تحقيق/محمد فؤادلطالما كان عمل الأطفال مرفوضا في كل مجتمعات الأرض وجماعاتها، خاصة أن من يعمل هم دون السن القانونية، وعملهم بالضرورة يحرمهم من التمتع كأقرانهم بطفولتهم، ويحرمهم كذلك من ذكرياتها، وربما يؤسس لمستقبل مظلم يضطر الأطفال لعراكه، ويحول حياتهم إلى “هلاك”. وبلادنا كحال المجتمعات الأخرى، خاصة ذات الوضع الاقتصادي المتدني، الذي يضطر بعض أطفاله للعمل مساندةً لآبائهم ودعما لاقتصاد عائلاتهم المتدهور، وأحيانا يكون عملهم ظلما وتعسفا، إذ يتاجر بعض الآباء ضعيفي النفوس بأطفالهم، فيعمل الصغار.. ومن بعيد يراقبهم الكبار. في رحلتي إلى “الشارع” قابلت عدداً من الأطفال العاملين، سألتهم عن تجربتهم في تحمل المسؤولية، وتبعاتها، خاصة في شهر رمضان حيث يصوم أكثرهم ، ويتحملون رغم صيامهم حر الصيف الشديد منذ 9 صباحا حتى منتصف النهار، ويحرم البعض من تأدية العبادات التي يؤديها أقرانهم في هذا الشهر، ويحرمون كذلك من تعلم العبادات الصحيحة في رمضان.. فكانت الحصيلة كالتالي:
محمد واحد من أولئك الذين قابلتهم في سوق الطويلة فسألته عن قدرته على تحمل حر الصيف اللاهب وعطش الصيام، إذ إنه وشقيقه الصغير يفردان على أرض إسفلتية مقابل احد المجمعات التجارية المعروفة بالمحافظة قطعة من النايلون الأصفر، تصف عليها بترتيب بعضُ الأواني البلاستيكية الخاصة بالمطبخ. فحمادة ذو السادسة عشرة الذي خطُ في وجهه شارب صغير، يتحدث بصوتِ هو أقرب للتمازج بين النعومة والخشونة عن تجربته الطويلة في الوقوف خلف “بسطته” يبيع منها قدر استطاعته يوميا، فلا يرهق نفسه كثيرا، خاصة في رمضان، إذ يقول:” أبدأ يومي في التاسعة صباحا وأغادر في الرابعة عصرا، وطوال اليوم على هذا الحال، أقف أمام بسطتي أنتظر المشترين، إلى أن ينتهي يومي وأغادر”. [c1]تقاعس الجهات المعنية بحقوق الطفل[/c]لم يكلف الله الطفل بالعبادة، فكيف نكلفه نحن بالعمل.. عمل الأطفال في رمضان وغيره خطأ يجب إيقافه وعلى الحكومة والمؤسسات المعنية بالدفاع عن حقوق الطفل البحث عن المحتاجين وسد حاجتهم . فصديقنا تعلم حتى الأول الإعدادي، ولأنه لم يكن جيداً كفاية بالمدرسة امتنع عن الذهاب لها، وتعلم حرفتي السباكة والحدادة، وعمل في كل منهما عاما واحدا، ولأن “معلميه” كانوا مستغلين رفض أن يتابع معهما مستعيضاً بمهنة والده في بيع القطع الكهربائية، ولأنه لا يجيد القراءة بالصورة الصحيحة كان يعزف عن دخول الجامع ومشاركة أقرانه بحلقات الدين وتعلم القرآن. يقول بحرقة:” أتمنى أن أقرأ القرآن من مصحف، وأدعو الله أن أحفظ من القرآن ولو جزءاً واحدا”.. وصرح برغبته في تعلم القراءة وحفظ آيات الله لواحد من شيوخ مسجد حيه، الذي يزوره يوميا لأداء صلاتي العشاء والتراويح، فوافق الشيخ على طلبه وسيباشر معه التعلم الجمعة القادمة، وفق قوله.
