في القرن العاشر الهجري ( القرن السادس عشر الميلادي ) دخلت اليمن منعطفاً جديداً وخطيراً . فقد تعرضت إلى هزات عنيفة تتمثل في الغزو البرتغالي لسواحلها وأحكمت قبضتها على منافذ البحر الأحمر , وضربت حصاراً شديداً على موانئها كل تلك العوامل أدت إلى حدوث متغيرات في ميزان القوى السياسية المحلية على مسرح اليمن السياسي تتمثل في زوال الدولة الطاهرية السُنية التي كانت آخر الدول السُنية التي بزغت في سماء اليمن السياسي . وبعدها تبوأت مكانها دولة الأئمة الزيدية التي دخلت في عراك شديد مع الطاهريين ، والمماليك ، والعثمانيين وتمكنت في نهاية الصراع أن ترفع راية الدولة الزيدية على معظم ربوع اليمن .[c1]المماليك قادمون[/c]والحقيقة أن دخول المماليك في اليمن . كان من أهم نتائجه هو خروج اليمن من مربع تاريخ العصور الوسطى إلى تخوم التاريخ الحديث . وبعبارة أخرى أن اليمن استيقظت على عالم كان يمور بالأحداث الجسام ، والأمور العظام . فقد كانت اليمن أسيرت قيود العصور الوسطى فإذا برياح الغرب تهب عليها بقوة المتمثلة بالغزو البرتغالي من ناحية ، وأطماع وأطماح المماليك من ناحية ثانية والفتح العثماني من ناحية أخرى .[c1]المماليك والبرتغاليون [/c]بعد أن تمكن الأسطول البرتغالي من السيطرة الكاملة على منافذ البحر الأحمر، والبحار العربية الجنوبية , ومراقبة السفن التجارية سواء المصرية أو اليمنية وغيرها من السفن التي كانت تمخر عباب البحر والمحملة على متنها التوابل المختلفة والمتنوعة والسلع المختلفة القادمة من البحار الشرقية ( الهند ) . توقفت دوران عجلة الحركة التجارية في كل من موانئ البلدين . وتعرضت تلكما الدولتين إلى خسائر اقتصادية ومالية فادحة . وكان لا بد من دولة المماليك الدفاع عن ذاتها فالمسألة صارت قضية حياة أو موت أو بقاء أو فناء . وكانت الحرب بين الطرفين قادمة لا شك فيها . [c1]في طريقها إلى الاحتضار[/c]والحقيقة أن دولة المماليك في مصر كانت في تلك الفترة ـــ الذي دخل فيها الأسطول البرتغالي المياه الدافئة ونقصد البحر الأحمر ـــ تعاني من سكرات الموت . صحيح أن الحياة التجارية والاقتصادية كانت مزدهرة في مصر قبل أن يفرض الأسطول البرتغالي حصاره على موانيها المطلة على البحر الأحمر , ولكن حقيقة الأمر الأوضاع الاجتماعية كانت في غاية في السوء . والجبايات والإتاوات كانت تثقل كاهل الناس . والأمن والأمان مفقودان والحياة السياسية كانت مضطربة ، فالصراعات الدموية بين الأمراء المماليك كانت لا تتوقف لحظة واحدة. كل تلك العوامل كانت تنخر في جسم دولة المماليك وتستنزف قوتها , فكانت في طريقها إلى الاحتضار والزوال على الرغم من الازدهار التجاري والاقتصادي الذي كان يطفو على السطح أو الظاهر للعيان كانت شمس مصر المملوكية تجنح إلى المغيب فقد كان ظاهرها القوة والازدهار وباطنها الخور والضعف. [c1]في أدراج الرياحر[/c]وتروي المصادر التاريخية أن ذلك الازدهار والانتعاش الاقتصادي التي شهدته مصر المملوكية كان يذهب إدراج الرياح أو بعبارة أدق أن المستفيد الوحيد من تلك الأرباح الكبيرة والأموال الطائلة من التجارة الشرقية المتمثلة بالتوابل المتنوعة والمختلفة والقادمة من الهند هم الأمراء المماليك الأقوياء الذين كانوا يسيطرون على زمام البلاد والعباد . وعندما حاصر الأسطول