نجمي عبد المجيدتطرح علينا أعمال الروائي الدكتور عبد الرحمن منيف تساؤلات متسعة المسافة حول مصير الإنسان في هذا الجزء من العالم، “شرق المتوسط” العالم العربي، وقضية البحث عن الانتماء وأسباب الهروب إلى الاتجاه المغاير بحثاً عما هو مفقود في مكان الانتماء.يدرك عبد الرحمن منيف أن الصلة مع المكان والانتماء إليه لا تكون إلا عبر التاريخ ولكن هذا التاريخ نفسه يسقط في دوامات من التقاطع والتصادم وحتى الإلغاء،وهنا يصبح للفرد والحدث أكثر من تاريخ،وكما تكتب الانتصارات تاريخ المنتصر. تجد الهزائم من يكتب تاريخها المنكسر، وهذا الجانب من حياتنا هو ما تسعى الذاكرة لإسقاطه أو التغافل عنه عندما تذهب في لحظات الذل والاستسلام إلى خلق لغة تقارب مع من سحقها وأنزلها إلى مرتبة دون مستوى الإنسانية واستحداث نمطية من الحياة تنحصر في زوايا من القهر المطلق.عندما يشعر الإنسان بفقدان الانتماء للمساحة الجغرافية التي يقف عليها،يبدأ في البحث عن الإجابات وعن حالة الأزمة التي يعاني منها،وهل هي فردية أم أزمة أمة ووطن.وهنا تصبح الكتابة مسؤولية أمام التاريخ ولكنها لا تقف عند حدود التدوين بل تسعى لتصبح أداة نحو التغيير، وإيقاظ النفس من غفوة التراخي.ولكن كيف تصبح الرواية مواجهة سياسية مع التاريخ؟هذا التساؤل الكبير لا تطرحه أعمال الكاتب بل لحظات الصدام بين المثقف وواقعه.بل هي محاولة إعادة للذاكرة من التساقط المستمر الذي قد يصل إلى الغياب وعندما تفقد الروح ملامحها والشكل الإنساني لعلاقتها بالمكان تتصاعد حالات التمرد ودرجات الرفض،وتسعى للخروج من هذا الاختناق،عندها تمتد جسور الوجع الموصلة بين قلم الكاتب وجرح الإنسان.هل يمكن لمساحة الوطن أن تقطع وتتحول إلى دوائر صغيرة بعضها لما هو مرغوب والبعض الآخر لمن هو مرفوض.السجن السياسي عند عبد الرحمن منيف هو أول علامة تنكسر فيها العلاقة بين الإنسان والوطن.رواية “شرق المتوسط” الصادرة لأول مرة عام 1972م تذهب إلى هذا الاتجاه من أشكال العلاقة مع الآخر،رواية شاءت لها أزمات العالم العربي أن تصبح شاهدة على غياب الحقوق وتغييب المصائر،فهذا الكم من التعذيب والعذاب لم يحد من حالة التمرد بل أخرج ما هو مرعب،العنف الذي أصبح شيطان المرحلة والجنون العاصف بكل شيء.قيل عن هذه الرواية( قبل ربع قرن حين نشرت “شرق المتوسط” لأول مرة كان يظن أن القمع ورمزه الأقوى السجن السياسي قد ينحسر بمجرد لفت النظر إليه.الآن،وبعد هذه الفترة الطويلة نكتشف أن القمع امتد واتسع،وأنجب مخلوقاً مرعباً خطراً هو العنف، ولا يعرف ماذا يمكن أن يلد أيضاً إذا استمرت الأحوال هكذا).في هذه الكلمات تحذير من اقتراب زمن الفاجعة، محاولة لرفع الصوت عالياً حتى يتنبه الناس لما هو قادم.لأن تصاعد الظلم لا يقف عند حدود،بل هو إن انفلت تحول إلى نار تحرق من أشعلها، وهذه الدوائر الصغيرة من الأوجاع تنقلب إلى ساحات تصارع وتناحر لا تجلب للأرض والإنسان غير الخراب،والنكسة هنا لا تضرب فئة بل تعصف بكل المستويات من القاعدة إلى القمة.