لليمن ..لا لعلي عبدالله صالح
حرصنا في الحلقات السابقة من هذا المقال على تناول بعض إسهامات الرئيس علي عبد الله صالح - منذ وصوله إلى الحكم - في إعادة تشغيل مفاعيل العمل الوطني بهدي أهداف الثورة اليمنية التي أعاد الاعتبار لتاريخها وجدد زخمها من خلال إطفاء بؤرالحروب الأهلية وطي صفحات الصراعات الداخلية ، والحرص على الانفتاح والتسامح والقبول بالآخر ، والبحث عن القواسم المشتركة ، والسعي لتغليب قيم الحوار على ما عداها من القيم السياسية السائدة ، الأمر الذي أفسح الطريق لتأسيس ثقافة سياسية مستقلة عن هيمنة الأيديولوجيا . وتأسيساً على ذلك يمكن القول إنه بقدر ما أسهمت توجهات حقبة الرئيس علي عبد الله صالح في تأسيس ثقافة سياسية جديدة ، بقدر ما أصبحت هذه الثقافة عنصراً فاعلاً في بنية الثقافة الوطنية التي نهضت لتخليص سؤال الوحدة من سطوة الأيديولوجيا..فقد تميزت هذه الحقبة بإصرار الرئيس علي عبد الله صالح المتواصل على ممارسة تعب البحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل متغيراتها وتناقضاتها بعيداً عن الأجوبة الجاهزة والحلول المعلبة،مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهمة تبرز على الدوام في الظروف التي تشهد متغيرات عاصفة ومتسارعة وجراحاً غائرة وعوامل كبح لا يمكن تجاوز آثارها بدون التخلص من قوالب التفكير الجاهزة ، وطرائق العمل القديمة والمألوفة . فكما أن الظروف تتغير باستمرار , فإن الحقيقة تظل نسبية وليست نهائية .. والوصول إلى الحقيقة ليس سهلاً ولا بسيطاً ولذلك فإن النخب التي تعتقد أن الحقيقة النهائية في أيديها , ولا ينبغي التعب من أجل البحث عنها يومياً بل يكفي تناولها من الملفات الجاهزة أو تقارير الأجهزة او الكتب الفقهية القديمة أو الوثائق الحزبية أو الشعارات الشعبوية.. ان النخب التي تعتقد بذلك , لا شك في أنها تخاطر بفقدان مقدرتها على التجدد والإستمرارية والعطاء , وتغامر بضياع مستقبلها السياسي وبعدم قدرتها على أن تكون طليعة سياسية في المجتمع .. ولأنه ليس كذلك فإن الرئيس علي عبد الله صالح تصرف طوال هذه الحقبة التي أشرنا إليها على نحو بدا فيه مسكوناً بهموم البحث المستمر عن الحقيقة , ومحاولة إعادة اكتشاف واقع بحاجة مستمرة إلى المزيد من الكشف. من نافل القول إن الرئيس دأب على التواصل الحي مع العديد من قادة الشطر الجنوبي قبل الوحدة ، والقوى السياسية ورموز المجتمع وممثلي الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد , وذلك بهدف التشاور والتنسيق والتعرف على وجهات النظر المختلفة , والتفاعل مع ما يراه ممكناً وضرورياً من الرؤى والتصورات .. وقد جسد بهذا السلوك الحي إلتزاماً غير مسبوق بقواعد الممارسة الديمقراطية تجاه المجتمع , حيث لا فرق بين مؤيديه ومعارضيه وخصومه , بمن فيهم أولئك الذين قاوموه بالسلاح منذ وصوله الى الحكم عام 1978م!! بهذا السلوك أسهم الرئيس علي عبد الله صالح بقسطه في تأسيس ثقافة سياسية جديدة , يستحيل بدونها معافاة جراح الصراعات السياسية السابقة , على النقيض من المشروع السياسي للحركة السلفية اليمنية التي احتشدت في الملتقى السلفي العام بالعاصمة صنعاء أواخر مايو 2009م، وما أسفر عن ذلك الملتقى من خطاب سياسي ودعوي يحرض الحكام على قطع رقاب كل الذين يعارضونهم ، ويدعوهم الى استخدام العنف ضد كل حزب أو جماعة تمتنع عن تأييد سياسات حكامهم حتى وان جلدوا ظهورهم ونهبوا حقوقهم.