البرتغالي موانئ البحر الأحمر ومنعت السفن التجارية المحملة على متنها سلع التجارة الشرقية كالتوابل التي كانت تدر أرباحاً هائلة على مصر من الوصول إليها . انكشفت الحقيقة ، وظهر المماليك على حقيقتهم بأنهم كانوا ضعفاء في مواجهة الأسطول البرتغالي القوي . وعلى الرغم أن الروايات التاريخية تتحدث أن مصر المماليك كانت الدولة الوحيدة القوية والقادرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي في مواجهة البرتغاليين . فلقد كانت تلك الدولة المملوكية تعاني في داخلها من الضعف والهزال الشديدين ، وأن مرض الشيخوخة قد تمكن منها , وأن أيامها صارت معدودات ـــ كما قلنا سابقاً .[c1] المماليك والعثمانيون[/c]ويذهب الباحث أحمد شيبان بأن من الأسباب الحقيقية وراء ضعف الدولة المملوكية في مواجهة البرتغاليين أو التي حدت من قدرتها العسكرية في مواجهتها يكمن في خوفها من العثمانيين الذين كانت تعتبرهم الخطر الحقيقي والمباشر لوجودها بخلاف البرتغاليين الذين كان في الإمكان التغلب عليهم من خلال تحصينات سواحل البحر الأحمر ومنها السواحل اليمنية ، وسواحل الولايات الهندية التابعة للحكام المسلمين . ورأي السلطان الغوري أن يحتفظ بقواته الرئيسة في مصر ، ويحرك القوات الأخرى في مواجهة البرتغاليين وبسبب ذلك كانت مواجهة المماليك للبرتغاليين هزيلة وباهتة .[c1]المساعدات العثمانية[/c]ويضيف أحمد شيبان أن العثمانيين لم يكونوا راغبين في تقديم المساعدة لدولة المماليك حتى إذا سنحت الفرصة في الهجوم عليها كان هزيمتها سهلة المنال ولقمة سائغة لهم . وذلك بسبب المشاكل التي كانت عالقة بينهم ومن أهمها " لجوء الأمير العثماني (( جم )) المنافس القوي للسلطان بايزيد إلى المماليك عام 1485م ، وهو الأمر الذي أشعل الحرب بينهما التي انتهت بعقد الصلح بينهما عام 1419م بعد انتصار المماليك " وعدم وقوف المماليك بشكل صريح مع العثمانيين ضد الصفويين الشيعة التي كانت تهدد حدودهم . وأما الدكتور سيد مصطفى سالم الذي يغاير رأي الباحث أحمد شيبان فيقول أن العثمانيين لم يكونوا يمثلون خطورة على حياة وكيان الدولة المملوكية , و لم يكن في بالهم أغراض توسعية في ممتلكات السلطان الغوري . ولقد كانت الدولة العثمانية الفتية ـــ حينذاك ـــ تواجه الصفويين الشيعة. والحقيقة أن الدولة العثمانية كانت في تلك الفترة من أقوى الدول السُنية المجاورة لدولة المماليك . وبناء على ذلك فلقد طلب السلطان الغوري من السلطان بايزيد مد يد المساعدة لبناء أسطول بحري قوي يقف في وجه الأسطول البرتغالي في السواحل الجنوبية العربية ، وسواحل الولايات الإسلامية في الهند . وبالفعل زود العثمانيين دولة المماليك بمساعدة ضخمة وقيمة أحتوت " على ثلائمائة مدفع ، وثلاثين ألف سهم, وأربعين قنطارأً من البارود وألفي مقذاف من الخشب وغير ذلك من نحاس وحديد " وعلاوة على ذلك " ألفين من البحارة العثمانيين " .