بعد سنوات من الكتابة الروائية يعود إلينا عبد الرحمن منيف برواية أخرى (الآن.. هنا - أو شرق المتوسط مرة أخرى) الصادرة عام 1991م في بيروت،هذه الرواية كتب عنها الأديب الأستاذ سعد الله ونوس قائلاً: “حين فرغت من رواية عبد الرحمن منيف الجديدة،أحسست حلقي جافاً وغمرني شعور ذاهل بالعار.كيف نعيش حياتنا اليومية،ونحن نساكن هذا الرعب الذي يتربص بنا هنا،والآن أي صهلاخ بليد يحجب عن أسماعنا الصراخ والأنين،كي نواصل يومنا كل ليلة،!أية ذاكرة مثقوبة تلك التي تتيح لنا أن نتناسى الآلاف الذين يهترئون في السجون هنا.. والآن! هذا عار يكاد يلامس التواطؤ. من خوفنا،وغفلتنا،وصمتنا يغزل الجلاد سياطه ومن خوفنا،وغفلتنا وصمتنا تغص بنا السجون،وتغدو الحياة هنا والآن كابوساً من الجنون والرعب.إن رواية عبد الرحمن منيف تمزق الصمت،وتعلن الفضيحة. هذه الأوطان.- السجون فضيحة وهؤلاء المواطنون المساجين فضيحة،وهذا التاريخ الشرق أوسطي معتقل يستنقع في الفضيحة. ورغم أن الرواية تلاحق هذه الفضيحة بتنوعاتها الفطرية،وتعدد مستوياتها فإنها تتعمد أن تظل قولاً ناقصاً،قولاً لا يكتمل إلا إذا أضاف القارئ عليه موقفاً أو فعلاً.وبين التعرية والتحريض،وبين النمنمة الفنية والوعي التاريخي يبني عبد الرحمن منيف رواية - شهادة،لن نستطيع الاستغناء عنها إذا أردنا أن نعرف إلـ (آن).. وهنا،وإذا أردنا أن نغير الـ هنا.. والآن أيضاً).المسافات الزمنية لا تغلي الشعور بالألم،فالحالة ما زالت تتصاعد،وشرق المتوسط ما زال يحمل من الأنين ما يجعل أرضه تواصل نزيفها بصمت الخائف من سياط الجلاد،وهذه الرواية التي نالت حظاً واسعاً بين القراء ومنعت من الدخول في عدد من الدول العربية،تجاوزت في رسم صورة الرعب المحاصر لحياة إنسان شرق المتوسط،ما قالته الرواية السابقة فنحن لا نسير إلا نحو هاوية لا صعود منها بعد السقوط،فالحقائق وأن ظلت بعيدة عن العيون فهي لا تركن لنومها تحت الرماد وإن طال زمن الانتظار.لذلك تكون الكتابة عملية استدعاء لما هو غايب عن ما يحيط بنا،والاستدعاء لا يكون مجرد سعي لحفظ المجهول في الذاكرة بل هو شاهد أمام ضمير الإنسانية لكل هذا الموت والدمار الذي يطارد الإنسان من مساحة الوطن وحتى غرفة نومه.يقول عبد الرحمن منيف : (عالم السجن بذاته، عالم مغلق وخاصة في بلادنا وفي هذه المرحلة بالذات، وأية علاقة أو امتدادات لعالم السجن بالحياة الحقيقية ليس لها وجود، ومن هنا افترضت أن تصوير هذا العالم بعزلته وانقطاعه أيضاً بهذا التحدي القسري لخلق الإنسان من نمط مختلف عما هو موجود في الخارج، لكي يكون أمثولة، ما جعلني أركز على العالم الداخلي بظلاله وقسوته وأيضاً احتمالاته بالنسبة للآخرين كي يدركوا في الوقت المناسب أن أية إمكانية للوصول إلى صيغة من العلاقة مع الخارج أو التفاعل معه لابد وأن تقتضي إلغاء السجن، ليس فقط كمكان وإنما كهيمنة وكتعبير عن قوة غير متكافئة.)