مسؤولية ثقيلة ألقيت على كتف محمد، وإحساس بالرجولة نما داخله قبل أوانه، فهو وإن كان يشكو من حر الشمس والعطش اللذين يلازمانه طوال فترة عمله، إلا أنه رفض فكرة الراحة في البيت التي أشرنا بها عليه، فرد واثقا :” الرجال يملون الجلوس في البيت فكيف لي أن أجلس فيه”، رغم ذلك “يغار” من أقرانه الذين يعيشون حياة طبيعية فيرتادون المدارس ويتعلمون القراءة ويحصلون على شرفِ الوظيفة الجيدة عندما يكبرون. [c1]رجلٌ يراقبه “والده”![/c]انه يعمل بطوعه، على خلاف جاره في العمل الذي رفض ذكر اسمه الحقيقي مفضلا مناداته بـ”محمود”، إذ يعمل محمود تحت رقابة والده الذي منعه من إتمام دراسته بعد المرحلة الابتدائية لفشله فيها، وأجبره على العمل أكثر من مرة في أكثر من مكان، حتى اشترى له قبل رمضان بعض أطقم الأواني الزجاجية وأجبره على بيعها، وحتى لا يهرب من مهمته، يراقبه من بعيد. يقول صديقنا محمود:” تعودت قليلا على العمل في الحر الشديد، وأتحمل العطش والجوع، لأني مجبر على التحمل”.. بسطة محمود تستلقي تحت ظلِ شجرة خارجة فروعها من سور إحدى المدارس، يجلس هو في المنطقة الأكثر “ظلا”. رفض في بادئ الأمر الطفل ذو الرابعة عشرة التحدث معي بحجة أنه لا يعرف التعبير، ولكن بعد مضي عشر دقائق من المحاولة وافق ، وصار بعدها ينادي زملاءه ويرشح لنا منهم من يستطيع التحدث إلينا. لم يكن رفض محمود لقاءنا لعجزه عن التعبير وفق ما أخبرنا، ولكن لأن والده كان يراقبه تلك الفترة، وبعد رحيل والده تكلم بحذر عن مشكلته التي هي باختصار أن عائلته تعاني الكثير من المشاكل المادية، ووالده عنيد ويرفض أي عمل مهما كانت طبيعته، ما اضطر الصغير وتحت إلحاح وإجبار والده لأن يعمل ليسد فراغاً واسعاً في عائلته، ويقطع بالقليل من المال يد الحاجة التي تمدها والدته للناس، رغم أنه لا يعرف الكثير عن العبادات الرمضانية وأهميتها، ولا يرتاد الجامع أيضا. [c1]أعين تحكي عن مكنوناتها[/c]
وفي قصة تختلف أحداثها عن قصة محمود، كان الطفل سمير ذو الحادية عشرة يقف أمام محلِ ملابس أطفال، يحرس شماعة كبيرة علق عليها خارج المحل القليل من قطع الملابس. بعينيه الصغيرتين الحائرتين وحركاته المتشتتة استقبلنا يسألنا حاجتنا، ولما أخبرناه أن “صحيفة 14اكتوبر” ستجري معه لقاء، لم يتردد ولم يخف، وقال مجيبا عن أسئلتنا:” أعمل مع والدي لمساعدته، ولتضييع وقتي قبل أذان المغرب”. سمير خجول وطيب، ويحفظ عددا لا بأس به من آيات القرآن الكريم، ويرافق والده لصلاة العشاء والتراويح، وصلاة الجمعة، ويشعر أن عمله طريقُ تربية صحيح. يصاب الأطفال العاملون في رمضان خاصة بحالة نفسية تتجاوز التعب النفسي إلى كره الشهر المبارك والانحراف فيه، فلابد أن تتكاتف جهود العائلة والمسجد في تعليمهم قيم وفضائل رمضان. يعتبر عمل الأطفال في رمضان وغيره خطأ يجب إيقافه، وعلى الحكومة والمؤسسات الخيرية والجمعيات المعنية بحماية الطفولة البحث عن المحتاجين من العائلات وسد حاجتهم، خاصة في شهر رمضان الذي أوصانا الله بالفقراء فيه. ونلفت الانتباه إلى أن بعض العائلات والآباء بالتحديد يعقون أبناءهم، بإجبارهم على العمل في سن صغيرة، يحرمونهم خلالها من متعة الطفولة وراحتها. ويضيف علم النفس في مثل هذه الظاهرة أن الحالة النفسية التي يمكن أن يصاب بها الأطفال العاملون تتجاوز التعب النفسي في شهر رمضان إلى كره الشهر المبارك والانحراف فيه، حيث يقول:” يرتبط التعب في أذهان الأطفال العاملين بالصوم والوقوف بالحر في شهر رمضان، الأمر الذي يجعلهم إما يفطرون أو يكرهون الشهر، ما يجعلهم غير قادرين على تعلم إيجابيات الصوم وخيراته”. ويضيف :” تختلف ردود فعل الأطفال العاملين وفق سبب عملهم، فمن يجبر منهم عليه تكون حالته النفسية أكثر سوءا من ذلك الذي يعمل بوعي وإحساس بالمسؤولية، وكلاهما يحرم من حقه الطبيعي في حياة طبيعية”، مشيرا إلى أهمية تكاتف جهود العائلة والمسجد في تعليم الأطفال قيم وفضائل رمضان، حتى لا ينشأ جيل ينفر منه، ومغصوب على الصيام فيه.