رواية
خالدأبوالدهبالمعالجة الدرامية الزمان :العقد الأخير من حكم الدولة المملوكيةسنة 1501 م إلى سنة 1517 مالمكان :إقطاعية مملوكية بالقاهرةالأحداث(1)بينما كانت الأيدي الذابلة تدق على الدفوف والأجساد الهزيلة تتراقص من تحت ثياب بالية نسج عليها الفقر رقعا مهترئة مدورة مثل بيوت العنكبوت.. شق جسد عنبر المنبوذ زحام الساحة بين المنزلين وهو يطلق صرخته:-أموت مقتولاً وأشوف فيك يا بلد راجلتحرك عدد من الرجال بسرعة.. أحاطوا بعنبر ودفعوه بقسوة وعنف إلى خارج الساحة وهم يكيلون له السباب:-يا زوج الساقطة-يا كلب الجبل-يا عنين الزعارقاوم عنبر دفع أيديهم وهو يرمقهم بنظرات مستهزئة-الرجل فيكم يريني منديلهمقولة مثل الزيت الذي ينصب فوق النار.. كلما رددها ازداد غضبهم اشتعالا ودفعهم له عنفا وقسوة حتى أسقطوه أرضا وتناوبوا في ركل جسده بأقدامهم.. بينما هو لا زال يردد:-الرجل فيكم يريني منديله يا أولاد الوسخة(2)- لا تنسى قلبك في جيب المأذون يا صاحبي.قالها علي لصديقه وابن عمه يحيى.. لم يكن يمازحه بقدر ما كان يحذره.. فمن حق علي أن يخاف على مستقبل علياء شقيقته.. والتي ستصبح بعد دقائق زوجة ليحيي.حال الحب غريب في هذه البلدة البائسة.. التي استسلمت لحكم المماليك واستعذبت ظلمهم وطغيانهم.. كل قصص الحب تموت في ليلة العرس.. كأن العاشقين قد جمعتهما الصدفة فوق وسادة فراش الليلة الأولى.. التي تجعل من اللهفة فتوراً.. ومن الاشتياق زهداً ومن الرغبة رهبة ومن نظرات الهيام نظرات اتهام تظل ملتصقة بعيني الرجل حتى ينسدل جفنيها على الموت وعلى السر الدفين الذي عانت منه ثلاثة أجيال متعاقبة من أبناء الأكرمية التي تنحدر من نسل هاشم الأكرم الفارس الشريف الذي استشهد في معارك فتح مصر.كان يحيى يدرك ذلك .. فربت على كتف علي-لن يحدث ذلك لأنه ليس هناك من أحب كما أحببتكان علي يثق في حب يحيى لعلياء.. كما كان يحيى يثق في حب علي لهند.. فالأربعة.. يحيى وعلياء ،وعلي وهند.. قصتا حب حقيقيتان عميقتان .. بعمق أيام سني العمر ودفء أنفاسه ومشاعره.. نمت قصتا الحب وترعرعتا في ودفء علاقة أسرية يرعاها شقيقان متحابان هما محمود واحمد العطار.ساعد ذلك عليا أن يكون الزفاف في ليلة واحدة.. تخفيضا لنفقات الزواج في ظل ظروف صعبة تعاني منها عائلة العطار والبلدة كلها.-لم يترك خصيان المماليك شيئا لأهل البلدة.قالها الشيخ محمود العطار للمأذون بعدما لاحظ تبرمه من الدراهم القليلة التي وضعت في يده نظير عقد العقدين.. فمسح بأصابعه على الدراهم وأطلق زفرة حارة.-لا تظلم المماليك يا شيخ محمود .. لأنهم تركوا لأهل البلدة ما لا تخطئه عينمال الشيخ احمد العطار على المأذون وقال مستغربا-وماذا تركوا لنا يا مولانا ؟-الفقرقالها المأذون وهو يحمل دفتره ويتحرك خارجا .(3)من خلف بابين مغلقين.. وبين صمت الخدر والترقب.. اشتعلت مع أعواد البخور أنفاس أربعة.. وأغمضت ثمانيه عيون فارتجف قلبان مع شهقة شفتين في لحظة كلحظة سقوط السيف على رقبة من أهدر دمه.مقرعة الجنون تخبط فوق رأسين..فتفجر سؤالين.. هل حقيقة ما حدث؟و كيف حدث ما قد حدث؟ولا جواب.. لا شيء غير الصمت مع عبق أعواد البخور المشتعل مثل زوج من الأنفاس لا تجد من يطفئها.(4)في الصباح.. في براح الساحة بين المنزلين.. تصافح الوجهان.. دون سلام.. دون كلام.. فما فائدة الكلام وكل وجه قد ارتدى نفس القناع المقيت.. المتخشب.. الصاخب الماجن الأخرس.. المصلوب على نظرة تقول أقصى وأقسى وأمر ما يمكن أن يقال.. عن العار وعن الانكسار وعن الصدمة والذل .. دون بنت شفة .أشاح يحيى بوجهه..وكذلك علي.. بعدما ظنا أن النظرة التي تلقاها كلاهما من صاحبه.. هي نظرة عتاب.. نظرة تأنيب على وعد لم ينفذ وعلى عهد لم يصن.