ليسوا فوق النقد أو معصومين من الخطأ وعلينا تصويب ممارساتهم بالوعي و«فقه الواقع»
الرياض / تقرير / متابعات :يحظى «الداعية» بمكانة التوجيه والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي مهمة كبيرة سبقنا إليها الأنبياء والصالحون، وشرف عظيم؛ لمن تتوافر فيه الشروط التنظيمية والكفاية الشرعية، والقدرة على فهم متغيرات العصر، وتطوير أدوات الخطاب وأساليبه، والوعي بحدود الزمان والمكان، وإمكانات العلم الشرعي دون إصدار الفتاوى وإطلاق الأحكام. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الشؤون الإسلامية السعودية في تطوير أداء الدعاة، وتقديم البرامج المتخصصة، والدورات المتقدمة، وحثهم على مراعاة أحوال المدعوين، واللين والرفق معهم، والتصريح للدعاة المحسوبين عليها، إلاّ أن الساحة الدعوية من الجنسين -الرجالي والنسائي- لا تزال «مخترقة» من دعاة غير رسميين، وأطلقوا على أنفسهم مسمى الداعية أو «الشيخ الفلاني..»، دون أن يكون هناك ضبط لدورهم، وتوجهاتهم، بل إن بعضهم ركب الموجة، واتخذ كلمة «داعية» في منظوره مطيةً وطريقاً سريعاً للشهرة «والترزز» و«التكسب»، وأصبحت موضة «وستايل» جديداً بين بعض الشباب المتدين، تسبق اسمه ليكسب أكبر عدد من «المريدين» و«الاتباع»، بعد أن فشل في الحصول والارتقاء إلى درجة علمية عالية تؤهلة للدعوة والافتاء على بصيرة وبينة، بل أصبح «جل» اهتمامهم أن يقال قام الداعية فلان بن فلان بجولة «احتسابية» جديدة برفقة المجموعة، وشارك الداعية في برنامج تلفزيزني فضائي جديد «مذكرات مفحط سابق»، ..وهكذا يستمر المسلسل في عرض حلقاته إلى أن تتبين الأمور وتنجلي الحقائق للناس. في هذا التحقيق لا نريد أن نقلل من جهود وزارة الشؤون الإسلامية السعودية ، ولكن نريد أن نلفت الانتباه إلى ممارسات «فئة ممن يطلقون على أنفسهم دعاة»، وهم غير رسميين، مثل بعض الممارسات التي بدأت تعتلي المنابر «دون تنسيق»، أو تغزو المدارس دون «تمحيص»، أو حتى تمارس حضوراً غير مستساغ في المجتمع، من خلال تجاوز الأنظمة للاحتجاج على قرار أو توجه ما، أو لفت الانتباه لكسب مزيد من «الغوغائيين » لصفوفهم؛ لذا نحن أمام مسؤوليات تصويب مثل هذا النوع من الممارسات بالوعي أولاً، وأن تتحمل وزارة الشؤون الإسلامية دورها في هذا الجانب.. وهي قادرة. في البداية يذكر الكاتب «محمد بن علي المحمود» أن لقب داعية قديم، ورافق رحلات التبشير بالدين الإسلامي، خاصة بعد تكون الفرق الإسلامية، التي احتاجت لكوادر تمارس التنقل بين البلدان لنشر مبادئ الفرقة أو الطائفة أو المذهب، وهو مستمد من أصل شرعي، حيث وصف القرآن الرسول بقوله {وداعياً إلى الله بإذنه، وفي الحديث: (من دعا إلى خير ...إلخ)، لهذا قامت الفرق بتوظيفه لتعطي رسالة للمتلقي بأن القادم إليه يمارس وظيفة الرسول ذاتها (الهداية). وأضاف: «أطلق اللقب ليمنح صاحبه الشرعية، الداعية يفترض فيه أنه لا يأتي بشيء من عنده، وإنما هو ناقل للهداية ومجتهد في توصيلها وإقناع الناس بها، ولا شك في أن المتلقي عندما يقتنع بهذه الصفات سيتبع الداعية حتى فيما يتجاوز حدود الإرشاد الديني إلى التبعية السياسية فانقلاب العباسيين على الأمويين بدأ بإرسال الدعاة لمدة ثلاثين عاماً لربط الناس بهم عن طريق الدين، وأيضاً الدولة الفاطمية بدأت ببث الدعاة، وأصبح رئيس الدعاة يتزيا بلقب باذخ هو «داعي الدعاة». ومضى «المحمود» قائلاً: «من هنا يتضح أنه ليس هناك تعريف خاص به، ولا شروط لتقلد هذه الوظيفة، ومن الملاحظ منذ القدم أنّ الدعاة ليسوا من العلماء ولا من أنصاف العلماء، ولكن يتميزون بأنّ لديهم حماسة لنشر بعض الأفكار التي تعلق بأذهانهم من طول اختلاطهم بالعلماء؛ لذا فالداعية في القديم أشبه بالوسيلة الإعلامية الجماهيرية التي كلما كانت بسيطة وسطحية في طرحها كلما اكتسبت عدداً أكبر من الجماهير، ومن هنا تركيزه على الوجدانيات، وهنا نرى أنّ الداعية يتمتع بجمهور عريض جداً عكس حال العلماء الحقيقيين الذين لا يجدون إلا النخبة لتسمعهم». التمييز بين الداعية والشيخ والفقيه أما الكاتب «منصور النقيدان» فأشار إلى عدم معرفته متى حصل تحديداً التمييز بين الداعية وبين الشيخ والفقيه، وقال: «يبدو لي أنّ عالم الدين (الشيخ) كان هو القاضي والفقيه وإمام الجمعة والداعية في الوقت نفسه والواعظ أحياناً، وحينما