مقاربة نقدية في مقال : (إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة) للدكتور ياسين نعمان
تمهيد :نشرت صحيفة “المصدر” يوم الثلاثاء الموافق 7 فبراير 2012م العدد (192) مقالا للدكتور ياسين سعيد نعمان في الصفحات (8، 9 و10) وهو مقال طويل استهلته بتقديم كاتبه بعده كاتبـا ومفكرا “يعصر روح الفكرة لأي من القضايا الكبيرة... برؤية المفكر العميق الذي يسبر أغوار الفكرة وتجربة السياسي الذي يفضل مشاق السياسة ومرونتها على بدائل العنف وانهيار البلدان” دون الإشارة إلى هويته السياسية وصفته الحزبية الرسمية.ولما كنت من المتابعين لمقابلات ومقالات وتصريحات د . ياسين الذي أكن له عميق الود والتقدير، فإنني أرغب الدخول معه في حوار فكري ونقاش علني في ما تضمنه مقاله الأخير، وذلك للاعتبارات الآتية:أولاً: أهمية وخطورة القضايا التي تناولها في المقال.ثانيـا: المكانة والقيمة الإيجابية الواقعية والمتخيلة التي يحظى بها السياسي المثقف د . ياسين نعمان عند شريحة واسعة من النخب المثقفة والرأي العام.ثالثـا : صلتي بالحقل المعرفي الذي ينتمي إليه هذا المقال، حقل المعرفة السياسية بأنساقها المتعددة، الفلسفة السياسية والفكر السياسي والأنثروبولجيا السياسية والدراسات الثقافية والنقد الثقافي بما تشتمل عليه من دراسات عن الثورة والثورات والتاريخ والعنف... الخ.وتنطلق مقاربتي من أفق منهج النقد العقلاني الذي مؤداه قد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب، ولكن بالحوار والنقاش سوف تنكشف أوجه الحقيقة المحتملة على الدوام، فما الذي حمله هذا المقال من أشكال دون أن يكن بمقدورنا أن نمر عليه مرور الكرام؟!! كل خطابات د . ياسين تستحق القراءة والنقد والتقييم، غير أن هذا الأخير هو أجدرها بالتأمل والنقد الرصين الذي لا أدعيه هنا.احتوى مقال (إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة) على جملة من المشكلات والقضايا المتداخلة والمعقدة المنهجية والنظرية والواقعية والفكرية، التاريخية والأيديولوجية، وهو محاولة سحرية للجواب على أسئلة حيوية واستفهامات جوهرية بشأن “المبادرة الخليجية” والاحتجاجات (ثورة الشباب) التي طالبت بإسقاط النظام التقليدي القديم في صنعا، والثورة الجنوبية السلمية والقضية الجنوبية في عدن والجنوب ودور (الأحزاب) المعارضة اليمنية من (الأزمة) وموقف قوى الهيمنة الدولية والإقليمية والمحلية.فضلا عن كلام كثير بشأن (فكرة الثورة) والحرب والزعيم والعنف والسلم والقوى (الثورية) وتاريخ الثورات.... الخ من الكلمات الفضفاضة الجوفاء والإكليشات الجاهزة، الشعب، الوحدة، البلد، الوطن، القوى (التفكيكية) والعملية السياسية، (وخيار الضرورة) و(حالة الانسجام الداخلي لعناصر الثورة) و(هشاشة التلاحم الوطني)، وفكرة (المجلس الوطني) و(قانون الحصانة البرلمانية)، و(تبرير دم الضحايا بدلالاتها العظيمة)!وربما كان أكثر الأشياء إدهاشـا هنا هو القول بوجود الفكرة السحرية الكبرى التي تمتلك قوتها في ذاتها، وبذاتها ومن أجل ذاتها؟!