[c1]الضغوط الخارجية والداخلية[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد تحركت الدولة المملوكية صوب البحر الأحمر وذلك بعد إلحاح من حكام ، وأمراء الهنود المسلمين الذين كانوا يرتبطون بمصر المملوكية بعلاقات دينية ، وتجارية كبيرة لإنقاذهم من الغزاة البرتغاليين . وبالفعل بعث عدد منهم مندوبين عنهم ورسائل إلى السلطان قنصوة الغوري سلطان مصر يستغيثون به للتصدي للبرتغاليين الذين يهددونهم , ويعملون على بسط نفوذهم في إماراتهم بهدف السيطرة على التجارة الشرقية واحتكارها . والحقيقة أن الضغط الخارجي على السلطان قنصوة الغوري ـــ كما أشرنا سابقاً ـــ لم يأتِ فقط من السلاطين الهنود المسلمين بل أتى أيضاً من الضغط الداخلي المتمثل بهجوم العلماء في داخل مصر على السلطان قنصوه الغوري بسبب تخاذله في الدفاع عن الديار الإسلامية المتمثل بعدم محاربة الغزاة البرتغاليين الذين يصولون ويجولون في البحر الأحمر والشواطئ العربية الجنوبية ، ويدمرون ويخربون الموانئ ، ويغرقون السفن التجارية دون رادع يردعهم . [c1]دولة برية[/c]ولحقيقة أن الدولة المملوكية كانت مترددة في الخوض في قتال بحري وجها لوجه مع الأسطول البرتغالي في مياه البحر الأحمر ، والبحار الجنوبية العربية ، والمحيط الهندي بسبب أنها كانت قوتها الضاربة تكمن في البر أما البحر أو بعبارة أخرى أن المماليك تمرسوا على الفروسية والطعان والنزال في البر ولم يكن لديهم خبرة واسعة في أساليب وطرق القتال في البحر . بخلاف البرتغاليين الذين كانت قوتهم الحربية تكمن في البحر وبسبب أنها دولة صغيرة ولا تملك قوات برية كافية تستطيع أن تكون لها اليد الطولي في البر . فقد اعتمدت على قوتها البحرية وبذلك تعوض النقص الكبير في قواتها البرية . ولقد ذكرنا أن الدولة المملوكية كانت سفينتها تغرق شيئاً فشيئاً بسبب المشاكل الداخلية المتمثلة بالأمراء المماليك الذين كانوا في حالة صراع دموي دائم بينهم من ناحية بل وصل الأمر أن القتال كان يدور بينهم في أزقة وشوارع القاهرة من ناحية ومحاولة بعض الأمراء المماليك الأقوياء في بلاد الشام الخروج عن معطف الدولة المملوكية في مصر من ناحية أخرى . و هذا ما أكدته المصادر أن السلطان قنصوه الغوري ( 1501 ـــ 1517م ) في الوقت الذي يعد العدة لإرسال حملة بحرية لمحاربة البرتغاليين في المحيط الهندي , وإنقاذ الولايات الهندية من مخالب البرتغاليين في الهند . حدثت محاولات من الأمراء المماليك في ( الكرك ) بالشام ، وينبع بالحجاز على الانسلاخ من جسد مصر المملوكية مما أضطر السلطان أن يرسل حملتين في تلك المنطقتين مما أضعف الحملة البحرية عسكرياً المتجهة صوب الهند .[c1]استراتيجية المماليك[/c]لقد ذكرنا سابقاً أن الدولة المملوكية في مصر لم تكن دولة بحرية مثل الدولة البرتغالية التي كانت تعتمد على قوتها البحرية , وإنما دولة برية تستند على الفرسان والمشاة . وكان من الطبيعي أن تضع الدولة المملوكية استراتيجية عسكرية تناسب قوتها وهي عدم المواجهة المباشرة مع الأسطول البرتغالي الذي يتفوق على أسطولها البحري عدة وعدداً وخبرة. فأقامت نقاط دفاع أمامية على سواحل البحر الأحمر مثل جدة ، والبحر العربي مثل عدن . وهذا ما فعله القائد المملوكي حسين الكُردي قائد الحملة البحرية التي كانت متجهة إلى الهند . فعمل على تقوية الدفاعات العسكرية في جدة " ... وعندما وصوله إلى هناك ( أي جدة ) شرع في بناء سور ضخم ذي أبراج عالية . وأكمل حسين الكردي خطة الحملة بالتوجه إلى (( سواكن )) فاستولى عليها دون حرب وأقام بها بعض الاستحكامات " . [c1]إلى الهند[/c]ووالحقيقة أن الحملة البحرية للمماليك بقيادة حسين الكُردي وهي في طريقها إلى الهند