وسوف نعود مرة أخرى في الحلقة القادمة من هذا المقال إلى مزيد من النقد والتحليل لهذا الخطاب الذي يسيء الى صورة الاسلام بما هو دين العقل والسلام والرحمة والتسامح ، ناهيك عن أن هذا الخطاب البائس يتعارض جملة وتفصيلاً مع رصيد الرئيس علي عبدالله صالح في صياغة مشروع وطني للتغيير يجسد روح وأهداف الثورة اليمنية , ويتجاوز رواسب المشاريع القديمة التي تميزت بالإفراط في افتراض تمثيل الحقيقة, والاستغراق في اجترار ثقافة العنف والإلغاء والإقصاء التي كانت على الدوام نقيضاً للحرية والعدالة ، وصنواً للاستبداد والظلم والفساد ، وعدواً للمعرفة , بعد ان أفرطت تلك المشاريع في فرض وصايتها على العقل والحقيقة من خلال إضفاء القداسة على الأيديولوجيا السياسية بمختلف طبعاتها الدينية والطبقية والقومية على حد سواء . وقد سبق لنا القول إن التيارات السياسية والفكرية في اليمن تكاد أن تكون امتداداً لتيارات مماثلة لها في الساحة العربية التي شهدت تجارب مأزومة ومشوهة أفرزتها المشاريع القديمة بعد ان طبقت على الصعيدين النظري والعملي أفكاراً وشعارات قومية واشتراكية و إسلامية .. والحال أن المشاريع القديمة التي نقصدها كانت قد وصلت الى سدة الحكم في بعض البلدان العربية بوسائل إنقلابية أساسها الاعتماد على العنف والقوة ، ثم خسرت في نهاية المطاف وهجها وبريقها.والثابت ان الآثار السلبية لهذه التجارب الخاسرة لم تتوقف على اضعاف حيوية المجتمع العربي وتهميش قواه الحية , بل إمتدت لتصيب بدائها العضال مختلف النخب الحاكمة في تلك البلدان التي نكبت بتجارب شمولية فاشلة , وعجزت عن تقديم نموذج قابل للاستمرار والتجدد وإنتهت الى إفلاس سياسي وفكري وثقافي تكونت على تربته الهشة أزمات وإنهيارات مدوية , مقابل بروز مخاطر وتحديات قوية , لا يمكن مواجهتها بدون إمتلاك مشروع جديد للتغيير يقوم بالدرجة الاولى على قاعدة تحرير السياسة من ثقافة الاستبداد والإلغاء والادعاء باحتكار الحقيقة. وبوسع التحليل الموضوعي لمسار التنمية في كل من شطري اليمن قبل الوحدة أن يساعد على فهم تناقضات التنمية الشطرية ، وبالتالي تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي في حقبة التشطير ، والتي يعود مرجعها إلى مفاهيم نظرية مشوّهة تظاهرت بتصوير تلك التناقضات وكأنها انعكاس لاتجاهين متوازيين على صعيد مفاهيم التطور الاقتصادي والاجتماعي . وكان طبيعياً أن يترتب على كل ذلك بروز ظاهرة التخندق خلف متاريس تلك المفاهيم عند بحث إشكاليات ومصاعب تحقيق الوحدة اليمنية آنذاك , وذلك من خلال تبرير التشطير أيديولوجياً, دون أن يكون الوعي الأيديولوجي السائد في الشطرين قد أستقر على مفاهيم معرفية ناضجة ، ناهيك عن كون المرجعية الخارجية لذلك الوعي - بصرف النظر عن تناقض مفاهيمه بين شطر وآخر - لم تكن قد وصلت الى استنتاجات وتعميمات حاسمة ، على نحو ما حدث في النصف الثاني من الثمانينات حين بدأ الجهاز المفاهيمي لكل من علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي يتأزم ويتحلل بسبب تصادمه مع الميول الموضوعية لتطور التاريخ العالمي سواء على مستوى الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي المعاصرين، والثابت أن الدولتين الشطريتين اتجهتا نحو التنمية لتخفيف ضغط التجزئة على أمنهما الذاتي ، ساعدتهما في ذلك حاجة موضوعية هي جزء من وظائفها في إطار مفاعيل مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية ، بصرف النظر عن نوع الإرادة السياسية والتصورات الأيديولوجية التي حاول كل من الدولتين الشطريتين توجيه التنمية على ضوئها . كان البحث عن رؤى وأنماط متباينة للتنمية