رحلتي بين الفصول الأربعة
رجعت إلى الغرفة وأنا أرى فنجاناً ساخناً من القهوة ينتظرني على شرفة البيت فجلست أتأمل كمواطنة غير مرغوب بها في وطنها المتقلب الأجواء للبحث عن مأوى جديد.ولم أستطع التوقف في تأمل الطبيعة وغمزاتها المختلفة وفي لحظة سكوت أكتسح كياني، تحولت قطرات المياه الغزيرة إلى غطاء ثلجي مثل لوحة اكتسحت أعماقها ألوان ريشة رسام محترف ليترك بصماته على طبقات القشرة الأرضية حيث لم تبق أي شجرة صامدة أمام هذه الطبيعة القاسية وغرورها المتعالي لتعلن بقاءها الدائم وحكمتها المتوازنة وتعجبت بين كل ذلك من صمود شجرة رأس السنة فرغم التغيرات المناخية وعواصفها الغدارة، أثبتت قدرتها على الوقوف وسط الحقول الواسعة وفي قمم الجبال العالية الخضراء .وحينها شعرت كيف أن البرد القارس بدأ بالتسلل إلى أطراف جسمي الخائف المرتبك وأسرعت إلى صندوقين حيث أحتفظ بالثياب الشتوية لأجد ما يحميني من هذا البرد وارتميت مرهقة أتنفس بصعوبة، فاشتعلت أنوار التدفئة لتدق أجراس قدوم رأس السنة لتنذرنا بانتهاء السنة الجارية وقدوم سنة جديدة وبقيت تحت غطاء فراشي الدافئ أبحث عن الهدوء السكينة وكانت فترة التجمد طويلة وحينها عرفت معنى الشعور بالوحدة بالرغم من وجود العديد من الأصدقاء والزملاء وغيرهم ممن يعيشون الحياة الروتينية اليومية حيث أصبحت اليوم مجرد روتين حاضر بنظام دقيق حتى دخلت مرحلة الغيبوبة العملية وصرت جثة مازالت تتحرك على أرض الواقع العجيب، إذ لم يعد هناك شيء يستحق الصراع من أجله، فعندما تختفي القيم والمبادئ والأخلاق ويسحق الضمير وتتقمص الأرواح الشريرة منابر عالية لتحكم البشرية بقانون الغابة وتصبح الإنسانية مجرد شبح يمشي في الظل تقفل أمامه كل الأبواب وتشاح عنه الأنظار وتشمئز الآذان لسماع صوته.رميت رأسي إلى الخلف وأنا أحاول مسايرة الجميع لإرضائهم والعيش في وسطهم حتى تشعبت وتداخلت مشاعري وأصبحت كذبة المستقبل غير الموعود وتركت كتابي يهرب من أطراف أصابعي يلعن يوم ولادة البشرية، فأمسكت بقلمي بقوة أكبر خوفاً من أن يتركني وحيدة، فأنا أصبحت مجرد حبراً لا يكتب على أوراق بيضاء، أحاول حماية نفسي من غضب القدر.ولكن هل هذه هي النهاية؟ أسئلة كثيرة تمر بالخاطر ويحتار العقل في فهم اللامعقول، وبين كل هذا رأيت فجأة فراشة تفوق في الجمال ما رأته عيناي يوماً لتطير عالياً إلى السماء وهي تنشر جناحيها بألوانها الجميلة، ألوان الربيع، ثم دخل علينا الربيع ليذوب الجليد الأبيض ويزاح الستار من على وجه الأرض وتظهر براعم الورود المختلفة وتتألق الأشجار باسترجاع أوراقها الخضراء لترجع الطيور المهاجرة إلى مستوطنها الحقيقي وحينها وصلت جمرة من شعلة الدفء الحارة إلى قلبي المتجمد لتعلن ثورة جديدة أسمها الربيع خلعت معها ردائي الشتوي لأشعر بأنوثتي تناديني إلى الإبحار إلى أعماق الحب ولهفة الحبيب ورهفة الإحساس المنبعثة من فجوات العمق ونسمة الطبيعة لتبدأ الشمس الخلابة في الظهور ونشر نورها إلى كل بقعة من هذه الأرض المنسية.عالم سحري جعلني أنسى همومي وأمد يدي إلى جذور المحبة وبدأت خزانتي الخشبية بالتلاعب أمامي وأفضل فساتين الربيع ترقص في داخلها تطلب مني احتواءها فاستجبت لهذا الطلب ولأول مرة وتجملت وأسدلت شعري برفاهية وأخذت حقيبة يدي وانتعلت حذائي البرونزي لأضيف سحراً كاملاً على هيئتي الرائعة فعشت أفضل اللحظات الخالدة ليتم تسجيلها في دفتر ذكرياتي القديمة وحينما قابلته كان ينتظرني ليغني لي أغنية ألهمتني وتركتني هائمة على شاطئ الذكريات والجمال حيث تبقى النفوس الصافية مشتعلة بلقاء الأحباء وبين كل هذا لم أستطع البقاء فقد كان العالم جميلاً ولكنه ليس ملكي فالصوت حاولت أن أتجاهله ولكنه كان قوياً وهو يناديني للرجوع إلى الغرفة حيث كانت البداية فتركته حائرة ورجعت إلى غرفتي لأرى قلمي قد بدأ بالتحرك وهو ينظر مشتاقاً إلي فرميت حقيبتي وجلست على كرسي وأخذت قلمي ورقصت أوراقي البيضاء أمامي تطالبني بكتابة خاطرتي الأخيرة فبدأت أكتب من جديد سطوراً عديدة ستبقى غداً في كتاب على طاولة المكتبة تنتظر من يريد الإبحار في أعماق نفسه للبحث عن ذاته الضائع في زوبعة المادة لإيجاد نفسه في عالمنا اليوم وكانت التجربة شيقة والتضحية تستحق العناء وحينها نظرت عبر النافذة لأرى أن الطبيعة لا تعاني ما يعانيه الإنسان فهي رضية وتمشي في مسارها الفصلي من دون رجوع وبدأت رحلتها من جديد لتبحث عن قلب ينتظرها في إحدى زوايا البيوت العديدة لإيجاد نقطة التوازن الطبيعي تأثيرها على النفس البشرية.