ننظر إلى الداعية فهو وصف يتداخل مع وصف الواعظ والمحتسب الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، غير أنّ الداعية اقتصر على من يتولى دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام، ودعوة المسلمين المقصرين والغافلين والمسرفين على أنفسهم إلى تمسك أكثر بالإسلام مقروناً بالوعظ وهو قائم على التخويف والترغيب، وهنا نعرف أنّ مصعب بن عمير كان داعية وبعض الصحابة الذين وفدوا إلى الرسول في مكة والمدينة كانوا يعودون إلى أقوامهم دعاة ومبشرين ومنهم من أصبح فقيه قومه وإمامهم». وأضاف أنّ هناك صحابيات كان لهن نصيب من هذا الوصف ممن أسلمن ورجعن إلى أقوامهن يدعين إلى الله أو قمن بوظيفة الدعوة بين نسائهن، وفي العموم فالإسلام جعل من الدعوة صفة لازمة للمسلم في كل أحواله (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن)، وقوله صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية)، وهو عموم يشمل الذكور والإناث، أما وصف الداعية فقد عرف في التاريخ الإسلامي مع دعوة العباسيين ثم مع الفاطميين، ولكن داعي الدعاة كان يقوم بمهمة سياسية سرية وهي حشد الأتباع للإمام الذي قرب وقت ظهوره وقيادته للأمة. المطوع والداعية أما في المجتمع السعودي فذكر «النقيدان» أنّ ظهور الدعاة ظهر مع دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب كما توضحه الرسائل والمكاتبات التي تعود إلى تلك الفترة وقيام الدولة السعودية في منتصف القرن الثامن عشر، وهي وظيفة كان يقوم بها عالم الدين الفقيه و(المطوَّع) الذي أتقن قراءة القرآن وتعلم الأساسيات التي تساعده على الإجابة عن مسائل الصلاة والطهارة وما شابهها، ولكنهم لم يكونوا يوصفون بالدعاة تمييزاً لهم عن غيرهم من المتدينين الذين يتوزعون مهام عالم الدين من الإمامة والإفتاء والقضاء والاحتساب والوعظ، ولكن غالباً ماكان الوعاظ على ندرتهم يشابهون كثيراً من نسميهم الدعاة اليوم، وهم فئة أعلى من المتدين العادي، وأدنى من طالب العلم المتفرغ لعلم الشريعة، ولكن الداعية طفا على السطح بشكل واضح مع الصحوة الدينية في العقود الثلاثة الأخيرة أو تزيد قليلاً. وترى الكاتبة والباحثة «أمل زاهد» أن لقب الرجل الداعية لقب حديث وإطلاقه على الوعاظ هو أحد إفرازات الصحوة، والقناعة التي تزامنت معها بأن المجتمع يعيش جاهلية حديثة تجاهد الصحوة لقشع ظلامها، ومن هنا تم إدخال الممارسات الاجتماعية التلقائية والعفوية لزمن ما قبل الصحوة تحت خانة المحظورات والمحرمات؛ التي تستدعي دعوة المجتمع الجاهلي لينزع عنه ثوب الممارسات الجاهلية - كما رأتها الصحوة - ويعود إلى رداء الإسلام بمساعدة الوعاظ أو كما يطلق عليهم الدعاة، مشيرةً إلى أنها تتحفظ كثيراً على إطلاق هذه التسميات القشيبة والمفخمة على وعاظ وواعظات يتوجهون بخطابهم لمجتمع مسلم عن بكرة أبيه، فضلاً على ما تخلعه هذه المسميات من أردية القداسة وصولجانات العلم الشمولي والمعرفة على كل من يستخدم خطاباً وعظياً يعتمد آليتي الترهيب والترغيب بغض النظر عن خلفيته أو خلفيتها الثقافية. وأضافت: ولوعدنا الى التاريخ لرأينا أنه عندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاذ بن جبل إلى أهل اليمن ليعلمهم شؤون دينهم لم يطلق عليه لقب داعية؛ رغم أنّ أهل اليمن كانوا حديثي عهد بالإسلام وأرسل إليهم معاذ بن جبل ليعلمهم ويفقههم في الدين، والخطير في حمولات هذا اللقب المثقلة بالدلالات والتي يتسلل في طياتها معنى مضمر يوحي بأن ممارسات المجتمع بعيدة عن الدين وتحتاج إلى إعادتها لجادة الصواب، وبالتالي فالداعية يأخذ بيد المجتمع ويرده إلى الإسلام الصحيح؛ ما يفترض أن كل من يخرج عن الخط الوعظي يصنف في خانة المارقين أو الخارجين عن تعاليم الدين، فهذه المسميات تحمل اتهاماً مبطناً للمجتمع بأنه بعيد عن الدين مما يقتضي دعوته من جديد للانضواء تحت مظلة الدين؛ ومن هنا ينشأ التشدد الذي يقود بالضرورة إلى التطرف والجرأة في إطلاق الأحكام على عباد الله، والذي قد يصل إلى محاولة تغيير المنكر باليد وصولاً إلى ممارسة الترهيب، ناهيك عن ثوب القداسة وقبب الحصانة التي يفرضها هذا اللقب على من يخلع عليه، ما يجعل خطابه وفهمه الخاص بالدين؛ والمنطلق من رؤية بشرية - يعتريها القصور والخطأ - فوق المساءلة والنقد وغربلة الأفكار وتمحيصها.