئ أن قصيدة النثر تأتي عادة من بناء يفتقر إلى الصرامة ويخضع لصدق الحدث بدلاً من تنظيم المادة بحسب قوانين فنية جامدة، من بناء يجعل نقاء الزخرفة الشعرية ينحرف باستطرادات أكثر شعرية، مؤكداً أن تجاوزات التطورات وانقطاعات النبرات العادية أو الابتذال في الشكل كل ذلك يقود إلى قصيدة النثر ويحد من قوة الشد العضوي الذي كان يصون جميع العناصر في النمط التقليدي. ومن فرنسا انطلقت قصيدة النثر إلى مختلف العواصم الأوروبية والعالم . فقد تبناها في ألمانيا ( كيستر ) وفي بريطانيا ( ستيفان جورج ) وفي أمريكا ( نوفاليس ) .قصيدة النثر في الأدب العربي (المنجز الحداثي)إذا كان المنجز النقدي الغربي لم يقدم تعريفاً وافياً وشاملاً لقصيدة النثر، بل ترك الباب مفتوحاً لاجتهادات فردية بحته، مكتفياً برأي ( موريس شابلان ) الذي يرى أنها : (نوع لم يتجرأ منظر بعد أن يصوغ قوانينه ) وعندما لا تقدمها دائرة معارف الشعر بجامعة برنستون الأمريكية بأكثر من أنها : (إنشاء قادر على احتواء كل خصائص القصيدة الغنائية) فإنه لا يمكن تقديم قصيدة النثر في الأدب العربي المعاصر بأكثر من أنها ثمرة من ثمار حركة الحداثة الشعرية التي ظلت تبحث عن المدهش والغرائبي، في صراع دائم مع الأشكال الشعرية السابقة، في محاولة هدفها نفي السائد والانقطاع عنه،من خلال نزوع دائم للخروج من دائرة التواتر المألوف وسلطة النظام . بيد أن ميلاد هذا النوع الشعري الجديد في الأدب العربي لم يكن هو الآخر وليد الصدفة أو حدثاً مفاجئاً، بل إنه امتداد لمحاولات تمرد سابقة ورغبة عارمة في التجديد كشفت عنها بدايات القرن العشرين من خلال النمط الشعري الذي تبناه آنذاك جبران خليل جبران وأمين الريحاني وآخرون، وأطلق عليه اسم (الشعر المنثور) أو (النثر الشعري)، هذا النمط الذي يقترب، من حيث المنطلق، كثيراً من قصيدة النثر، مع فارق جوهري تفرضه المرحلة وتطور اللغة وطبيعة التأثر بالغرب وقد أدرك أدونيس بوصفه أحد أبرز النقاد العرب الذين نظــروا لقصيدة النثر ووضعوا أساسها النظري - أدرك طبيعة هذا التقارب، وحاول أن يجعل لقصيدة النثر تميزاً وافتراقاً عن الأنواع السابقة حين قال :( إن النثر الشعري إطنابي يسهب بينما قصيدة النثر مركزة ومختصرة، وليس هناك ما يقيد مسبقاً النثر الشعري، أما في قصيدة النثر فهناك شكل من الإيقاع ونوع من تكرار بعض الصفات الشكلية، ثم إن النثر الشعري سردي وصفي شرحي، بينما قصيدة النثر إيحائية ) وعلى الرغم من أن أدونيس قد أسقط خصائص النثر العامة على محاولات جبران وأصحابه ( النثر الشعري )، وعلى الرغم من أن كثيراً من قصائد النثر المنجزة تقدم خاصية السرد واحدةً من أبرز خصائصها - إلا أننا نجد أدونيس في تحديده لقصيدة النثر قد ركز على اللغة من خلال: الأطناب والسرد والوصف والشرح والاختصار، مما يكشف عن الأهمية والأفضلية التي أعطاها للغة في تقديمه لقصيدة النثر فإذا كان الأمر كما أشار أدونيس، يتعلق باللغة فهذا يعني أن العوامل التي تبلورت قصيدة النثر على أساسها، لم تكن بمعزل عن العوامل التي رافقت حركة التحديث الشعري في الوطن العربي منذ بدايات القرن الماضي المتمثلة في الدعوة إلى لغة الحديث اليومي والاقتراب من لغة الناس البسيطة في مقابل اللغة الجزلة الفخمة التي ظلت مستخدمة في الشعر، فالمنطلق في كليهما