منير طلال الأسطورة نوع عريق من فنون السرد الموغلة بالقدم وهي أقدم فنون القصة وجدت لتفسير مأثورات الناس حول العالم ورؤيتهم لمحيطهم الاجتماعي وللظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين والأمطار فتصيغ الأسطورة مجمل الأحداث في قالب قصصي يتناول المعتقدات الدينية وتعليلاتها .فالأستاذ حنا عبود في كتابه (النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطورة ) يذهب إلى أن الشعراء بدؤوا (الاغتراف من بئر الأسطورة ليقيموا الموازنة بين الطموح الإنساني وأعراف النظام القبلي الصارم، والأسطورة بوصفها إنتاجاً للعقل الجمعي الإنساني احتفظت بها الذاكرة الإنسانية لآلاف السنين تمتلك الحضور الدائم، وتمثل جانباً مهماً من جوانبه النفسية والعاطفية فمن خلالها انبثقت الأديان القديمة والحديثة بعد ما تطور العقل البشري في اتجاه اكتشاف الظواهر الطبيعية وتحليل ماهيتها ).ويوافقه الأستاذ علي الشوك في كتابه (جولة في أقاليم اللغة والأسطورة ) ويؤكد أيضاً وجود ترابط جدلي بين (العلاقة بين اللغة والأسطورة بصورة عامة وهي علاقة ترجع إلى عصور ضاربة في القدم لأن اللغة والأسطورة كانتا كلتاهما تمتان لمرحلة سابقة للتاريخ فليس بوسعنا تحديد عمر أي منهما).الأسطورة كانت مفتاح اللغز لفهم تفاصيل الحياة من خلال فك رموزها مع مرور الزمن بعيداً عن أسلوب الخرافة البدائية، فالأسطورة ظلت تتطور مع مئات السنين وتتقولب بما يناسب كل عصر وز مان لتكون الترجمان الصادق لحالة الناس ومعتقداتهم ورؤيتهم للحياة، وعلى ذلك لم يعد التعريف القديم للأسطورة بأنها حكاية خرافية قابلة للتصديق في عهد شهدت فيه الأسطورة أبعاداً حداثية ظهرت من خلالها القصص والروايات الخيالية للصراع مع عوالم وكواكب أخرى، تكاد تكون الطاغية من حيث انتشارها على شكل أفلام ومسلسلات ، فالأسطورة ولدت اليوم من جديد كما كانت العنقاء تولد من رمادها في تراثنا العربي إلا أن حجم اهتمامنا كيمنيين وعرب بشكل عام بالأسطورة يعد ضئيلاً ومحدوداً للغاية حيث ما زالت فكرة سيئة تسيطر على الغالبية العظمى بأن الأسطورة نوع من الجهل وتزييف للعقل والمنطق، حيث أن هناك ميلاً كبيراً لإلغاء تراثنا الذي يعود إلى ما قبل الإسلام بنعته بأنه وثني وجاهلي حتى أولئك الذين يتشدقون بمفاهيم الحداثة والمعاصرة أخذوا نفس النهج متجاهلين أهمية الأسطورة في توليد حراك ثقافي كونها غارقة في الخيال ولا تلتزم بالأطر الضيقة للقصة أو الرواية أو حتى المسرح.فكما كانت الأسطورة جسراً لنقل البشرية إلى أطوار معرفية قديماً فإنها لا زالت تؤدي الغرض نفسه اليوم.. ففي كتابه (من العود الأبدي إلى الوعي التاريخي : الأسطورة، الدين، الايديولوجيا، العلم ) يشير الأستاذ شمس الدين الكيلاني إلى أنها تمثل ( الرحلة الطويلة التي اجتازها العقل البشري لمعرفة الطبيعة وأسرارها وقوانينها وماهية الوجود وما بعده ، لم تكن في خط بياني صاعد أو على الوتيرة نفسها لكل المجتمعات البشرية بل تداخلت المراحل الثلاث) التي يتحدث عنها الكاتب : الوعي الأسطوري، الدين، الأيديولوجيا.وعلى ذلك يمكن أن نؤكد أن الأساطير وحكايات الجدات ما زالت مسيطرة على حياتنا بشكل أو بآخر سلباً أو أيجاباً .