في المساء.. هجر يحيى فراشه.. ذهب إلى البحيرة.. فهناك قد اعتاد أن يلتقي بنفسه كلما شردت منه.. ساعات مضت وهو على الحال نفسه.. لم يجدها.. ولن يجدها.. فكيف يجدها هنا وهو قد تركها هناك.. فوق سريره.. تتوسد وسادته.. تحترق بالنار نفسها التي لم يتمكن من إطفائها بالأمس.. فاشتعل لهيبها فيه.. في أنفاسه ونفسه .. في ملابسه ولحمه.. وفى لحظات صمته وهو ينهض ويهم بالانصراف لولا انه وجد عليا واقفا أمامه.. يرتدي القناع نفسه.. الذي يرسل النظرة نفسها التي تدمي قلبه العتاب نفسه.. ففاض به الكيل وواجه عليا وصرخ فيه بنبرة تجمعت فيها مرارة الدنيا-علياء ليست عذراء يا علي.-وهند كذلك يا يحيى.-قالها على وقد احتقنت عيناه بالدموع .(5)- ليس على الأرض مثل هذا الابتلاء.قالها لنفسه وهو يهيم على وجهه.. أين يذهب بهذا العار؟.. كيف يتحمله؟.. بل كيف تحمله؟.. كيف لم يسقط على الأرض متهشما مثل إناء فخاري عندما صب في قلبه هذا العذاب وهذه النيران ؟.عار الزوجة.. عار الأخت.. عار عائلة بأكملها.. بل هو عار العالم كله .. تجمع في مستنقع قذر وجد نفسه غارقا فيه حتى أذنبه.. مع صوت نباح كلاب الليل وعواء ذئاب الجبل مشت به قدماه حتى وجد نفسه عند سفحه.-هل حقيقة ما حدث؟-و كيف حدث ما قد حدث؟سؤالان مثل شقي رحى تطحن عقله.. فأين المفر؟!-أموت مقتولاً وأشوف فيك يا بلد راجلمثل حبل ألقى عليه في أعماق جب ضياعه كان صوت عنبرالتفت نحو مصدر الصوت وأطلق استغاثة-النجدة يا عنبر .. أغثني يا ابن الأكرميةانتبه عنبر لوجوده.. سار نحوه.. ولما أصبح أمامه مباشرة تأمله-عريس الأمس ؟-بل قتيله-وماذا يريد قتيل الأمس من قتيل ألف ألف أمس مضى ؟-أريد الحقيقة-وهل غابت كي تنشدها .. أن الحقيقة موجودة .. ماثلة شاخصة.. مثل قمر الليل.. ومثل شمس النهار.. لكنكم تتعامون عن نورها وتتجاهلون نارها مع أنها تحرقكم .-ذقت النار يا عنبر.. فافتقدت النور .. امنحني بعض نورك-لست الشمس ولست القمر.. ما أنا إلا مرآة تعكس شيئاً من النور الساطع هناكقالها عنبر وهو يشير نحو قمة الجبل-خذني معك إلى هناك-لا يصعد إلى هناك غير الرجال.. فهل أنت رجل ؟-أحسبني كذلك يا عنبر.-إذا .. أرني منديلك.قالها عنبر صارخا.. بصورة أفزعت قلب يحيى.. وقلب الليل و قلب الجبل الذي ردد صداها.(6)- عليك بالصوم إن أصبح الخوف والذل هما خبز القوم وملحهم.- أسفل الجبل .. الرجال والنساء سواء.. فجميعهم مماليك للمماليك- الثورة ليست سبب فقركم وهوانكم وأمراضكم.. إنما هي علاج لكل ذلك.. فثوروا تصحوا يا نعاج- عجبت لقوم ولوا مفسديهم وأطاعوا فاسقيهم ثم ناموا واستكانوا على أعتاب المذلة وتركوا الفئران تعبث بمقدراتهم.. وتأكل لحم صغارهم ثم استيقظوا على أسئلة فاجرة.. أين عدل الله؟ .. أين إنصافه.؟.. أين رحمته؟.. وغاب عنهم أن الله لا يستجيب لدعاء مظلوم رضي بالدنية من دينه وقنع بالمذلة والجبن والتخاذل.- لا تقبل اليد التي تعجز عن قضمها.. وابصق عليها حتى تأتيك الفرصة لان تكسرها.لروح الرجل بكارة مثل جسد الأنثى.. لكنها أرق وأطهر وأعف.. فبكارة روح الرجل يهتكها الخوف.. يهتكها الفقر.. يهتكها الجبن و الضعف والنفاق والسكوت على الظلم.. فاستعيدوا بكارة أرواحكم يا أمة من الأرانب .عالم آخر اكتشفه يحيى فوق الجبل.. مئات الحرافيش والمنبوذين والزعار يشكلون هناك كيانا مارقا متمرداً على فساد وظلم المماليك.. كثيرون منهم غير عنبر يجمعهم به النسب نفسه. مروان ومغبوب وقصي حكيم الجبل وأكبر من فيه سنا.على كلمات الحكيم قصي تفتحت عينا يحيى على الحقيقة المرة.. أن ما تعانيه الهاشمية لا يعود إلى طغيان المماليك وفسادهم.. إنما يعود إلى تقاعس أهل الهاشمية وتفريطهم.. فقد انعم الله عليهم بالأرض وخيراتها والدين وتعاليمه وبفطرة الإنسان السليمة والنسب الشريف.. فماذا فعلوا في مقابل كل ذلك ؟!!.. هانوا وتهاونوا.. جبنوا وفسدوا فانسحقوا تحت أحذية دود الأرض ولقطاء الأمم المسمون بالمماليك.