خارج هذا المكان “السجن” إلى أي حد تتصل دروب الالتقاء بين الإنسان والوطن وعند أية نقطة تنفصل هذه الصلة؟ في شرق المتوسط تظل لغة التخاطب محاصرة عند حدود الشك والخوف، وتظل ليالي النفي المشهد الأخير في رحلة الهروب من مكان الانتماء إلى عالم فيه من فضاءات الحرية ما يتسع لكل لغات الحوار وألوان الخلاف المذهبي في الفكر السياسي، هناك في الجانب الآخر من العالم يخرج الصوت من حالة الهمس المرتعش ويصبح هوية تعبر عن رأي ويحمل قضية، وتكون حقوق الفرد من صفات تلك المجتمعات، وفي ظل هذا الاغتراب ورحيل المنافي وعجز الوطن عن اتساع مساحاته لكل فكرة أو رأي، يستحدث في الاغتراب الوطن البديل، وتصبح الهجرة - الهروب المنفذ الوحيد لاسترجاع بعض صفات الإنسانية التي فقدت في مكان الانتماء، أما الذاكرة تكون قوتها في الكلمة المكتوبة وتسجيل هذا التاريخ قبل لحظات الغياب.ذلك ما يطرحه علينا عبد الرحمن منيف في كتابه الرائع (عروة الزمان الباهي) الرواية - السيرة التاريخية، الصادر عام 1997م في بيروت.يوضح عبد الرحمن منيف الغاية والأسباب التي دفعته إلى تأليف هذا الكتاب قائلاً :(هذا الكتاب فرضه الموت وأملاه الغياب فلو أن الباهي محمد بقي حياً، أو لم ينته بتلك الطريقة المفاجئة السريعة، لما فكرت لحظة أن أكتب عنه. فقد كان الأكثر أهمية، بالنسبة لي، رصد حياته العارمة، متابعتها، التماس بها، وأيضاً انتظار محطته الجديدة، رحلة الكتابة الحرة، الكتابة التي يحبها : المذكرات السياسية والرواية.هذا أولاً، أما الأمر الثاني فهو أن الباهي بمقدار الفرادة التي يمثلها، من حيث الحياة والسلوك، وكان أقرب ما يكون إلى زوربا اليوناني وبالتالي كان نموذجاً فذاً لشخصية روائية بالغة الغنى والتعدد، فقد كان، بنفس الوقت ممثلاً لجيل ولمرحلة تاريخية. كان ممثلاً للجيل الذي ولد بين الحربين العالميتين، وما أنطوى عليه ذلك الجبل من أحلام كبيرة وخيبات أكبر. وكان ممثلاً لمرحلة تاريخية بالغة الأهمية والتأثير، لما حملته من إمكانيات واحتمالات، وما وعدت به من نتائج، لو أنه تم التعامل معها بعقلانية وتخطيط.. وتواضح أيضاً).لقد أفرزت سنوات الاغتراب في شوارع ومدن أوروبا.. الغرب نفسية أخرى لذلك القادم من الشرق في هذا مفارقة ما بين صورة الغرب الاستعماري، والغرب الذي يصبح ملاذاً للحرية والبحث عن المعاني لإنسان شرق المتوسط.في هذا الكتاب نذهب مع عبد الرحمن منيف في رحلة ما بين الرواية وسيره التاريخية وعبر أماكن متعددة وأزمنة مختلفة تمتزج كلها في رحلة إنسان يحمل من الأحلام والطموحات الكثير لمعنى الوطن والسلام والحرية ومصير الإنسان، غير أن تجربة الباهي كما يصورها عبد الرحمن منيف في هذا الكتاب، لا تنفصل عن مشروعه الروائي في أعماله الأخرى. فهناك السجن في الوطن - شرق المتوسط، وفي الهروب - المنفى، خطوات المتاهة البعيدة والسير في طريق السراب، وتساقط الأحلام على دروب المعاناة، ماذا يبقى لذلك المهاجر الباحث عن الوطن في منافي الاغتراب؟