صباح الخير
في لحظة إيمان مطلق بمعاناة الآخر، تنزاح عن عواتقنا جبال من الأسى، فأنا لست محبطاً، لكن احتجت يوم أمس ان أدلف بوابة السجن المركزي بتعز في زيارة خاطفة لسجين وصلتني منه رسالة يطلب فيها زيارته لأمر مهم، ولا أدري كيف تمكنت من تأدية هذا الواجب، رغم إحساسي بأني أهمل كثيراً من واجباتي في الحياة دون أي مبرر!!وأمام نافذة صغيرة بمساحة وجه السجين، طلبت (أحمد) ذلك الطائر المهيض الجناح في غرفة قصية بسجن الضباب عرفته بنفسي، وبطبيعة عملي التي تمثل حلقة وصل بين الناس والسلطة المحلية.. قال انه يعرفني ولذا كتب لي ولم يتوقع ان ألبي رغبته في زيارته إلى السجن.أولاً.. أحمد شاب في ربيع العمر، سجن بتهمة تصنعها الظروف، وتتضافر جهود الحياة من أجل ان يقع أحمد وأمثاله في شراكها.. ولست بصدد الدفاع عنه، كما انه لا يدفع التهمة عن نفسه، ولا يطلب الإفراج عنه، ولا يصرخ خلف القضبان (بريء.. بريء) كما فعل فريد شوقي في فيلم تعيس...إذاً ماذا تريد يا أحمد؟!! ولماذا طلبت زيارتي؟!!وقبل ان انتظر جوابه، ثمة دمعة كانت قد سبقت حروف كلماته الحزينة، ويقول بصوت متهدج (منذ عامين وثمانية أشهر) أمضيتها في السجن، لم يزرني أحد من أقاربي أو أصدقائي إلا مرات تعد على الأصابع، وأغلبها كانت أثناء جلسات المحكمة.. أنا هنا لا أتنصل من عقوبتي ولا أقول إنني ملاك بريء، لكن مازلت أتذكر أنني إنسان، وإنني فقدت رغبتي في الحياة، ونسيت وجوه الناس، ولون الأرصفة وشكل الطرقات، وأصوات السيارات.........لماذا يقسو علي أقاربي، ألا يكفي نكد المقادير، وسوء الحظ ان أرمي هنا في الوقت الذي يجلس رفاق طفولتي في قاعات الجامعة وخلف مكاتب العمل؟!كتبت رسائلي إلى أحبابي وأعدائي على حد سواء، وأبعثها مفعمة بدموع من نشيج الليل الذي لا ينتهي.. وأردف قائلاً الليل هنا طويل.. ليس مجازاً.. ولكنها حقيقة، وكل الأشياء تذبل وتفقد نضارتها بفعل سنوات الانتظار خلف القضبان، والوجوه التي أصادفها كل يوم لا تحمل إلا شقاء الخارج ومعاناة الجحيم الذي يتكرر كل يوم.وحين ابعث رسائلي تطير في الهواء، لكنها لا تعود وكأنه لا يربطها شيء بقلب مثقل بالحنين.. بعثت إليك لأعرف ماذا يدور في الخارج ولماذا فقد الناس مشاعرهم تجاه فلذات أكبادهم، بعثت إليك لأعرف هل قامت الساعة ونسيتنا في هذا المكان؟!بعثت إليك وفي يقيني ان رسالتي ستطير كما طارت رسائلي الكثيرة في الهواء.. حقيقة الأمر إنني سألته هل لديك رغبة في شيء؟ هل تشعر بوعكة صحية؟ ولم يجبني سوى بالنفي على كل أسئلتي وأضاف.. كن صديقي.. أريدك ان تزورني بين وقت وآخر.. أبعث لي رسالة حين تتعذر عليك زيارتي.. أكتب لي كلمتين كلما عبر وجهي في خيالك لتقول لي :" انك تذكرني" هذه رغبتي فقط.إذاً دعونا نقول انه لا تعليق على من نسوا واجبهم الإنساني، على من يتظاهرون بالمشاغل ويصرفون اهتمامهم عن تلك الأرواح التعيسة خلف قبضان السجن، على من يتحالفون مع الظروف ضد أكبادهم المصفدة بقيود المتاعب والشقاء.. هناك اهتمامات أخرى في حياتنا يتعين علينا ان لا نتجاهلها، لأنها بطبيعة الحال تفضي بنا إلى أقاص بعيدة عن مواجيدنا وأحاسيسنا التي فطرنا عليها.. إذاَ لماذا نتجاهل مثل هؤلاء الذين لا يرغبون في شيء سوى ان نتذكرهم ولو بأشواقنا البعيدة.[c1]* مدير عام الإعلام والعلاقات العامة بتعز[/c]