بهدف تبرير التشطير وتأسيسه على وجهتين متمايزتين لكل من الدولتين الشطريتين ، يبدو في بادئ الأمر وكأنه امر سهل ، بيد أنه كان ينطوي على تعسف لمبادئ علم الاقتصاد السياسي للتنمية في البلدان المتخلفة ، وقد تم ذلك التعسف بوضوح عن طريق الاستعانة بنظريات جاهزة لم تكتمل بعد عن التنمية والتطور الانتقالي . بالنسبة للشطر الشمالي انحصر التوجه نحو التنمية في أوائل السبعينات وبدوافع سياسية بحتة في أُطر آليات السوق وتسخير جزء من وظائف الدولة لإعادة إنتاج البنى التقليدية لما قبل الدولة , إلى جانب تنمية القطاع الخاص وتقديم مختلف أشكال الدعم والحماية له .. وفيما بعد تبلورت الحاجة إلى تنويع أشكال الملكية وأنماط الاقتصاد ، وتوجيه التدخل الحكومي لضبط أسعار المواد الأولية ودعم أسعار المواد الغذائية وإطلاق ميكانزمات التعاون الأهلي . كان كل ذلك يتم انطلاقاً من فرضيات ترى أن التنمية ممكنة إذا توافر لها قدر معين من الطاقة الاستثمارية والعمالة والإدارة والمشاركة في شئون الحكم ، مع تجاهل تام لأهمية تقويم حجم السوق الداخلية ، ومعايير الفواعل الاقتصادية الخارجية في منطقة تشكو من تبعية طرفية مطلقة ، بالإضافة إلى إغفال معايير توافر الموارد الطبيعية للاقتصاد الوطني والموارد الذاتية لتكوينه الرأسمالي .. وجميع هذه العوامل قادت التنمية في الدولة الشطرية بشمال الوطن إلى مأزق حاد , ووصلت ذروتها بعد تراجع تحويلات المغتربين على إثر انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينات . أما على صعيد الشطر الجنوبي فقد سارت التنمية انطلاقاً من منظور ساذج للصراع الطبقي , جرى بموجبه استبعاد قوى سياسية واجتماعية انطلاقاً من الأوهام التي تؤكد على ضرورة “ التقليص التدريجي للعوامل المولدة للعلاقات الرأسمالية على طريق تصفيتها نهائياً”. ولا يحتاج المرء إلى جهد كي يكتشف أن مرجعية ذلك المنظور الساذج تعود إلى الأوهام الأيديولوجية القائلة بـ “ حتمية انتقال المجتمعات المتخلفة إلى الاشتراكية مباشرة بواسطة الدعم الخارجي للبروليتاريا الظافرة ، ودون الحاجة للمرور بمرحلة الرأسمالية “ بحسب المنظور الستاليني للاشتراكية. ومن نافل القول: إن المصدر الأبرز للمأزق الذي أصاب الدولة الشطرية في الجنوب أواخر الثمانينات ، يتمثل في تعريف التخلف بصورة غير واقعية انطلاقاً من ذلك المنظور ... وكان ذلك التعريف يقدم نفسه من خلال برنامج الحزب الاشتراكي كمشروع وطني للتغيير شمالاً وجنوباًَ ، متجاهلاً بعض السمات الجوهرية للتخلف في بلادنا . فالصناعة لم تكن موجودة تقريباً ،فيما كانت بنيتها متشابهة في الشطرين باستثناء صناعة تكرير النفط في الجنوب وصناعة الأسمنت في الشمال .. أما الطبقة العاملة في الشطرين فقد توزعت بين صناعات الملح وكبس القطن والورش ومحطات الكهرباء والمياه والطواحين ومدابغ الجلود والحرف اليدوية وخدمات النقل والبناء بالإضافة إلى صناعة إحلال الوارد ، فيما كانت معايير العلاقة بين العمل ورأس المال تعكس الحجم البسيط والمتخلف للعمليات التي تديرها هذه العلاقة . وكما هو معروف فقد رُفعت بعد استقلال الشطر الجنوبي من الوطن شعارات غير واقعية طالبت بحسم العلاقة بين العمل ورأس المال من خلال التأميمات والمصادرات والانتفاضات ، بالإضافة إلى اتخاذ سياسات استهدفت استبعاد أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي والفئات الاجتماعية الوسطى من النشاط الاقتصادي .. كما اتخذت أيضاً إجراءات استهدفت تصفية الشرائح التجارية التي نشطت في مجال الاستيراد . اتضح فيما بعد أن تلك الإجراءات لم تمس سوى شكل النشاط الاستيرادي ، أما محتواه “ الكمبرادوري “ فقد بقي ثابتاً، بل إنه توسع على يد قطاع الدولة الذي احتكر لمؤسساته التجارية والتسويقية ذلك النشاط الذي ازدادت رقعته وعملياته،بالتزامن الوثيق مع تدهور العديد من الفعاليات الاقتصادية المحلية ، نتيجة لتعطيل واستبعاد قوى اجتماعية واسعة كانت تسهم بقسط هام في التداول السلعي من خلال مساهمتها في الإنتاج المحلي . وبالنسبة للأرياف فقد أدت المصادرات والإجراءات التي عطلت قوانين السوق , ومنعت المزارعين من تملك الأراضي الزراعية , إلى إعادة إنتاج البنى المتخلفة للزراعة التقليدية ذات الكلفة العالية في العمل والعائد المحدود للأجر ، مما زاد في إفقار واستغلال الفلاحين ، وأدى في نهاية المطاف إلى إفلاس الشعارات الاشتراكية ، التي كانت تنسب التخلف والفقر إلى “ الاستغلال الطبقي “ الذي يمارسه ملاك الأراضي ضد الفلاحين . ربما كان ما تقدم جزءًا بسيطاًَ من الخطوط والظلال المتداخلة في البقاع الرمادية لصورة التشطير .. وربما كانت تلك البقاع الرمادية تدل بوضوح على أن ثمة محركاً مشتركاً للاتجاهين اليميني واليساري في أيديولوجيا التشطير ، وهو الجهل بالواقع اليمني والعجز عن معرفة المحددات الداخلية والخارجية التي تحرك مفاعيله ، فيما كان كل من الاتجاهين يتحرك - أيضاً - نحو هدف واحد هو المجهول .. بمعنى أن الاتجاه اليميني في أيديولوجيا التشطير كان يشترك مع الاتجاه اليساري في الجهل بالواقع ويهرب معه إلى المجهول!! في هذا السياق شهدت السبعينات استقطابات داخلية حادة وصلت ذروتها باندلاع حرب مباشرة عام 1972م ، و حدوث مواجهات مسلحة غير مباشرة عن طريق المعارضات المسلحة. وزاد من حدة تلك الاستقطابات الداخلية تقاطعها مع خط الاستقطابات الدولية والأقليمية خلال الحرب الباردة ، حيث تحول اليمن بشطريه إلى ممر للتطرف ومركز لاستقطاب الجماعات المتطرفة التي استخدمتها القوى الدولية في مرحلة الحرب الباردة لخوض مواجهات بالوكالة ، بدءاً بجماعات الجيش الأحمر الياباني وبادر أند ما ينهوف الألمانية , وجماعات أبي نضال ووديع حداد وكارلوس , وغيرها من الجماعات المتطرفة التي كانت تنفذ مهمات مسلحة عابرة الحدود بالوكالة عن الاتحاد السوفيتي و تحت رعاية جهاز المخابرات السوفيتيه K.G.B , وانتهاء بجماعات التكفير والهجرة والجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية , والجماعة السلفية للدعوة والقتال وجماعة أنصار السنة , بالإضافة إلى قوافل الجهاد الأفغاني الضخمة التي أدارتها المخابرات المركزية الأمريكية A.t.C , ومولها صندوق دولي دوّار أنفق على تشغيل تلك الماكنة حوالي45 مليار دولار . صحيح أن ذاكرتنا الوطنية لا تخلو من بقاع سوداء لفصول دامية ، ومأساوية شوهت صورة العمل الوطني الثوري ، وأثقلت سيرته بالآلام والأوجاع والأخطاء .. لكن ذلك كان يحدث فقط عندما ينفصل المجال السياسي للعمل الوطني عن مجاله الثقافي وينقاد لسطوة الأيديولوجيا وأوهامها،فتكون النتيجة مزيداً من الفصل بين السياسة والأخلاق ،ومزيداً من الاغتراب عن الواقع ، ومزيداً من الابتعاد عن نظام القيم الأخلاقي, والسلطة المعرفية لثقافة الحرية.وهو ما يكرره حالياً الخطاب السياسي للجماعات السلفية الجهادية والدعوية بإصرار عنيد،وتهافت ساذج ، بذريعة حراسة الدين والشريعة الإسلامية على نحو ما سنأتي إليه في الحلقة القادمة من هذا المقال بإذن الله تعالى .[c1]*عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]