هنا تأتي الكتابة كمحاولة لقهر جبروت الانهيار النفسي واحتراق صفحات من حياة الفرد وغياب الرفقة في هذه الأزمنة.لم يكن الباهي محمد عند الكاتب إلا حالة واحدة للكثير من العرب الذين حلموا بالتغيير وانكسروا عند تخوم الفاجعة والصحوة المؤلمة، بل هم يقظة جيل وضمير أمة، حاول أن يرسم تصوراته عند بوابة الوطن الذي ظن أنها الطريق للخلاص فإذا به ينكب وتتهاوى على رأسه الأزمات وتتحول طموحاته إلى مراهنات في دوائر الصراعات السياسية، وتدخل الأرض في محنة من هو صاحب الحق المكتسب في القيادة، والوطنية غنيمة وإغراء، لذلك كان الباهي نموذجاً في رؤية عبد الرحمن منيف للإنسان الذي حاول أن يصنع بعض الملامح للمكان المفقود - الوطن من خلال نوعية الحياة التي عاشها في المنفى.ولكن الفاجعة الكبرى التي كسرت زمن الباهي ودفنت ما بقي من أحلامه لا تكمن في الاغتراب وسنوات الانتظار بل بالموت الذي جاء دون تحسب لقدومه، وهنا تصبح الذاكرة في حالة فراغ، فالباهي الذي حلم بالكتابة كآخر بعد احتراق المشاريع الكبرى، والسعي منه للحفاظ على أشياء يدركها هو بفعل ما تراكم في الذات من تجارب وأحداث سعي بجعل الكلمات هي الذاكرة لما عرفه، فهي التاريخ الذي يتحدث بعد التدوين في حالة الغياب.غير أن الرحيل عن الحياة كان المحطة النهائية لذلك الإنسان. والكاتب عبد الرحمن منيف أدرك تلك الخسارة لأنه كان من صحبة الباهي ورفاق الاغتراب وممن اكتشفوا أكذوبة العودة إلى الأوطان وأدركوا أن ليالي الاغتراب ما زالت طويلة، وحتى حلم الموت والدفن في الوطن أشياء بعيدة المنال، لذلك عرف عبد الرحمن منيف بأن ما يعيد للباهي حضوره للحياة هي الكتابة فأن كان الباهي قد رحل قبل أن يقدم مشروعه الأدبي عبر الرواية يكون من حق الوفاء والصداقة الكتابة عن الباهي كإنسان وتجربة مرت في الحياة.لقد أدرك الروائي الدكتور عبد الرحمن منيف أن الكتابة هي فعل حضاري وشاهدة تاريخية على مراحل من حياة الأفراد والشعوب بل هي فعل الإرادة التي تدفع الضمير والحلم نحو الاستمرار والواجهة. وعلى هذه الاعتبارات ظلت للكلمة مكانتها في حياته وحتى بعد رحيله تظل أعماله تجربة رائدة في حقل الرواية العربية الحديثة، لأنها ارتبطت بأحداث كبرى جرت هنا وما زالت تجري الآن في شرق المتوسط، عالم التخيلات والأوجاع وزمن الملح الذي يحرق الجروح النازفة ويصحر الألسن عن الكلام، إنها رحلة الفرد من سجن الوطن إلى الموت في المنفى بعيداً عن مكان الانتماء حيث يصبح الاغتراب هو المخرج من حصار يكسر القلم ويغتال الكلمات ولكن تبقى الكتابة ذاكرة لا تقهر.
|
ثقافة
الروائي عبد الرحمن منيف.. البحث عن الانتماء في شرق المتوسط
أخبار متعلقة