المقصود بالمشهد السياسي العربي الراهن، هو مجمل التحركات والاحتجاجات السياسية التي حدثتْ - وما زالتْ تحدث - في بعض البلدان العربية. أي تلك الأحداث، التي فضل الكثيرون من المشتغلين بالسياسة والإعلام - بمختلف أصنافه - على تسميتها بالثورات العربية. كما وصفها الإعلام الغربي بثورات الربيع العربي. ومن جانبي، فإن نعتي ما حدث - وما زال يحدث في بعض البلدان العربية - بالمشهد الراهن، أو حتى بالحالة الراهنة، يمكن تبريرها على النحو الآتي: 1. إن القوى السياسية والاجتماعية المشاركة في هذه المشاهد، عبارة عن خليط غير متجانس، بل ومتناقض. ويعني ذلك، استحالة استمرار تحالفها، أو تعاونها إلى نهاية الشوط.2. إن الأهداف المطروحة لكلِّ هذه المشاهد، غير محددة وغير واضحة. بل وتتسم في مجملها بالهلامية، باستثناء هدف المطالبة بإسقاط الأنظمة، أو السلطات في جميع البلدان المعنية بهذه المشاهد.3. برغم أن هذه المشاهد قد بدأت سلمية، إلا أن بعضها قد تحولتْ إلى أعمال عنف أو مسلحة، كما هي الحال في ليبيا وسوريا، وإلى حدٍّ ما في الجمهورية اليمنية. 4. وبرغم أن هذه المشاهد قد بدأت منطلقة من اعتبارات، وأسباب ودوافع داخلية في كل بلد، إلا أن الاعتبارات والدوافع الخارجية - الأمريكية والغربية - صارت مؤثرة ومتدخلة بقوة في هذه المشاهد. بل وبدأتْ تعمل على تجيير هذه(الثورات) لصالحها. وهذا ما سيتضح لنا لاحقاً. 5. عدم وصول هذه المشاهد إلى نهايتها. أي أنها ما زالت في حالة انسياب وسيولة. بمعنى أن أهدافها - التي سنأتي على ذكرها- لم تتحقق بعد.أولاً: العوامل أو الأسباب الداخلية المباشرة لهذه المشاهد: بالنسبة لهذه المسألة، يمكننا أن نتناولها على مستويين: فهناك أولاً، عوامل وأسباب داخلية تشترك فيها كل البلدان، التي شهدت موجة «الثورات»، بل وكل البلدان العربية. أما المستوى الآخر، فيتمثل في أن لكلِّ بلدٍ من هذه البلدان، التي حدثت فيها هذه التحركات والاحتجاجات - (تونس، مصر، ليبيا، سوريا، الجمهورية اليمنية، البحرين) - أسبابها ودوافعها الخاصة بها. فبالنسبة للمستوى الأول، فان هذه العوامل والأسباب الداخلية، تتلخص في الآتي: 1. فشل دول الاستقلال العربية - أو الدول القطرية - في تحقيق الكثير من أهدافها التي أعلنت عنها، وأهمها: العدالة الاجتماعية، والديمقراطية. بل إن ما حدث، هو انتكاسة الشعارات والأهداف القومية التي جرى رفعها عالياً.2. تأسيس أنظمة استبدادية شمولية دكتاتورية، أو أوليجاركية (حكم الأقلية)، أو أوتوقراطية (ملكية). 3. تحوُّل الأنظمة الجمهورية إلى جملكية. أي جمهورية شكلاً، وملكية مضموناً. 4. تأسيس مبدأ الثوريت في الأنظمة الجمهورية. 5. انسداد أية فرصة لتصحيح الأوضاع السياسية والاقتصادية، والاجتماعية في الدول العربية.6. فشل برامج الإصلاحات الاقتصادية، التي تبنتها العديد من الدول العربية بدعم من صندوق النقد والبنك الدوليين - باستثناء سوريا - بحيث كانت لها تأثيرات سلبية متعددة، منها:1. زيادة تبعية اقتصاديات هذه البلدان الاقتصادية لبلدان المركز(الدول المتقدمة). 