فالأساطير رغم قدمها وربما اتسامها بالبدائية تؤثر بشكل قوي وفعال في حياة الشعوب ولاسيما تلك التي تعاني من تخلف اقتصادي وتكون واقعة تحت العزلة أو مشاكل اجتماعية وفوارق طبقية وبها تيارات تعارض التحديث والانفتاح على العالم مثل تلك التيارات التي تنتهج القطيعة بين الماضي والحاضر كأن تعيش ضمن أمجاد الماضي وانتصاراته أو تلك التي تكثر بالماضي تكفر حالة من الطلاق بين الماضي والحاضر تنظر إلى الماضي على أنه تخلف وجهل فألغت كل ما له صلة بالماضي من حكايات وأساطير وعادات وتقاليد بدعوى أنه كله معاد للتقدم والحضارة .ويمكن أن نلاحظ تلك الهجمة على الموروث الشعبي في بلادنا بدعوى أنه كافر أو متخلف وكل يطلق عليه أحكاماً وفق رؤيته الخاصة ، فبعد ظهور الإسلام تمت عملية أسلمة الأساطير اليمنية بما يتلاءم مع أحكام العقيدة الإسلامية فالأساطير القديمة التي كانت تتكلم عن تعدد الآلهة في العالم القديم الثلاثي (القمر - الشمس - كوكب الزهرة) عدلت مع مرور الزمن لتتكلم عن إله واحد لا شريك له نافية ما كانت الأساطير القديمة تؤكده من صراع بين الآلهة مثل أسطورة (بعل) عند عرب الشمال التي تفسر مختلف الظواهر الطبيعية بأنه صراع بين الآلهة المختلفة من إله البحر وإله المطر وإله الريح وإله العالم السفلي في دورات صراع يفسر سقوط المطر والخصب وأسطورة (جلجامش) التي تأخذ نفس المفهوم .أما بالنسبة للأساطير والحكايات الشعبية لدى عرب جنوب الجزيرة فإنها كانت تركز على بطولة وقوة وبأس بطل الأسطورة لتسوقه إلينا بصورة إله أو نصف إله ومن ذلك الأسطورة الملحمية للملك أسعد الكامل التي وصلت إلينا بصيغ متعددة متشابهة الأدوات والوقائع وهي تحتوي على فقرات كثيرة شعراً ونثراً، حيث تبدأ الحكاية بولادة أسعد بأرض الهمدانيين ثم مقابلته للكاهنات الثلاث وتعرفه منهن على أصوله الملكية وحملاته الإخضاع وسط الجزيرة العربية والعراق وفتحه لإيران والصين والهند، وهنا يمكن لنا أن نرى التشابه بين مسرحية (مكبث) (لشكسبير) وبين ملحمة أسعد الكامل، وكأن شكسبير أطلع على تلك الملحمة بشكل أو بآخر أو سلسلة الأحداث في الملحمة وتفاصيلها تتشابه تماماً مع مسرحية شكسبير تماماَ بينما لم يهتم عمل أدبي يمني أو عربي بهذه الأسطورة أو سواها رغم جمال الحبكة الدرامية القصصية الرائعة وإلا فلماذا يعيد شكسبير إنتاجها من جديد .يعود عمر بعض الأساطير إلى أكثر من 2000 عام قبل الميلاد ، ومن أشهر الأساطير اليمنية القديمة أسطورة التبع اسعد الكامل التي ذكرناها وأسطورة التبع حسان وأسطورة منصور حمير التي ظهرت في أواخر عهد الدولة الأموية لتؤكد بأنه سيظهر رجل من حمير يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً والتي تتشابه مع أسطورة المهدي المنتظر عند الشيعة، وهناك أسطورة سيف بن ذي يزن وكلها أساطير ملحمية تحاول أن تبرز الدور البطولي لأولئك الملوك والقادة في توحيد اليمن وإعلاء مكانتها في العالم .. فأسطورة أسعد الكامل تدور أحداثها في وقت كان فيه العرب مضطهدين من الفرس والروم تنطلق في بطولات تمتد إلى شتى أرجاء المعمورة فتخضع كافة بلاد العرب وتتعدى ذلك ليفتح فارس والهند والصين .. والواقع التاريخي والأثري مجاف لذلك تماماً، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الملحمة الأسطورية لسيف بن ذي يزن فارس اليمن الهمام .. حيث تصور لنا الأسطورة بطولته في قهر أعدائه بينما التاريخ والوقائع تؤكد قتله غدراً ليتمكن الفرس من إحكام قبضتهم على اليمن وبأنه كان مطية لتحقيق أهدافهم.