واحد، وما دام الوزن عائقاً، كما يتصور، فإن تحرير اللغة لا بد أن ينهض على أنقاض موسيقي الشعر على وفق هذا التأسيس يفترض ألا نعطي الأثر الغربي المتعلق بميلاد قصيدة النثر في الوطن العربي تلك الأهمية المبالغ فيها كثيراً والتي همشت قدرة الفكر العربي وتطلعه إلى استشراف فضاءات إبداعية أكثر انفتاحاً وإشراقاً. فإصرار المبدع العربي ورغبته المستمرة في البحث عن أشكال تعبيرية تلبي طموحاته العصرية ونزوعه إلى الخروج والتطلع وقهر الأسوار هو بدون شك العامل الأقوى والأكثر إشعاعاً في رحلة البحث عن الشكل التي انتهت إلى قصيدة النثر، وهذا ليس بجديد على طبيعة المبدع العربي الرافض دائماً سلطة النظام الجامد والهيكلية الصارمة، المتطلع بطبعه إلى كسر القيود المفروضة التي تعيق حريته الإبداعية. فما تعرض له الشعر العربي عموماً والقصيدة العربية خصوصاً من تغيير شمل جميع مستوياتها شكلاً ومضموناً منذ عمر بن أبي ربيعة وما أحدثه الشعراء المحدثون في العصر العباسي إلى يومنا هذا، يكشف عن شعور ذاتي عارم للتجديد يختلج في نفس المبدع ويعبر عن رغبته كلما رأى الساحة مهيأة لذلك . فقد شهدت القصيدة العربية مجموعة من التحولات المهمة يمكن وصفها في بعض مستوياتها بالانقلاب الجذري، الأمر الذي يجعل الوصول إلى قصيدة النثر أمراً غير مفاجئ وشبه متوقع، بل يمكن اعتباره امتداداً طبيعياً لمحاولات التمرد المتعاقبة، فأول خطوة للتمرد على نمطية القصيدة العربية كانت من خلال بشار بن برد وأبي نواس ومجموعة الشعراء المحدثين، الذين لم يكتفوا بتجاوز المقدمة الطللية ووصف الرحلة التي ظلت حتى عهدهم مكوناً أساسياً في بنية القصيدة - بل تعدوا ذلك إلى اللغة والموضوع، ولم تكد القصيدة العربية تستوعب هذا التمرد حتى واجهتها موجة تمرد أخرى أكثر عنفاً تمثلت في أشكال جديدة من التعبير الشعري تمثلت في شعر: ( الرباعيات ) وشعر ( البند ) الذي خرج على العروض الخليلية المعروفة، ثم الموشحات التي كان لها هيكليتها الخاصة. وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا رياح التمرد أكثر عنفاً في ملامستها لجسد القصيدة شكلاً ومضموناً، ولعل أهم وأبرز ما حققته نازك والسياب وباكثير والبياتي وفدوى طوقان، من تأثير في القصيدة العربية على مستوى الشكل هو الانتقال من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية والسطر الشعري، فضلاً عن تهشيم جدار اللغة، ولا شك أن كل ذلك كان استجابة لمتطلبات العصر، و رغبة الشاعر العربي في تجاوز حالات العقم و الوثوب إلى ما وراء الأسوار، هكذا ينبغي النظر إلى التحولات التي تعرضت لها القصيدة العربية وصولاً إلى قصيدة النثر. * الانطلاقة الأولى : ظلت قصيدة النثر قرابة نصف قرن محصورة على الغرب حتى كانون الثاني من العام 1957، حين ظهر تجمع شعري في لبنان وأصدر ( مجلة شعر ) التي أعلنت عن ميلاد هذا النوع الأدبي الجديد، ونادت بالدفاع عنه، فمن خلال هذه المجلة التي كان يرأس تحريرها آنذاك يوسف الخال، مع أولئك الذين شكلوا النواة الأولى لتجمع شعر : أدونيس وخليل حاوي ونذير عظمة، والذين انضم إليهم فيما بعد عدد من النقاد الشباب أمثال أسعد رزق وأنسي الحاج وخالدة سعيد وغيرهم، كان ظهور قصيدة النثر في الأدب العربي، بوصفها الشكل الشعري الذي من حقه أن يبقى ويسود . ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن قصيدة النثر لم تتبلور نوعاً أدبياً في الأدب العربي إلا بعد ظهور كتاب ( قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ) لسوزان برينار عام ،1959 الذي ترجمه أدونيس ترجمة أولية، وتبنت الحركة مبادئه(وأهم هذه المبادئ : 1 - الوحدة العضوية : التي تعني هيمنة إرادة الوعي الذي يراقب التجربة ويوجهها، منطلقاً من وحدة الجملة، بوصفها خلية في منظومة خلايا تشكل جزءاً من كل عام واسع ذي بناء مماثل. 2 - البنية الإيقاعية : المنبعثة من حالات التوازي والتكرار والنبر والتنغيم وتزاوج الأصوات الزمانية والمكانية - الهامسة والصائتة - الرخوة والشديدة -المستعلية والمنخفضة، فضلاً عن المقومات العامة التي استخلصها أدونيس وهي ( الكثافة - الإشراق - اللازمنية). فالكثافة : تعني تلافي الاستطراد في الوعظ ،والابتعاد عن التفصيلات التفسيرية التي تؤول بها إلى عناصر النثر الأخرى . أما الإشراق فيعني التركيب المضيء بقيمه الجمالية ذي التناسق الجمالي المتميز الذي يمنحه صفة قصيدة. وأما المجانية أو اللازمنية : فتعني الحد الذي لا تتطور فيه القصيدة نحو هدف، بحيث لا تعرض سلسلة من الأفعال أو الأفكار، وإنما تظهر للمتلقي حاجة وكتلة لا زمنية، وهذا ما عبر عنه بودلير بالإيحائية التي جعلها من أهم الخصائص المميزة لقصيدة النثر، إلا أن مجلة (شعر) اللبنانية التي ولدت قصيدة النثر بين يديها توقفت عن الصدور عام 1964، على الرغم من كل الجهود التي بذلها أعضاء تجمع (شعر)، وبهذا بقيت قصيدة النثر داخل أسوار لبنان ولم تغادرها حتى عام 1968، حيث تطالعنا من جديد من خلال مجلة ( الكلمة ) العراقية ، التي كان يرأس تحريرها حميد المطبعي،إذ تبنت هذه المجلة قصيدة النثر، ونادت بالمبادئ التي نادت بها مجلة (شعر) اللبنانية ذاتها، و كان من أبرز شعراء قصيدة النثر العراقيين الذين قدمتهم مجلة الكلمة آنذاك : سركان بولص، وصلاح فائق، وفاضل العزاوي، ثم التحق بهم عبد الرحمن مجيد، ومؤيد الراوي، وموسى كريدي ونزار عباس وغيرهم، ومن العراق انطلقت قصيدة النثر لتنتشر في مساحات واسعة من البلدان العربية في مستويات فنية متفاوتة، عبر مسارها إلى يومنا. و الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها، أن النص الذي قدمته قصيدة النثر، من وجهة نظر عدد من كتابها أو شعرائها، و حتى أولئك النقاد الذين ينظرون إلى الشعرية نظرة أكثر عمقاً و شمولية، يبدو نصاً ممتلئاً بالشعرية، وأن تاريخ الأدب يحتفظ بما يحقق مشروعية ولادته عربياً، و أعتقد أن الموقف النقدي الرافض لقصيدة النثر نتج عن سببين: الأول: يكمن في طبيعة تقديمها، فقد قام أصحابها بتقديمها على أنها الشكل الشعري الوحيد الذي من حقه أن يسود ويبقى، من دون مراعاة للذائقة العربية التي أصبح الشعر بمعاييره المألوفة جزءاً من تكوينها الفكري و الثقافي العام، و من دون تهيئة الظروف الملائمة لتقديم هذا المولود الجديد . السبب الآخر : يكمن قي أن تبنيه و تبلوره جاء في ظروف ربما تكون مقاربة للظروف التي كانت وراء إنتاجه في الغرب، ففي الفترة التي ظهرت فيها الدعوة إلى قصيدة النثر، كان الشاعر العربي مصاباً بالقلق و الرفض و العبثية التي عاشها الشاعر الغربي قبل أن يصل إلى ابتكار قصيدة النثر، فضلاً عن أن