كمال محمود عليكثيرون هم الذين لم يسمعوا باسمها، هذه الروائية والقاصة المغربية التي تناقلت كل المواقع الأدبية على الشبكة العنكبوتية خبر وفاتها، في التاسع من هذا الشهر أسلمت مليكة الروح إلى بارئها وفي العاشر منه وسدوها الثرى في الدار البيضاء.مليكة كانت استثناء بين القاصات والروائيات العربيات فهذه الأديبة المولودة في 20/6/1969م في الدار البيضاء إحدى أهم مدن المملكة المغربية ابتلاها الله وهي في السابعة عشرة من عمرها بالفشل الكلوي، وكتبت لها رحلة مع العذاب الجسدي والنفسي طيلة عشرين عاماً، ولك أن تدرك حجم معاناتها حين تقرأ شيئاً من سيرة حياتها فترى كيف تنصل عنها الأقربون من الأعمام والخالات خوفاً من تكاليف علاجها الباهظة، وكيف عانت من الوعود الكاذبة لمنظمات حكومية وغير حكومية، في قصتها الموسومة بـ "مأدبة الدم" تحكي عن معاناة مريض بالفشل الكلوي وتصور فيها معاناته وآخرين معه وكيف تنتهي رحلتهم بالموت المزري في ردهات المستشفيات العفنة. قتلاً للوقت وهروباً من آلام الجلسات "جلسات الغسيل الكلوي" التي تتكرر لثلاث مرات أسبوعياً، وتستمر الواحدة منها أربع ساعات طوال عمدت مليكة إلى القراءة، وراحت تنهل من معين الكتب، وتطلع على عديد من الثقافات، وتحولت إلى دودة ورق، قرأت العديد من الروايات والقصص ولما آنست في نفسها ميلاً للكتابة، راحت تحبر الأوراق بأجمل القصص وأجراها.حين أكملت رواية "جراح الجسد والروح" وطافت بها على دور النشر أبت أية واحدة منهن نشر الرواية، لما فيها من تناول جرئ في الأسلوب واللغة، ولما تضمنته من كشف للزيف والكذب، إذ تحدثت مليكة عن المسكوت من الأمور التي غدت تابوتاً محرماً في غرف المجتمع، يمارسه ويحرم الحديث فيه، ينضر جسده ويأبى أن يخوض معركة معه.. يداري سوءته خوف الفضيحة. مليكة بأسلوبها البديع ولغتها الرشيقة فضحت السلوكيات الشائنة والأخلاقيات العفنة لمجتمعها المغربي وربما العربي إجمالاً، وعلى رشاقة لغتها لكنها حملت الينا قدراً كبيراً من المرارة والألم.. سلطت الأضواء على بؤر الفساد الأخلاقي فتكشفت حقائق مذهلة ومرعبة في الوقت نفسه، ترى هل وصل بنا الحال إلى هذا الدرك من الانحطاط. لكنها وهي تحكي عن كل ذلك، وهي تمر بالخيانات الزوجية، وبيع الجسد والمواخير ارتقت بلغتها عالياً، ولم تكن رخيصة في وصفها مبتذلة في كلماتها.. أرادت أن تلعب دور الجراح الذي يفتح الجسد ليرينا ما فيه من أورام سرطانية، لم تدغدغ العواطف لكنها دقت طبول الخطر بكل قوة وكل جرأة.. وحين صدها الناشرون ماكان منها إلا نشرت روايتها على نفقتها الخاصة، أتدرون ما فعلت هذه المشاكسة العذبة، إدخرت ما يعطيها والدها من مالٍ لشراء الأدوية اللازمة لها، وفي قرار عنيد وخطير لتطبع روايتها، وكان أن عرضها ذلك إلى الإصابة بهشاشة العظام فغدت لا تقدر قدمها على حملها، وأضحت تسير بعكازتين.. صدرت روايتها تلك في عام 1998م، وبالطبع فقد تراوحت ردود الأفعال بين الرضا والسخط, وإن كال لها الحاقدون المقالات المنتقدة واحدة تلو الأخرى تسففها فيها وتتهمها بالتناول البذيء والخارق للعرف.مليكة لم تستسلم لما قيل عنها، كتبت عدداً من القصص القصيرة وأصدرتها في مجموعة قصصية اختارت لها اسماً من بين أسماء قصص المجموعة، فأضحى أسماً من بين أسماء قصص المجموعة، وأضحى اسمها " ترانت سيس" وهي تعني بالفرنسية الرقم 36 وهو جناح للأمراض العقلية في مستشفى الدار البيضاء، وهي كلمة صارت تطلق على كل الأفعال المخلة بالمنطق والدائرة في فلك أفعال الهبل والمجانين.تكونت المجموعة من عشر قصص لا أدري أي واحدة منهن هي الأفضل بين أخواتها.. وإن كانت كلها تسير على نفس الطريق الذي اختطته مليكة لنفسها، طريق الكشف عن المخبو والمستور ها أنت ذا تكتشف الكثير والكثير وأنت تقرأ قصصها "إمرأة وجلباب وعلبة حليب" و "الهذيان" و "مأدبة الدم" "الخدعة" ترانت سيس" وغيرها.ترى من هو المسؤول عن المرأة التي باعت جسدها مقابل أن تحقق حلمها. وماهو بالحلم العزيز في مجتمع يحترم الإنسان وإنسانيته لم تكن تحلم بالقصر الفاره، ولا بالمجوهرات والملابس المطرزة بخيوط الذهب والمرصعة باللآلئ، لم تكن تحلم بأكثر من غرفة تنام فيها وجلباب وحليب لطفلها.."التقط وردة ذابلة، اعبث بأوراقها، أرجع إلى البيت.. لا لا أرجع... أرجع... وأخيراً حسمت السماء أمرها وقررت أن تحط اللعنة.. اللعنة. أضم طفلي، الرجل يناديني، يلوح بمفاتيحه، الوردة الذابلة تئن بين أصابعي، أذهب معه لا أذهب... أذهب.."عاشت عشرين عاماً تصاحب الموت، تحمله بين جنبيها تنتظر أن يغدر بها في أية لحظة، ولعل ذلك هو ما أضفى على كتاباتها ذاك الكم الهائل من الألم والمرارة.. والرغبة الجامحة في كشف الزيف والخداع المتواري خلف الضحكة الكاذبة، والابتسامة المنافقة.الرجل في قصتها "مأدبة الدم" هذا الذي حضر للغسيل الكلوي في احد المستشفيات الحكومية يقول له صاحبه " أنت لا تملك حق الاختيار، يمكنك فقط ان تختار بين أن تموت فوراً ولمرة واحدة، أو تموت بالتقسيط على مدى شهور وسنوات، الموت سيتسلل عبر مسامك، سينخر عظامك، صدرك، قلبك وسيأكل من نفس صحنك ويتسرب إليك عبر الهواء الذي تتنفسه، وبعد ذلك ستتعود على وجوده، ستصاحبه في لحظة من لحظات الضعف الإنساني حاولت مليكة الانتصار بشرب جرعة دوائية كبيرة غير أن الله سلم، فعادت للحياة بعزيمة وإصرار وانبعثت من رماد اليأس شعلة تضئ الدروب المعتمة فكانت مليكة وما أدراك ما مليكة."فإلى رحمة الله وغفرانه أيتها الفراشة الهشة، القوية في هشاشتها لذلك تطير" ومعها نحن نطير.
|
ثقافة
بعد طول معاناة .. مليكة مستظرف في ذمـة اللّه
أخبار متعلقة