في وقتٍ يشهد فيه الاقتصاد اليمني تدهورًا حادًا، وانقسامًا مؤسسيًا عميقًا للبنك المركزي، تلوح بعض الفرص النادرة التي قد تشكّل بوادر تحوّل اقتصادي. ويبرز من بينها قرار الولايات المتحدة بإعادة تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو قرار لم يكن سياسيًا فحسب، بل حمل تداعيات اقتصادية جوهرية أعادت تموضع النظام المالي في البلاد.
لقد ساهم هذا القرار في تحريك مركز الثقل المصرفي من صنعاء إلى عدن، حيث بدأت البنوك التجارية بإعادة التموضع، ما منح البنك المركزي في عدن دفعة جديدة لاستعادة دوره كمصدر وحيد للسياسة النقدية. كما أدّت الضربات التي استهدفت موانئ الحديدة ورأس عيسى إلى تحوّل نسبي في حركة الواردات نحو ميناء عدن، مما يعزز أهميته كمرفأ محوري للدولة.
إحياء دور البنك المركزي: الأولوية الوطنية العاجلة
يتطلب استعادة التوازن الاقتصادي البدء بتوحيد النظام النقدي، ليعود البنك المركزي ليشرف على جميع الإيرادات العامة من ضرائب وجمارك ورسوم. هذا التوحيد ضروري لرسم سياسات مالية دقيقة، وبناء صورة واضحة للاحتياطي النقدي، كما يمهّد لتطبيق أدوات نقدية غير تقليدية تتناسب مع المرحلة الانتقالية المعقدة التي تمر بها البلاد.
السياسات النقدية غير التقليدية: جسر نحو الاستقرار
في ظل تفكك أدوات السياسة النقدية التقليدية، هناك حاجة لاعتماد آليات مبتكرة، مثل:
• ضخ سيولة موجهة للقطاعات الإنتاجية.
• تنظيم مزادات عملة للحد من المضاربات على الريال.
• إنشاء صندوق استقرار للريال بدعم خارجي.
• تطوير أدوات دين داخلي بضمانات دولية.
• دراسة جدوى العملات الرقمية بالشراكة مع شبكات التحويل.
لكن تفعيل هذه الأدوات يستلزم إصلاحات في الحوكمة، وبناء جسور الثقة بين البنك المركزي والقطاع المصرفي والمجتمع.
في قلب البحر: هل يمكن لليمن أن يُحيي نموذج “حرب الناقلات”؟
تشكل صادرات النفط والغاز مصدر الإيرادات الأهم للدولة، غير أن الهجمات الحوثية على موانئ التصدير عطّلت هذا الشريان الحيوي. لذا، تبرز فكرة استلهام نموذج “حرب الناقلات” الذي شهدته منطقة الخليج في ثمانينيات القرن الماضي، من خلال تصدير الخام اليمني تحت أعلام دول كبرى مع ترتيبات حماية بحرية منسقة. ورغم التحديات القانونية والسياسية، فإن هذا الخيار يستحق الدراسة في سياق تحرّك دبلوماسي مشترك مع التحالف العربي والدول الضامنة لأمن الطاقة.
عدن: نافذة اقتصادية يجب توسيعها
ازدهار الواردات إلى ميناء عدن بعد تعطل موانئ الشمال يفرض على الحكومة العمل سريعًا لتعزيز قدرات هذا الميناء، من خلال:
• تطوير بنيته التحتية اللوجستية.
• تسهيل إجراءات التخليص الجمركي.
• اعتماد آلية شفافة لتوزيع العائدات بين المركز والمجتمع المحلي.
• ربط النشاط التجاري في الميناء بالسياسات النقدية لتعزيز استقرار السوق.
فرصة لإعادة رسم معادلة الردع الاقتصادي
في ظل المتغيرات الجارية، بات من الممكن للحكومة اليمنية التحول من موقع الاستجابة للأزمات إلى موقع المبادرة في إعادة صياغة المشهد الاقتصادي؛ وذلك عبر دمج أدوات السياسة النقدية غير التقليدية، وتفعيل قنوات تصدير آمنة، واستثمار الموانئ البديلة. هذه الخطوات تتيح بناء استقلالية مالية متدرجة، وتُخرج الحكومة من أسر المساعدات إلى فضاء التخطيط الاستراتيجي.
خاتمة: بين التحدي والفرصة
ما تمر به اليمن ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل أزمة ثقة في قدرة الدولة على الفعل والتوجيه. واللحظة الراهنة تتيح اختبارًا حقيقيًا للدولة الشرعية: هل تستطيع تحويل الضغط السياسي إلى مكاسب اقتصادية؟ وهل تملك الإرادة للتحوّل من الاعتماد إلى البناء؟ النجاح في ذلك يتطلب مزيجًا من الواقعية، والابتكار، والتحالفات الذكية.