لمساعدة مرت بعدد من السواحل اليمنية والجزر اليمنية منها جزيرة كمران ، والمخا ، وعدن وفيها مكث الأسطول المملوكي فترة من الوقت . ولقد مده حاكمها الأمير مرجان الظاهري الذي كان يحكم عدن باسم الطاهريين بكل ما يحتاجه الأسطول من مؤن ، وطعام . ولقد أبلغ حسين الكُردي أن غرض الحملة هو التوجه إلى الهند لمحاربة البرتغاليين . وفي الواقع أن الروايات التاريخية لم تذكر أن حسين الكردي قائد حملة المماليك البحرية هل أقام تحصينات في السواحل اليمنية الذي مر بها كجزيرة كمران ، والمخا ؟ . ولكن أكبر الظن أنه أقام تحصينات في تلك الموانئ اليمنية بناء على استراتيجية المماليك العسكرية والتي سبق وأن أشرنا إليها وهي عدم الخوض في مواجهة عسكرية مباشرة مع الأسطول البرتغالي " ... إذ كان البرتغاليون يمتلكون البنادق والمدافع وغيرها من الأسلحة النارية ، كما كان لديهم السفن المزودة بالمدافع " , فتبع خطة دفاعية بحتة ، تكون السواحل اليمنية الخط الدفاعي الأول للمماليك , وجدة الخط الدفاع الثاني وذلك للحد من تفوق الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر ، والسواحل العربية الجنوبية . [c1]معركة ديو[/c]في خريف سنة 1508م ، دارت معركة بحرية أمام ميناء ديو الهندية بين الأسطولالمملوكي والهندي من ناحية وعدد من سفن الأسطول البرتغالي من ناحية أخرى التي كان عددها ثمانية سفن فقط . وكيفما كان الأمر ، فقد أسفرت تلك المعركة عن هزيمة عدد من الأسطول البرتغالي وانتصار تحالف الأسطول البحري المملوكي الهندي . والحقيقة أن تلك المعركة لم تكن معركة حاسمة لصالح المماليك في القضاء على قوة البرتغاليين في سواحل الهند ( المحيط الهندي ) قضاءاً مبرماً . وإنما كان انتصار جزئياً على البرتغاليين . ولكن القائد حسين الكردي قائد الأسطول المملوكي دخل في نفسه الغرور ، وظن بعد تلك المعركة البحرية في ديو أنه تمكن من كسر شوكة الأسطول البرتغالي أمام السواحل الهندية وأن النصر سير في ركبه وسيكون حليفه إذا ما التقىَ مرة أخرى بالأسطول البرتغالي . و هذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاُ : " ويبدو أن انتصار حسين الكردي في معركة ( شيول ) قد جعله يستهين بقوة البرتغاليين البحرية , فقد رفض الكُردي نصيحة حاكم (( ديو )) بالانتظار في ميناء ديو لحماية ظهور السفن ، وأصر على مغادرة الميناء لملاقاة البرتغاليين في عرض البحر " . ولكن القائد المملوكي الكُردي ركب رأسه ، وضرب نصائح حاكم ديو عرض الحائط .[c1]مرحلة فاصلة[/c]ولكن البرتغاليين صمموا على هزيمة المماليك وطردهم من مياه المحيط الهندي. وبالفعل هاجم الأسطول البرتغالي تحالف الأسطول المصري الهندي وهزمه شر هزيمة . وكانت من نتائج تلك المعركة هي أن البرتغاليين رسخوا أقدامهم في المياه الهندية من ناحية وطردوا المماليك من السواحل الهند من ناحية ثانية . وصارت المياه الهندية مفتوحة للأسطول البرتغالي الذي كان يصول ويجول فيها في حرية كاملة. ومن نتائجها ــ أيضاً ــ أن بعض حكام الولايات الهندية قدموا الطاعة والولاء للبرتغاليين , وفتحوا لهم موانيهم , وفيها أقاموا عددُ من الحصون لمراقبة تحركات الأسطول المملوكي. ويعقب أحمد شيبان على معركة ديو بأنها كانت مرحلة فاصلة وخطيرة بين المسلمين والبرتغاليين حيث تمكن الأخيرين من