وتأتي محاولتي هذه لتسليط الضوء على المقال بما يثري النقاش ويحفز الاهتمام ويبيح المجال لترسيخ ثقافة الاختلاف والحوار في الرأي الذي يجب أن لا يفسد للود قضية، وذلك في النقاط الآتية :أولا : من داخل السياق، من خارج الخطاب، هوية الذات المتكلمة بين الموقع والموقف:ثمة فرق بين أن يتكلم المرء بصفته سياسي ذا هوية سياسية محددة ورسمية محسوسة ملموسة، فيما يشغله من موقع ووظيفة ودور ومكانة قيادية (حزبية) أو تنظيمية في حقل الممارسة السياسية المتعينة الراهنة الفورية المباشرة بما تستلزمه من موقف ورأي واتجاه واعتقاد واضح ومعلن وشفاف لا يحتمل الشك والريب والتأويل والغموض والالتباس، وبين كونه مثقفـا أو مفكرا نظريـا في الشأن العام، أو في الظاهرة السياسية من خارجها، ولا يستطيع المرء أن يجمع بينهما في شخصه في الآن ذاته، يقول دوبريه في كتابه المهم (نقد العقل السياسي) : “ليس في وسع المرء أن يتحزب (أي يمارس السياسة) ويفهم في الوقت ذاته الظاهرة السياسية”.والدكتور ياسين سعيد نعمان يظهر هنا بصورة “المفكر العميق” والرائي المنهجي في قضايا الفكر السياسي (الكبرى) كما قدمته الصحيفة أو قدم ذاته دون الإشارة إلى هويته السياسية وصفته (الحزبية) الرسمية أمين عام (الحزب الاشتراكي اليمني) وهو الحزب الذي حكم دولة الجنوب (ج . ي . د . ش) وعاصمتها عدن منذ العام 1967م، حكمـا شموليـا منفردا، ومثلها في التفاوض والتوقيع على اتفاقية (الوحدة) مع سلطة الشمال التقليدية في الجمهورية العربية اليمنية في 22 مايو 1990م وبلغة ومنطق السياسة بعدها علاقات قوى، هو الحزب الذي يفترض ويجب بالضرورة أن يمثل ويعبر وينافس ويصارع ويقاتل عن المصالح الحيوية والإستراتيجية للقوى الاجتماعية والسياسية التي احتكر لذاته مسؤولية سياستها وتمثيلها بلا منازع، وسوقها جبرا لا اختيارا إلى صنعاء الجبلية التقليدية، وتشكل عموم أبناء الجنوب أفرادا وجماعات ذكورا وإناث بلا استثناء، كما أنـه الحزب الذي اعتقد الأيديولوجية (الماركسية اللينينية) بما تمثله من اتجاه فكري ومنهجي مادي تاريخي، وثقافي يساري راديكالي، واجتماعي (طبقي عمالي فلاحي وجموع الشرائح الفقيرة المعدمة)، واقتصادي، ممثل في الملكية العامة ونمط العلاقات الاشتراكية في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.... الخ.وينطبق ذلك على كل مجالات الحياة الأخرى الاجتماعية المدنية والأمنية والحقوقية والفنية والتربوية والأخلاقية التي أضفى عليها الحزب هيمنته الفعلية والرمزية، وجعلها تحمل اسمه ووشمه في جميع الأشكال والعلاقات والأفعال والرموز والقيم والخطابات والممارسات والأقوال والأفعال، وفي جميع الأحوال والظروف التي ساد فيها دولة وشعب الجنوب، وهي الدولة الحداثية الراديكالية في حداثتها المؤسسية والتنظيمية والعلائقية والعلمية والأيديولوجية شكلا ومضمونـا ديكوريـا ونسيجـا، لكن الحزب بفضل سياسته (الحكيمة) قدمها وسلمها لقمة سائغة للقوى التقليدية الشمالية المهيمنة، وليس للأحزاب قيمة في ذاتها ولذاتها، بل إن الحزب هو نتاج إدراك الناس وإرادتهم في وقت معين ولغاية معينة، والسياسة لا تقاس بالأوهام والأمنيات بل بالنتائج المحققة في عالم الممارسة المتعينة، ووفقـا لجدلية الموقع والموقف، فإن موقع المرء يحدد موقفه، فكما أن الموقف يعبر عن الموقع ويبرره ويقويه ويحميه، فكذلك الموقع يحدد شكل المواقف واتجاهه ومعانيه وشفرته وقواه وأيديولوجيته وإستراتيجياته ورهاناته.