2. صارتْ هذه البلدان مستوردة صافية للغذاء، بما يعني فقدانها لأمنها الغذائي.3. صارتْ مثقلة بالديون للمؤسسات المالية الدولية:(البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الدول المانحة).4. زيادة مستويات الفقر والبطالة بين شعوب البلدان العربية. أما العوامل والأسباب الداخلية، الخاصة بكلِّ بلد من هذه البلدان، التي جرت بها هذه التحركات، فيمكننا تلخيصها على النحو الآتي: فبالنسبة لتونس، تكمن هذه العوامل والأسباب المباشرة في:أولاً، ردود الفعل الشعبية على ما تعرض له الشاب محمد بو عزيزي، عندما قرر إنهاء حياته حرقا. بمعنى أن هيجان الجماهير وخروجها إلى الشارع، لم يكن ردَّ فعلٍ مباشر على حالة الفقر والبطالة، ولم يكن بسبب تصرف وسلوك مسئولة البلدية تجاه ذلك الشاب. ولكنه كان بسبب موت(بو عزيزي). وهذه حقيقة. وذلك لأن حالة البؤس والفقر والبطالة، ليست جديدة في تونس، ولكنها قديمة. وهي مصاحبة لتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في تونس، برغم أن تونس كانت تصنف في مقدمة البلدان العربية، التي حققتْ نتائج ايجابية عند تطبيقها لبرامج الإصلاح الاقتصادي. وهذه مفارقة عجيبة. أما ثاني هذه العوامل والأسباب، فهو تحويل زين العابدين بن علي السلطة لصالحه الخاص وعائلته، ونكثه بوعده للانتقال إلى الديمقراطية، عند استيلائه على الحكم في عام 1989م. ويعني ذلك، بأنه إذا لم تكن حادثة(محمد بو عزيزي)، فالاحتمال الأكبر أن لا تتفجر الأوضاع في تونس، بداية من مدينة(سيدي بو زيد) التي ينتسب إليها الشاب بوعزيزي، وأن لا تذهب الأمور إلى ما وصلت إليه، ومنها هروب(بن علي) وأسرته، والوصول إلى إجراء انتخاب الجمعية الوطنية، وما لحقها من خطوات أخرى لها علاقة بأجندة المطالب، التي رفعتها الجماهير التونسية خلال ثورتها ضد حكم(بن علي). أما فيما يخص مصر، فإن العوامل والأسباب المباشرة لما حدث فيها - عشية 25 يناير 2011م - قد لا تختلف كثيرا عما حدث في تونس. حيث كانت حادثة وفاة( خالد سعيد) في أحد أقسام شرطة الإسكندرية، هي الشرارة التي أيقظت حماس ومشاعر الكثيرين من الشباب، الذين لا ينتمي أغلبهم إلى الحركات والأحزاب السياسية التقليدية، المعروفة على الساحة السياسية المصرية. وكانت الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي والفيس بوك، هي واسطة التواصل الرئيسية بين أولئك الشباب. ويمكننا أن نتذكر مجمل الاحتجاجات والاعتصامات - التي قادتها الأحزاب والحركات السياسية القديمة منها والجديدة - ضد محاولة توريث الحكم في مصر، ومن أجل المطالبة بإصلاح الحياة السياسية والبرلمانية، والتداول السلمي للسلطة، والتي لم تؤدِ إلى أية نتائج ايجابية تذكر. وفقط عندما تحركت القوى الشابة - باستخدام الوسائل الحديثة المذكورة - أمكن تحقيق شيء من جدول أعمال (ثورة 25 يناير)، وهو إبعاد الرئيس حسني مبارك عن الحكم، وإسقاط إمكانية توريث الحكم، مع بقاء الكثير من الأهداف الهامة لهذه الثورة، عالقة أو مؤجلة حتى اللحظة. أما