السيطرة على البحار الشرقية ومن ثم على التجارة الشرقية بصورة مطلقة من ناحية وتضاءلت أهمية البحر الأحمر ، والخليج العربي من ناحية ثانية وصار رأس الرجاء الصالح ، وساحل أفريقيا الغربي يمور بالسفن بمختلف الأحجام والأشكال , وصارت الملاحة البحرية لا تنقطع فيهما حتى افتتاح قناة السويس عام 1869م . [c1]الحملة المملوكية الثانية [/c]وبعد هزيمة الحملة الأولى للمماليك بقيادة الأمير حسين الكُردي من البرتغاليين أمام سواحل الإمارات الهندية في سنة 1508م . لم ييأس السلطان الغوري من إرسال حملة بحرية أخرى إلى الهند لطرد البرتغاليين منها وذلك إدراكاً منه من خطورة الموقف على كيان وهيبة دولته . فالأوضاع الاقتصادية والداخلية في دولته غاية في السوء والخطورة من جراء الحصار البرتغالي على سواحل البحر الأحمر من جهة وأحكام قبضتهم على التجارة الشرقية القادمة من الهند من جهة أخرى ــ كما أشرنا سابقاً ـــ وبالرغم من هزيمة المماليك في معركة ديو بالهند . فلقد ظل الأمراء الهنود يبعثون بالرسائل والمندوبين إلى مصر ــ المملوكية , ويستنجدون بها " ... ضد البرتغاليين الذين اشتدت وطأتهم في الهند بعد انتصارهم " . في تلك المعركة". والحقيقة كان رد السلطان الغوري رداً إيجابياً للأمراء الهنود الذي طمأنهم بإرسال حملة بحرية أخرى تعمل على طرد البرتغاليين أمام سواحلهم . وطلب منهم أن يكونوا على تعاون معه لتحقيق أهداف الحملة المملوكية الثانية وهي إخراج البرتغاليين من مياه المحيط الهندي من جهة وفك الحصار الخانق على سواحل البحر الأحمر ، والبحار العربية الجنوبية من جهة ثانية وتدفق بضائع التجارة الشرقية ومن أهمها ( التوابل ) إلى موانيه من جهة ثالثة وبذلك تعود عجلة الحياة الاقتصادية إلى الحركة والنشاط . [c1]القائد حسين الكُردي[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد توجهت الحملة المملوكية الثانية إلى الهند بقيادة حسين الكردي في سنة 621هـ / 1515 م والذي سبق وأن خاض معركة بحرية مع البرتغاليين الذي انتصر فيها على بعض سفنهم أمام ساحل ديو الهندية . ولكن بعدها مباشرة تلقى هزيمة قاسية على يد البرتغاليين ـــ كما أشرنا سابقاُ ــ . ويبدو أن سبب اختياره يعود إلى أنه أحتك بالأسطول البرتغالي ، فخبر أسلوبهم في القتال ـــ وكذلك ـــ دوره الجيد في تحصينات موانئ البحر الأحمر كجدة ، سواكن ، وجزيرة كمران والتي أسفرت عن نتائج إيجابية في الحد من نشاط البرتغاليين في تلك الموانئ أو المنطقة ومن المحتمل أن تلك العوامل المتنوعة والمختلفة كانت سبباُ وراء اختياره قائداُ للحملة البحرية المملوكية الثانية . [c1]السلطان عامر والمماليك[/c]والحقيقة أن المماليك وضعوا نصب أعينهم على ضرورة إقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية ومنها بالذات ( عدن ) التي تعد المدخل الجنوبي الحقيقي للبحر الأحمر " ... وذلك لغلق البحر الأحمر أمام البرتغاليين ، ولاتخاذ هذا الميناء الهام قاعدة لنشاطهم البحري في المحيط الهندي وفي الهند " . والحقيقة أن تلك الاستراتيجية الذي فكر وقرر المماليك على تحقيقها علىَ أرض اليمن وعلى وجه التحديد على سواحلها وهي إقامة مراكز أو خطوط دفاعية ــ كما سبق وأن أشرنا ـــ لغلق منافذ البحر الأحمر في وجه الأسطول البرتغالي أثارت مخاوف السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 923هـ / 1517م ) بأن تتحول دولته إلى تابعة للمماليك . [c1]تراجع السلطان عامر[/c]وتذكر المصادر أن القائد المملوكي حسين الكُردي عند وصوله إلىَ ميناء جيزان أرسل إلى السلطان عامر " ... يخبره بوصول الحملة لمحاربة البرتغاليين ، ويطلب منه مساعدته ومده بالعون من المال والطعام " . ولكن السلطان عامر كان في حقيقة الأمر متردداً بين مساعدة المماليك أو الإحجام عن مساعدتهم . ويبدو أن ذلك التردد يعود إلى أن السلطنة الطاهرية استنجدت بالسلطان قنصوة الغوري بعد محاولة البرتغاليين السيطرة على عدن مباشرة . ولكن تلك المساعدة لم تصل إليها بسبب ـــ كما قلنا سابقاً ـــ إلىَ أوضاع السلطان ( الغوري ) الداخلية الصعبة وأخطرها على الإطلاق التدهور الاقتصادي الذي حل بسلطنته من جراء احتكار البرتغاليين للتجارة الشرقية والحصار الشديد على موانيه المطلة على البحر الأحمر . وعندما فشل الغزو البرتغالي على عدن دون مساعدته . رأي السلطان عامر أن يتراجع عن الوعود الذي قطعها سابقاً على نفسه للسلطان ( الغوري ) وهي إقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية . وهذا ما يؤكده الدكتور سيد مصطفى سالم قائلا : " ولما فشل الهجوم المذكور ( الهجوم البرتغالي على عدن ) دون مساعدة خارجية ( أي من السلطان الغوري ) ، وتأخر وصول الأسطول المصري إلى اليمن ، تراجع السلطان عامر عن الوفاء بوعده.. [c1]هدف الحملة البحرية[/c]والحقيقة أن الباحث أحمد شيبان ، يذكر معلومات جديدة ومثيرة عن الحملة الثانية المملوكية التي كان هدفها الرئيس هو الإبحار إلى الهند وطرد البرتغاليين منها ــــ على حسب ما تذكره المصادر ـــ وهي أن الغاية الرئيسة من تلك الحملة الثانية المملوكية هو إقامة قواعد بحرية على سواحل اليمن أو بعبارة أخرى هو السيطرة والاستيلاء على اليمن وليست الغاية من الحملة المملوكية الإبحار إلى الهند . ومن المرجح أن السلطان عامر قد علم بنواياهم تلك فرفض مد يد المساعدة لقائد الحملة المملوكية الثانية حسين الكُردي . و يقول أحمد شيبان أنه من غير المعقول أن يتصرف قائد الحملة المملوكية بغزو اليمن والسيطرة على سواحلها دون علم سلطانه ( الغوري ) . فقد كان هناك تنسيق مسبقاً بينه وبين حسين الكردي في تلك المسألة الهامة أو إذا شئت فقل كانت هناك توجيهات واضحة من السلطان ( الغوري) على أن تكون الحملة الثانية غايتها الرئيسة هو اليمن وليست الهند . وهذا ما دفع ببعض الحكام الهنود يعلقون على سياسة حسين الكُردي في حملته الثانية المتمثلة بالسيطرة على اليمن ، بقوله" : " فتعلق الأمير حسين ( أي حسين الكردي ) بحرب اليمن ونهب بلدانها ". [c1]فشل الاستيلاء على عدنر [/c]ولكن الدكتور سيد مصطفى سالم يرى أن سبب عدم توجه الحملة البحرية المملوكية إلى الهند وذلك بسبب فشلها الذريع في الاستيلاء على عدن . وفي هذا الصدد ، يقول : " ولقد أدى فشل المماليك في الاستيلاء على (( عدن )) إلى توقف حملتهم عن الذهاب إلىَ الهند ، فقد رأى هؤلاء أنه لا يمكن ــ مؤقتاً ـــ الذهاب إلى هناك دون ضمان حماية البحر الأحمر ، ودون تأمين خط رجعتهم ، ولذلك قرر المماليك أن يتخذوا سواحل تهامة اليمن خط دفاع أول عن البحر الأحمر " . [c1]المماليك وقوى المعارضة[/c]وعلى أية حال ، فقد رفض السلطان عامر بن عبد الوهاب ـــ كما أشرنا سابقاً ـــ أن يقدم المساعدة لقائد الحملة المملوكية الثانية حسين الكُردي وذلك خوفاُ أن تصير دولته تابعة لمصر المملوكية أو بعبارة أخرى " ... تكون مطالب المماليك نوعا من فرض السيادة السياسية أو السيطرة العسكرية على اليمن ، أو يتحول طلب المماليك إلىَ جزية سنوية يطالب بها اليمن باسم محاربة البرتغاليين " . وكان نتائج ذلك الرفض أن استغلت بعض العناصر اليمنية المعارضة لحكم السلطان عامر والتي كانت دائما في عداء معه والتي كانت تسعىَ إلى زحزحته عن مسرح الحكم بشتى الوسائل بسبب قوة شخصيته وقبضته الحديدية في مواجهة القلاقل والفتن التي كانوا يثيرونها في وجه سلطنته بين الحين والآخر . ولقد أجمعت المصادر بأن السلطان عامر بن عبد الوهاب كان من أعظم ملوك وسلاطين الدولة الطاهرية الذي حكم اليمن قرابة 29 عاماً , وفي عهده شهدت السلطنة الطاهرية استقراراً وازدهاراً على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية . وهذا ما يؤكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، بقوله : " والحقيقة أن السلطان عامر كان حاكماً قوياً طموحاً, ويعتبر من أبرز شخصيات الأسرة الطاهرية ، فقد أظهر نشاطاً كبيراً منذ توليته الحكم في جمادى الأولى سنة 894هـ ( أبريل 1489م ) ، وعمل على توسيع رقعة أملاكه ... وقد ورث السلطان عامر بن عبد الوهاب حولي ثلثي اليمن فقط عند توليته الحكم ، أما الثلث الباقي فقد كان موزعاً بين عدد من الأئمة الزيديين " . [c1]الإمام شرف الدين[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد استغلت بعض المعارضة السياسية اليمنية ــ كما اشرنا سابقاً ــ الخلاف الحاد الذي وقع بين السلطان عامر والقائد المملوكي حسين الكُردي للقضاء على الدولة الطاهرية وكان من أشد خصومه السياسيين هو الإمام شرف الدين يحيى الذي كان يعتبره العقبة الكأداء في سبيل تأسيس طموحاته السياسية وهي قيام دولته الزيدية على أرض اليمن . في عهد السلطان عامر كان الإمام شرف الدين الذي " أعلن إمامته في حجة في سنة 1506م " عديم الذكر بسبب قوته وقبضته الحديدية على شئون اليمن . [c1]الضربة القاصمة[/c]والحقيقة أن الدولة الطاهرية في أواخر حكمها واجهت ضربة موجعة بل قل قاصمة شلت قدرتها على الحركة في مواجهة الثورات والتمرد والقلاقل وأضعفت قبضتها على زمام اليمن وهي الأوضاع الاقتصادية المتدهورة من جراء حصار البرتغاليين لسواحلها واحتكارهم للتجارة الشرقية ، واكتشاف الطريق البحري الذي يؤدي مباشرة إلى الهند وهو رأس الرجاء الصالح ــ كما سبق وأن أشرنا ـــ وعلاوة على ذلك أن المماليك عندما وطأت أقدامهم سواحل اليمن كانوا يملكون البنادق والأسلحة الفتاكة التي لم تعرفها اليمن من قبل . وفضلاً عن ذلك تواطأ بعض العناصر المعارضة المحلية لحكم الدولة الطاهرية . ومما أثار عليها الأهالي وخصوصاُ في تهامة أنها استعملت القوة المفرطة في جمع الإتاوات والجبايات منهم كل تلك العوامل كانت من الأسباب الرئيسة وراء أفول نجمها من سماء اليمن السياسي .