ولا أعتقد بأن الأخ الدكتور ياسين نعمان يغفل عن هذه الجدلية المتبادلة التأثير، ومن ثم فإن إخفاءه لموقعه السياسي الفعلي وهويته الحزبية الرسمية في هذا المقال، لم يكن شأنـا عرضيـا وسهوا لا إرادي، بل هو خيار إستراتيجي واعٍ وقصدي ينسجم مع إرادة وخطاب المقال، الذي ظهر فيه بهوية المفكر النظري والمثقف العمومي وكأنـه يطل على المشهد من خارج السياق، وهذا أمر يستحيل تبريره.إذ أنـه موقف هروبي ونكوصي غير مألوف من قبل شخص في موقع ومكانة الدكتور ياسين، وهذه محاولة غير ممكنة لا واقعيـا ولا رمزيـا، إلا في الممارسة الصوفية والثقافة السحرية، والفانتازيا السريالية.وهذا ما جعل الأخ ياسين يشتبك منذ (العنوان) بجملة من العثرات والمتناقضات والاضطرابات الشديدة فيما قاله وكتبه من كلام يفتقر إلى قوة الاتساق المنطقي والوضوح المنهجي، وهذا ما سوف تكشفه القراءة المتأنية للمقال الذي بدا فيه (أمين عام الاشتراكي) المثقف اليساري المادي جدليـا يهيم في سماء الأفكار ويخبط خبطـا عشوائيـا في كل اتجاه محاولا إخفاء الأرض التي كان يجب الانطلاق منها، أرضه هو وحزبه وتاريخية ارض أهله وشعبه وقوته أرض الفقراء والمسحوقين في الأرض التي جاء منها، وما زال يشغل موقعه ومكانته بفضلها وباسمها ارض الجنوب المهزوم والمنهوب والمقهور والمسحوق، من قبل قوى الهيمنة التقليدية المحلية والإقليمية والدولية التي راح للأسف الشديد يبرر لها فعلها في وأد (الثورة) في مهدها وإعادة تعريفها وتصنيفها (أزمة سياسية) تستوجب (المبادرة الخليجية) لتسويتها كضرورة موضوعية، وقدر محتوم، وتسويغها تسويغـا نظريـا وفكريـا، وكأنـها من المسلمات الطبيعية التي لم تعد قابلة للتساؤل والتشكيك والنقد والتمحيص كشأن تاريخي يمكن فهمه وتفسيره، وهذا ما يسميه عالم الاجتماعي الفرنسي بورديو بـ (مفارقة المعتقد) التي تكرس واقعة أن الوضع القائم كما هو بكل تجلياته وشروط وجوده التي لا تطاق وكأنـها مقبولة وضرورة! و(كما يسميها ياسين خيار الضرورة) وهذا هو العنف الرمزي، ذلك العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي من ضحاياه أنفسهم، الذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، أو بالجهل والقبول أو بالعاطفة حدا أدنى، بيار بوريدو (الهيمنة الذكورية) ص 16.ومهمة الفكر النقدي هي الكشف عن السمة ( المفارقة في المعتقد) وتفكيك السيرورات المسئولة عن تحويل التاريخ إلى طبيعة وتحويل الاعتباطية السياسية إلى “خيار الضرورة” و(فرصة أخيرة)، ونزع الأقنعة الرمزية عن الحقائق الواقعية.وهذا ما كان منتظرا من مثقف سياسي وقائد حزبي يساري أن يفعله، غير أن الدكتور ياسين فاجأ الجميع وأصاب البعض بخيبة أمل كبيرة، وأنا منهم حينما قام بنشر هذا المقال الطويل في صحيفة “المصدر” التي صادف هواها لتعيد نشره كملحق مجاني في عددها اللاحق وأعادت صحيفة “الوفاق” العدنية نشره في عددها (14) بتاريخ 14 فبراير 2012م.بعده “كلمة للتاريخ” وخلاصة الحقيقة والاحتفاء المبالغ به وكأنـه بمنزلة نجدة من السماء تجاوز قول كل خطيب وجاء بما لم يستطعه الأوائل في وصف المشهد السياسي الماضي والحاضر والقادم، وأجاب بضربة واحدة على جميع الأسئلة والمخاوف الواقعية والمتخيلة، وهو بذلك يشبه قول أو كلمة عرافة دلفى اليونانية التي كانت تقف أثينا سقراط على رؤوس أصابعها لتلقي كلمتها السنوية!