لقد كانت الأسطورة متنفساً للشعوب المضطهدة، ولهذا فقد لاحظنا رد فعل عكسي كوسيلة من وسائل المقاومة لبث روح التحدي والنضال لتغيير الواقع السيئ.كما أن أسطورة وضاح اليمن المشهور بجماله والذي انتهى به المطاف في صندوق، قصة تحمل في طياتها أبعاد اجتماعية تعبر أما عن الاضطهاد الذي كان يعاني منه اليمنيون فانتقموا من الحاكم بتلك القصة التي لا تخلو من الطرفة والشجاعة .. ولهذا فإن دراسة الأسطورة تتطلب إلماماً واسعاً بالتاريخ والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية .وهنا لا يفوتني الإشارة إلى أهمية الأسطورة في تعزيز الهوية الوطنية .. وكشف عسف الطاغية في كل زمان ومكان فهي تعد مقياساً حقيقياً لقياس الرأي العام واتجاهاته.[c1]الأسطورة في الأدب اليمني المعاصر[/c]لقد برع عدد من الأدباء اليمنيين في الاستفادة من الأسطورة والحكايات الشعبية والأمثال، والأهازيج، مثال الأستاذ زيد مطيع دماج في استخدامه لأسطورة طاهش الحوبان، والأستاذ محمد عبد الولي في تناوله لأسطورة الغول والأستاذ محمد محمود الزبيري في استخدامه لأسطورة جزيرة واق الواق الخيالية .كما لا يمكن أن ننسى أو نتناسى دور الأستاذ حمزة علي لقمان في إحياء فن الأسطورة اليمنية من خلال رصده عدداً كبير من الأساطير المتعلقة بتاريخ اليمن وعرضها بأسلوب قصصي رائع .وهناك الأستاذ أحمد قائد بركات في ليلة ظهور أسعد الكامل والأستاذ محمد عبده غانم في مسرحية سيف بن ذي يزن وكذلك الأستاذ محمد مثنى في مسرحية قوس النصر الذي يتناول بها أيضاً سيرة سيف بن ذي يزن والأستاذ عبد المجيد القاضي في عدد من الأعمال والأستاذ علي محمد عبده في كتابه حكايات وأساطير يمنية، وما كتبه الأستاذ علي أحمد باكثير من قصص وروايات ترتكز على المأثورات الفرعونية في مصر مثل (أخناتون).أما جيل التسعينيات من كتاب القصة والرواية والمسرح فتكاد الأسطورة تغيب في اهتماماتهم لأنهم اعتبروها شكلاً متخلفاً رغم أن الأساطير اليمنية ما زالت بكراً لم تتناول بالشكل والقدر اللازم ، ولنا في رواية ( كفاح طيبة) للأستاذ نجيب محفوظ خير مثال وهي رواية ترتكز أصلاً على ِأسطورة قديمة لكفاح ملك فرعوني لتوحيد مصر وطرد الهكسوس .حتى إن العديد من الأساطير اليمنية اشتغل عليها بعض الأدباء العرب وأهملها الأدباء اليمنيون مثل أسطورة (أحمد شورابان) المشهورة في بلادنا التي تتعادل مع أسطورة (دنكشيوت) الأسبانية قام الأديب المصري الدكتور/ عبد الغفار المكاوي بتحويلها إلى عمل مسرحي بعنوان البطل أثناء وجودة في اليمن ..وأسطورة وريقة الحناء التي تعادل أسطورة (سندريلا) العالمية التي أنتجت في مسلسل يمني مصري شاركت فيه الممثلة المصرية الكبيرة أمينة رزق ، وعدد من الفنانين اليمنيين والمصريين .. كما أن أسطورة (من قتل الطفل) التي وردت في كتاب حكايات وأساطير يمنية للأستاذ محمد عبده الاغبري قد تم عملها على المسرح من قبل الأستاذ علي اليافعي وهي تعادل أسطورة (دائرة الطباشير القوقازية) للأديب المعروف (برخت).ورغم ثراء الأسطورة اليمنية فإنها شهدت تجاهلاً من قبل الأدباء والكتاب ، ومن أشهر الأساطير التي لم يشتغل عليها أحد قصصياً أو [c1]روائياً أو مسرحياً بشكل يوفيها حقها:[/c]- إرم وعاد الأولى .