بالنسبة لليبيا، فإن الأسباب والعوامل المباشرة لما حدث فيها - ابتداء من 27 يناير - لها علاقة بمذبحة سجن بو سليم، التي نفذتها سلطة القذافي ضد المئات من السجناء. وهي الحادثة التي أيقظت بعض المناطق - مثل مصراته، وبنغازي، والزاوية - للانتفاض والثورة على حكم القذافي. إلا أن هذه التحركات لم يكن باستطاعتها التأثير، لولا التدخل الأجنبي ممثلا بحلف الناتو. وهذا ما سوف نوضحه لاحقا. برغم أن الشعب الليبي هو من أكثر الشعوب العربية، الذي كان يفترض أن ينتفض على حكم القذافي منذ فترة مبكرة. وذلك بسبب حالة العبودية، التي وضع القذافي الشعب الليبي فيها. ولذلك فإن العامل الخارجي، كان هو الحاسم والحاكم فيما حدث في ليبيا، وفيما ترتب على ذلك التدخل من نتائج. ولذا يمكننا وصف ما حدث في ليبيا، بأنها حالة حرب بين نظام القذافي من جهة، وحلف الناتو من جهة أخرى. ولكنه بغطاء مضلِّل، هو الثورة ضد القذافي. ويعني ذلك أيضاً، أنه لو استبعدنا تدخل حلف الناتو في ليبيا، فمن الصعوبة بمكان استمرار(ثورة 27 يناير)، ومن ثم وصولها إلى النتيجة التي تحققت في ليبيا. وبالنسبة للبحرين، فإن الأسباب والعوامل الداخلية لبروز المشهد السياسي هناك، تتمثل في افتقار نحو(70 %) من شعب البحرين - وهم الطائفة الشيعية - للعدالة الاجتماعية من مختلف جوانبها؛ السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وهذه الوضعية، هي التي دفعت هذه الطائفة للمطالبة بالإصلاح والتغيير أولاً، مما أدى إلى رفض السلطة الحاكمة لهذه المطالب، بل والعمل على قمعها عسكرياً وأمنياً. والأسوأ من ذلك، أن دولاً خليجية - السعودية مثلا - قد شاركت في قمع الاحتجاجات في البحرين. ولذلك يمكن التأكيد بأن الحركة الاحتجاجية البحرينية، هي أكثر الثورات العربية عدالة. وذلك بالنظر إلى كون جزء كبيرٌ من مكون شعب البحرين، مفتقداً إلى أية عدالة. وتتجلى عدالة هذه الثورة في أن المشتركين فيها، يمثلون نسبة كبيرة من هذه الطائفة. وهو بعكس ما هو موجود في التحركات العربية الأخرى. حيث المشاركين في هذه التحركات، يمثلون نسباً ضئيلة جداً مقارنة بعدد السكان في كلٍّ من هذه البلدان. أما فيما يخص سوريا، فإن عوامل وأسباب وجود التحركات والاحتجاجات ضد النظام السياسي، لا تختلف عما حدث في بقية البلدان العربية. إلا أن المتتبع للشأن السوري، يجد أن العامل الخارجي، هو المحدد فيما يحدث هناك. وسنتناول هذه المسألة لاحقاً بتفصيل أكثر. وفيما يخص المشهد الراهن في الجمهورية اليمنية، فإن العوامل والأسباب الداخلية لوجود هذا المشهد، تتحدد أساسا في حدوث تصدع وانقسام، داخل المجموعة الممسكة بالسلطة، بحيث وجد قسم منها نفسه خارج عملية صياغة واتخاذ القرار السياسي. بل وذهاب القسم الممسك بالسلطة إلى توريث الحكم لصالحه. وهو مبدأ يتنافى مع جوهر النظام الجمهوري. ثانيا:الأسباب والعوامل الخارجية لهذه المشاهد: يمكننا الحديث هنا عن الأسباب أو العوامل الخارجية، أو موقف الخارج من كلِّ ما يحدث في كلِّ دولة على حدة. أو بمعنى آخر، قوة الدفع لهذه الأحداث من الخارج. فبالنسبة لتونس - وبسبب من مفاجأة الحدث - فقد اتسم الموقف الخارجي- وخاصة الأوروبي والأمريكي - بالآتي: 1. بالصدمة والذهول عند انفجار الوضع.2. تفضيل الانتظار، ومراقبة سير الأحداث.3. مساعدة نظام بن علي سراً لقمع الاحتجاجات، حيث مدته فرنسا بأدوات مكافحة الشغب. 