وهذا هو ما أفزعني على نحو خاص، بعيدا عن أدنى شعور بالحسد أو الغبطة للأخ العزيز ياسين، بل تساءلت كيف يمكن تسويغ وترويج مقال خطير مثل هذا في حين أنـه يستحق كثيرا من النقد بما حمله من آراء وأحكام وتناقضات ومواقف واتجاهات يستحيل التغاضي عنها أو تبريرها فيما يخص شخصا يعرف نفسه، ويتم تصويره بالمفكر الجهبذ والمثقف العمومي، المعبر عن صوت الضعفاء والمقهورين، ونصير (الثوار والمطالبين بالتغيير)، فضلا عن كونه أمين عام حزب سياسي يعبر عن مصالح وآمال قوى اجتماعية وسياسية واسعة هي أكبر الأطراف المستهدفة بالسحق والإخضاع والتغييب في هذا (الاتفاق غير المقدس) بين أطراف قوى الهيمنة التقليدية في صنعاء والخليج، كيف يمكن تبرير موقف ياسين الذي كنا نظنه رهاننا الأخير في رفض هذه (المبادرة الكارثة) وما تمخض وسيتمخض عنها من نتائج كارثية على المدى القصير والطويل، حينما ظهر لنا بمظهر المدافع الأمين عنها وتبريرها وتسويغها نظريـا وفكريـا وكأنـها من بناة أفكاره ونتاج فعله ومخاض حكمته وقوة تأثيره، في حين أننا نعلم علم اليقين بأنـها أي (المبادرة) من ألفها إلى يائها من صناعة قوى الهيمنة المحلية والخليجية المتحالفة منذ زمن طويل، وأن السيد ياسين وقواه الفعلية أو المفترضة ليس لهم فيها شرواء ولا نقير، فكيف يمكن فهم هذا الموقف الذي ظهر فيه ياسين وكأنه كاتب في بلاط أصحاب الجلالة والسمو لا مثقف حداثي عضوي كما وصفه غرامشي حريص على إظهار الحقيقة والكشف عنها والانحياز إلى صفوف الضعفاء والمقهورين ضد قوى التسلط والهيمنة بجميع أنماطها وأشكالها وأقنعتها وتلاوينها مهما كلفه ذلك من ثمن ومشاق.فالمثقف أو الكاتب كما وصفه الأمريكي سي . رايت ميلز هو ذلك الشخص الذي يقاوم ويتصدى لتمثيليات السلطات والطعن فيها وفي شرعيتها والتشكيك فيما يسمى (بالروايات الرسمية) ومداومة نزع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر المهيمنة وتقديم صورة بديلة يحاول المثقف فيها أن يكون صادقـا ما وسعه الصدق.. وواجب المثقف أو المفكر الحقيقي هو الانحياز إلى صفوف الضعفاء الذين لا يمثلهم أحد في علاقات القوة والسلطة، والضعفاء هنا سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو ثقافات أو شعوبـا ودولا صغيرة مضطهدة، فما بالك لو كانت مهزومة ومدمرة.بهذا تكون صورة المثقف كما يلح ميلر : “ليس داعية مسالمة ولا داعية اتفاق في الآراء، بل شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس وهو موقف الإصرار على رفض “الصيغ السهلة” والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو الإكليشات العامة الأيديولوجية أو الأفكار الشائعة وأنصاف الحقائق، بل على المثقف أن يمثل ويلتزم التعبير عن معاناة الأفراد والجماعات من أبناء شعبه والشعوب الأخرى، بصدق وأمانة وتجرد”.ينظر إدوارد سعيد (المثقف والسلطة) ص 89.حرصنا على إيراد هذا النص الطويل نسبيـا لتحديد الفرق بين المثقف الحقيقي والمثقف الزائف، بين المثقف الممتثل المسالم المساير المهادن المبرر المدافع، المنافق والمثقف الملتزم المقاوم الرافض الناقد الكاشف الأمين الصادق الواضح اللا مهادن، الذي لا يخشى في قول الحق لومة لائم..