- بلقيس ملكة سبأ.- أسعد الكامل الذي ينسب له توحيد اليمن القديم والجزيرة العربية.- التبع حسان المرتبطة به عدد من الأساطير والحكايات مثل حكاية زرقاء اليمامة.- العنقاء التي قالت العرب عنها بأنها من المستحيلات الثلاث (الغول ، والعنقاء ، والخل الوفي وهو الطائر المرتبط بجزيرة سقطرى).- لقمان الحكيم ونسوره السبعة .- أساطير الكهان مثل (سطيح ، شقيق ).وهناك العشرات وربما المئات من الأساطير التي لم يفك طلاسمها أحد إلى اليوم موجودة في النقوش والكتب والقصائد والأهازيج والحكايات الشعبية تنتظر من سوف يبادر لنفض الغبار عنها وإخراجها إلى النور.[c1]الأساطير اليمنية في صدر الإسلام[/c]وهنا سوف أورد بعض أهم الكتاب الذين سجلوا بعض تلك الأساطير في مرحلة صدر الإسلام والدولتين الأموية والعباسية إذكاءً للروح الوطنية التي كادت أن تتفسخ في ظل هيمنة عرب وسط الجزيرة (قريش) ومن أشهرهم :(كعب الأحبار -وهب بن منبه - عبيد بن شرية - علقمة بن ذي جدان - يزيد بن مفرغ الحميري - دعبل بن علي - دغفل الشيباني - ابن خلدون )[c1]وأهم تلك الكتب والمؤلفات :[/c]كتاب ملوك اليمن من التبابعة، وكتاب أقياك اليمن وكتاب اليمن في أمر سيف بن ذي يزن وكتاب الملوك المتوجه من حمير وكتاب الملوك وأخبار الماضين وكتاب أخبار عبيدة بن شرية وكتاب الإكليل وكتاب صفة جزيرة العرب وكتاب التيجان وكتاب سيرة دغفل الشيباني .تلك الكتب أثرت المكتبة العربية بالأساطير والحكايات اليمنية التي ما تزال تؤثر على واقعنا الاجتماعي إلى اليوم كالإيمان المطلق لدى أهل اليمن بالنسب القبلي إلى هود وقحطان وخلافه ، أو الاعتقاد بتلك البطولات كمسلمات أساسية عند غالبية العامة وشريحة لا بأس بها من المثقفين حتى أننا نجد بعض المؤلفات في تاريخ اليمن تصدر وهي تستند إلى تلك الأساطير كمراجع أساسية في تاريخ اليمن وهو أمر يدعو إلى الضحك والإستهجان.أما جانب الحكايات الشعبية والأمثال والحكم والأهازيج فإنها تكاد لا تخلو من مجموعة قصصية أو روائية أو مسرحية ذلك لأنها من مفردات حياتنا اليومية الأساسية، وقد برع في هذا المجال كوكبة على رأسهم (محمد مثنى، عبد الكريم الرازحي، محمد الغربي عمران، صالح باعامر، عبد الله سالم باوزير، أحمد محفوظ عمر، أروى عبده عثمان، صالح البيضاني، وجدي الأهدل، سالم العبد، محمد القعود، زيد الفقيه، عبد الكريم المقالح، أحمد سالم اليزيدي، وآخرون)فالشعب اليمني مازالت مفردات خطاباته اليومي على الحكايات والمثل والحكمة والأهازيج والزوامل ولهذا فإن أي عمل أدبي يتجاهل هذا الجانب المهم يصبح مجرد هباء لا علاقة له بهموم وطموحات الوسط الاجتماعي للأديب الذي يجب أن يكون ترجماناً صادقاً لمجتمعه ومحيطه.ولهذا نلاحظ أن كتاب السرد في التسعينات تجاهلوا فن الأسطورة تماماً ليهتموا ببقية فنون التراث الشعبي،وهو أمر يحتاج إلى إعادة النظر منهم لإحياء فن الأسطورة الذي يكاد يندثر، فالأساطير اليمنية مازالت غنية بأحداثها وأسلوبها الدرامي الرائع والولوج إلى عامل الأسطورة سوف ينقل السرد اليمني إلى عوامل خصبة ورائعة بكل معنى الكلمة.
|
ثقافة
الموروث الشعبي في الأدب اليمني..الأسطورة أنموذجاً
أخبار متعلقة