4. وعندما استمرت الاحتجاجات، ولم يكن أمام ابن علي سوى خيار واحد، إما الاستمرار بقمع حركة الجماهير التونسية بدون نتيجة، أو الهروب إلى خارج تونس. ولم يكن ممكنا قبوله في أي بلد أوروبي، وذلك بسبب تنامي الاحتجاجات والمظاهرات في البلدان الغربية، ضد ما يحدث في تونس وصمت الحكومات الغربية. ولذلك فقد أوعزت هذه الحكومات إلى السعودية بقبول بن علي. وبالنسبة لما حدث في مصر، فنجد أن موقف الخارج له شقان متعارضان: الأول، هو الموقف الأمريكي والأوروبي، الذي أخذ موقف المراقب للحدث في البداية، ثم الضغط على حسني مبارك للتنحي عن الحكم. بمعنى أن هذا الموقف، كان يحاول أن يتماهى مع موقف الشارع المصري، ولا يتعارض معه. وكانت تلك حالة مؤقتة، ولم يكن موقفاً مبدئياً. وهذا عكس الموقف الإسرائيلي، الذي أبدى تذمره وخوفه من المشهد السياسي الذي يحدث في مصر. والسبب معروف. وإذا كان من السهل تفسير الموقف الإسرائيلي، باعتبار أن سقوط حسني مبارك هو سقوط لحليف موثوق فيه. ناهيك أن البديل له كان في حكم المجهول، فإن الموقف الغربي - وخاصة الأمريكي - له عدة أهداف. فمن جهة، فهو يهدف إلى تلافي وتصحيح تلكؤ الإدارة الأمريكية، تجاه المشهد التونسي. وهو من جهة ثانية، يهدف إلى تخفيف حدة الموقف الإسرائيلي المعارض لما يحدث في مصر. وهو من جهة ثالثة، يحاول الاقتراب من الحدث وصانعيه أولاً. وذلك على أمل الحدّ من راديكاليته، ومن ثم اختراقه أو حرفه لاحقاً. وبالنسبة لليبيا فإن الموقف الأمريكي والأوروبي، قد اختلف كليا عن موقفيهما تجاه تونس ومصر. حيث اتسم الموقف الغربي الجديد تجاه ليبيا، بأنه كان فوريا. أي أنه أعقب مباشرة التحركات الاحتجاجية في مدينة بنغازي، التي كان بمقدور القذافي سحقها سريعاً. ولتبرير التدخل العسكري الغربي في ليبيا، عملتْ الولايات المتحدة على دفع حلفائها الخليجيين، إلى طلب حماية المدنيين من قسوة نظام القذافي. وذلك من خلال استصدار توصية من مجلس الجامعة العربية في هذا الاتجاه. ولكن بدون معرفة أو تحديد طابع هذه الحماية. وقد استطاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها، الحصول على هذا القرار من مجلس الأمن. والمؤكد أن أمريكا لم يكن يعنيها في تلك اللحظة، سوى الحصول على هذا القرار. لأنها كانت تدرك تماما ما هي الخطوة اللاحقة لذلك. بل وكانت جاهزة لها. وكانت تلك هي المهمة التي أوكلتْ إلى حلف الناتو. كما أعطتْ قرارات مجلس الأمن - الخاصة بتجميد الأرصدة العائدة للحكومة الليبية والقذافي ومعاونيه - زخماً كبيراً، ودفعة قوية لشحن همة أمريكا وحلفائها، وزيادة شهيتهم.[c1]يتبع[/c]
|
آراء
قراءة للمشهد السياسي العربي الراهن (1)
أخبار متعلقة