وما دام الأمر كذلك كيف يمكن لنا تبرير صورة الدكتور ياسين في هذا المقال الخطير، الذي انتدب نفسه للدفاع عن “المبادرة الخليجية” وتسويغها بالحجج الفكرية، إذ كتب يقول :“فالمبادرة الخليجية التي شكلت المرجعية الأساسية للمسار السياسي في صيغتها المستجيبة لخيار التغيير سلميـا بنقل السلطة والتمهيد للتحول الديمقراطي (الجذري)” الهلالين من عندي ويضيف في تبريرها وتصويرها وكأنـها حتمية طبيعية وضرورة لازبة قائلا:“لقد كانت خيار الضرورة في لحظة (تحول حاسمة من حياة اليمن ومشوارها الطويل غير المستقر)..”هكذا يرفع ياسين نعمان، هذه (اللعبة السياسية) الاعتباطية المعبرة عن مصالح قوى وأطراف الهيمنة التقليدية في صنعاء إلى مصاف الأسطورة الطبيعية التي شكلت (لحظة تحول حاسمة من حياة) لم يقل في تاريخ اليمن، بل حياة اليمن وهناك فرق بين التاريخ والحياة، وهذا هو ما يسميه بيار يوريو بـ (مفارقة المعتقد)، إذ إن الكلمات والخطابات التي تنشأ حول ظاهرة ما ليست في نهاية المطاف إلا ممارسات اجتماعية تخفي وراءها رهانات مصالح وإستراتيجيات قوى، وتعبر عن مواقع اجتماعية في صلب علاقات القوى ونزاعات الأهداف والغايات المراد الوصول إليها وتحقيقها من قبل كل طرف من الأطراف، فمن المستفيد الفعلي من هذه المبادرة والحصانة، يا دكتور؟! وأين موقع القوى التي يفترض أنـك أنت من يدافع عنها ويرعى مصالحها؟!ثانيـا : في عتبة المقال واضطراب العنوان الموسوم بـ “إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة”يوحي هذا العنوان بأننا إزاء مسألة فكرية ونظرية بالغة التجريد المفهومي وعميقة المضمون المعرفي الأكاديمي، وأصيلة الاتساق المنهجي، طالما وقد وصفت ذاتها بـ“إشكاليات”.إذ إن هذه الكلمة، المصطلح (إشكالية) قد استخدمت في حدود ضيقة عند بعض الكـتاب والمفكرين ومنهم المفكر العربي محمد عابد الجابري، بمعنى فرضيات فكرية ووجهات نظر مجردة لا معطيات مادية ووقائع وأحداث تجريبية ومختبرة في عالم الممارسة التاريخية المشخصة، فالكلمة تطلق بحسب الجابري؛ في وصف وتعريف (النظرية التي لم تتوافر إمكانية صياغتها في نسق منهجي ومعرفي متسق ومنسجم ومستقر، فهي نظرية في مرحلة المخاض والتوتر والنزوع نحو النظرية الممكنة المبنية في نسق فكري وإطار معرفي مكتمل المعالم والقسمات) (ينظر محمد عابد الجابري إشكاليات الفكر العربي المعاصر ص 15).وهذا هو ما يفتقر إليه المقال افتقارا تامـا، فلا (إشكاليات) فيه ولا أفكار، بل مجرد سرد ووصف لوقائع وأحداث ومعطيات ومشكلات متعينة ومشخصة وقعت بالفعل والقوة والإمكان في زمان ومكان وسياق ممارسة وصراع بين فاعلين وأطراف وقوى اجتماعية وسياسية على مرأى من الأعين والأسماع والقلوب والأذهان قبل عام والأعوام القريبة الماضية، فعن أي إشكاليات تتحدث يا أخي؟! هذه ليست (إشكاليات) بل وصف أيديولوجي متحيز للأحداث والمعطيات. والأمر كذلك يغدو قولك (إشكاليات من واقع ثورة) مفارقة منطقية، مثل عبارة (الدائرة المربعة)، فالإشكالية، بما هي فكرة مجردة لا يمكن أن تكون واقعية لا في صنعاء ولا في أي مكان، الإشكالية هي منطقية، والوقائع هي تاريخية، وهناك فرق بين المنطقي والتاريخي، إلا إذا كنت هيجليـا من وراء ماركس، فليست (الكلمات الكبيرة) مفيدة في كل الأحوال، يمكنك استخدام لفظ مشكلات، أو وقائع أو محطات، لتبرير (اتفاقية الصفقة الخليجية) وتسويق العجز والخذلان، في سوق الخزعبلات والأوهام الرائجة هذه الأيام.