المناخ الثقافي العالمي كان موحياً بذلك و مبشراً به، بعد أن شهد تحولاً في أسس الإبداع الأدبي، رافقه نقض لكثير من المسلمات السابقة، بحيث أصـيب الشعراء بهوس التجديد و البحث الدؤوب عما لم يكتشف سابقاً، وصولاً إلى النص الخالد، حتى تداخلت الأنواع الأدبية و اختلط بعضها ببعض، بحيث أصبح من المتعذر الفصل بينها و وضع حدود صارمة لكل نوع، لاسيما، بعد النجاح الذي حققته الرواية في الإفادة من الشعر بيد أن كل ذلك، لا ينفي أثر الثقافة الغربية و دورها في تبلور مشروع قصيدة النثر العربية، فالمثاقفة و تأثيرات الاحتكاك الفكري و الثقافي أمر وارد لا يمكن إنكاره، فهو ظاهرة يمكن تلمس آثارها في الأدب و الفكر الإنساني بصفة عامة، لا في الأدب العربي فحسب، بل أن أثر الاحتكاك بالثقافة الغربية ملموس في الأدب العربي، حتى قبل ميلاد قصيدة النثر، لكن هذا لا ينفي و لا ينبغي أن ينفي إمكانية المبدع العربي، و قدرته و دوره في ابتكار أشكال تعبيرية جديدة تلبي طموحاته و همومه و حساسيته الجمالية المعاصرة، فالواقع العربي إذن، كان يبشر بإمكانية ولادة مثل هذه القصيدة، و كان لابد لهذا الواقع أن يؤثر في نمط التفكير الشعري، و أن يعمل على زحزحة بعض المفاهيم الإبداعية السابقة، و تغيير الحساسية الشعرية تغييراً يلائم الظروف المستجدة، ففي ظل هذه الظروف و المستجدات، صار هاجس التغيير يلح و بقوة في طلب تجاوز المنجز الريادي، حتى أننا نستطيع العثور على نماذج من هذا النوع، أكثر شعرية من سواها قبل صدور مجلة شعر، فنصوص الشاعر العراقي حسين مردان، كانت تبدو مفعمة بالشعرية، إلا أنه كان يرفض أن يسمي هذه النصوص شعراً، ربما رغبة منه في الابتعاد عن تقليد المصطلحات الشائعة، في حين أن د/ علي جواد الطاهر، يرى أن النصوص النثرية أو النثر المركز الذي كان يكتبه حسين مردان، شعر آخر في روحه، إذا ما آمنا أن الشعر روح أولاً، جـود فيه، و عبـر و صور، و سيجده من يتأمله جديراً بالدرس فحسين مردان، قصد أو لم يقصد كان يؤسس لقصيدة نثر عربية، و إن لم تتطابق شروطها مع تلك الشروط التي قدمتها سوزان بيرينار و تبنتها بعد ذلك مجلة شعر، فالشعرية تتحقق في الوزن و القافية و بدونهما، ذلك أن الموسيقى تكمن في الكلمة ذاتها لأن الكلمة ارتباط نغمين أو أكثر، فالكلمة أصوات و الصوت و حركته، وحدة نغمية صغرى، لها أهمية كبرى في الشعر و لاسيما الشعر الحديث، بوصفها توقيعات تراكمية تتشكل من خلالها البنية الإيقاعية للنص في ضوء ذلك، ينبغي أن نبحث عن شعرية قصيدة النثر، بعيداً عن الوزن و القافية، في الخصائص اللغوية، الأساس الذي تنطلق منه قصيدة النثر شعرياً، إذ أن بمقدور اللغة أن تستقطب عناصر الشعرية بعيداً عن نظام العروض و القافية التقليدي، و بذلك يمكن تطويع لغة النثر لتصبح لغة شعر، عن طريق إعادة اكتشاف طاقة النثر الشعرية التي ظلت بعيدة عن الاستعمال الشعري، فضلاً عن استغلال طاقة الانزياح في اللغة إلى أقصى حدودها أو استغلال الفجوة / مسافة التوتر، التي يراها أبو ديب مولداً شعرياً أو الانحراف، بحسب تعبير ياكبسون و تودوروف، وقبلهما القرطاجني، وهذا يعني استثمار كل ما يمكن أن توفره اللغة من مولدات و عناصر شعرية قادرة على تحقيق شعرية النص .
|
ثقافة
قصيدة النثـــــــر.. الخصوصيــة والانفتاح 1 - 3
أخبار متعلقة