كما إن القول (من واقع ثورة الفرصة الأخيرة) هو مصادرة عن المطلوب، وحكم جزافي لا يستقيم على ذرة واحدة من الحقيقة، بل هو زيف وتزييف للتاريخ والوعي والحقيقة.إذ إنك بهذه الوثوقية القاطعة أعلنت بأن “الثورة” أصبحت (واقع) حال ومآل أي معطى منجزا ومتحققا ومتجسدا في واقع المجتمع الراهن، مثلها مثل الوقائع الأخرى، الراسخة الوجود والحضور والفعل، مثل: واقع القات، والثأر والقبيلة، والحرب والعنف، والجنبية، والفساد وتدمير دولة الجنوب الحديثة، وغير ذلك من الظواهر والوقائع الراسخة الحضور عندنا، التي لا أحد يشكك في وجودها، وهذه المشكلة ناجمة عن استخدامنا للمفاهيم الحديثة بدون حساسة نقدية.وهذا يتنافى مع أبسط الحقائق المتصلة بالشؤون التاريخية والاجتماعية، التي يستحيل الحكم عليها إلا بعد مرور زمن طويل على صيرورتها ونموها وازدهارها ونضجها واكتمال بنيتها واتضاح معالمها، وهذا هو معنى قول هيجل الشهير (إن بومة ميرفنا لا تطلق جناحيها للريح إلا مع مقدم الأصيل) أي في نهاية النهار، يقصد أن الفكرة والحكمة لا تحضر أو تقول أو تحكم بشيء عن الأحداث الجارية، حتى تتبين معالمها ويتأكد حضورها ويكتمل نضجها، وتترسخ جذورها، وهذا لن يتحقق في مجال الظواهر التاريخية والاجتماعية إلا بعد مرور عقود وقرون من الوقت والخبرة وليس بعد أشهر معدودة من المخاض والإجهاض، وهذا أمر لا يتم حتى على صعيد الظواهر الطبيعية فكثيرا ما يحتار الناس في تسمية أو الحكم على جنس المولود الجديد مسخـا كان أم ذكرا أم أنثى أم جنيـا حتى بعد أعوام على ميلاده.فكيف بظاهرة اجتماعية كبيرة ومعقدة مثل “الثورة” التي ما يزال الجدل والنقاش محتدمـا بشأنها: ماهيتها وأسبابها وعناصرها، ومعناها ومآلاتها «ينظر كتاب، برنتون (الثورة عناصرها، تحليلها، نتائجها».وقد عبر معظم الفلاسفة والمفكرين عن الصعوبة النظرية والمنهجية التي واجهتهم حينما أرادوا التعرف على (ظاهرة الثورة) وبالنظر إلى ما تراكم من أدب مكتوب في الثورة وسوسيولوجيا الثورات منذ ثلاثة قرون تقريبـا يصعب تعريف ما حصل في واقع مجتمعاتنا العربية الإسلامية عامة وفي بلاد السعيد بجهله وحكمة نخبه السياسية الطبية خاصة - “بالثورة” بألف ولام التعريف الكبيرين، وربما نحتاج إلى مرور وقت طويل قبل أن يستطيع الفكر النقدي قول كلمته وحكمه الأخير في ما جرى ولازال يجري من تحولات وتغييرات وحركات سياسية واجتماعية شعبية واسعة غير مشهودة. لقد ارتبط المفهوم الحديث (للثورة) بالسياق التاريخي لمشروع الحداثة الأوروبية، إذ ما كان لفكرة الثورة أن تتوطد بالحجج المجردة، والتنظيرات المنطقية، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل المعاش والوقائع والحقائق التي كانت تنتضد في عالم الممارسة المتعينة في عصر (ثوري بامتياز)، وفي لحظة شهد فيها التاريخ أعظم عملية تحول ثوري من التقليد إلى الحداثة. تقول الفيلسوفة الأمريكية حنه أرندت : (إن ما نسميه ثورة هو بالضبط تلك المرحلة الانتقالية التي أفضت إلى ميلاد مملكة علمانية جديدة، وقد ارتبطت فكرة الثورة منذ البداية بمعاني البدء والجدة والتقدم والعنف، وذلك بعد إرهاصات ميلاد وتبلور الحداثة على مدى قرنين من الزمن)، ينظر حنه أرندت كتاب (في الثورة). [c1]يتبع[/c]