[c1]وجهاً لوجه[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد بدأت مدن وموانئ السواحل اليمنية التي كانت تحت نفوذ الدولة الطاهرية تسقط الواحدة تلو الأخرى . وكانت القوات الطاهرية تخلوا مواقعها وتنسحب من موقع إلى آخر وتتكبد خسائر فادحة في الأرواح من جراء مدافع وبنادق المماليك الفتاكة ـــ والتي سبق وأن ذكرنا ــ أنها لم تكن معروفة في اليمن من قبل . ولقد حاول أمير الحديدة التابعة للدولة الطاهرية التصدي للمماليك ولكن المدينة تعرضت لقصف شديد من قبل مدافع المماليك أوقعت بها الخراب والدمار . وكان ذلك درساً واضحاً لأمير (( اللحية )) أن يتعاون مع المماليك وذلك بعد رأى ضعف الدولة الطاهرية في تقديم له يد المساعدة . وهذا ما يؤكده الدكتور سيد مصطفىَ سالم ، بقوله : " أن قوة مدافع الأسطول المملوكي كانت من العوامل الهامة التي دفعت أمير (( اللحية )) الإسراع بالاتصال بالمماليك ، أو كما قيل أن أمير اللحية كان قد (( فهم الدرس )) الذي تلقاه أمير (( الحديدة )) على يد المماليك عندما ضربت مدينته بالمدافع من البحر , وخاصة عندما شاهد أمير (( اللحية ))عجز الحكومة الطاهرية عن حماية الحديدة " . وأخذ المماليك يزحفون على مدن وسواحل تهامة كمدينة (( الزيدية )) ، (( الضحىَ )) . [c1]مسلسل هزيمة الطاهريين[/c]والحقيقة أن سقوط عدداً من المدن التهامية ، كانت بداية نهاية سقوط الدولة الطاهرية , فالمماليك يتقدمون في تلك المدن بسهولة ويسر وذلك بمساعدة الأهالي الذين تعرضوا من قبل حكام بني طاهر إلى صنوف من العنف والقسوة والظلم من جراء الإتاوات والجبايات التي كانت تثقل كاهلهم بعد أن فرغت خزانة الدولة الطاهرية من الذهب والفضة والأموال الهائلة بعد حصار البرتغاليين لسواحلها واحتكارها لبضائع التجارة الشرقية . وكان يعني انضمام أهالي مدن تهامة إلى المماليك هو أن الدولة الطاهرية قد خسرت أقوى سند لها في محاربتهم وأن بقاؤها لم يعد له مبرر, وأن أيامها صارت معدودة . ولذلك لم يكن غريباُ سقوط مدن تهامة بتلك السرعة وسهولة اختراق المماليك لدفاعات الطاهريين وإلحاق بهم الهزائم الكبيرة الواحدة تلو الأخرى . وهذا ما حدث بالفعل عندما التقىَ الجمعان المماليك والطاهريين في شمال زبيد ودارت معركة كبرى بين الطرفين أسفر عن هزيمة الطاهريين , وسقوط زبيد أكبر وأهم مدن تهامة في يد المماليك . وانسحب الطاهريين إلى تعز . [c1]وأسدل الستار[/c]والحقيقة أن السلطان عامر بن عبد الوهاب كان مصمماً على قتال المماليك وطردهم من مدن وسواحل تهامة على الرغم من الهزائم المتتالية والفادحة التي لحقت به وبقواته . ويبدو أن السلطان لم يكن يعلم أن الناس انفضوا من حوله والتفوا حول المماليك ليتخلصوا من قسوة عماله وأيضاُ لم يعلم أن عدد من أمرائه قد تحالفوا مع أعدائه المماليك . وأن البساط السياسي قد سحب من تحت قدميه . وعلى أية حال ، دارت بالقرب من زبيد معركة كبرى أخرى بين المماليك والسلطان عامر ، كان من نتائجها هزيمة السلطان والتقهقر إلى تعز . وعندما علم السلطان عامر بأن المماليك يزحفون على تعز . قرر التوجه إلى إب ، وتذكر المصادر أن المماليك توجهوا إلى (( المقرانة )) والتي كانت مقراً لحكم السلطان بهدف قطع الطريق عليه والاستيلاء على ثرواته وبالفعل استولى المماليك على كنوزه المدفون في قصوره . وعندما زحف المماليك إلى صنعاء ، قرر السلطان عامر اللحاق بالمماليك بالقرب من صنعاء . ويصف الدكتور سيد مصطفى سالم تلك المعركة التي دارت رحاها عند أسوار مدينة صنعاء : " ... حيث قامت معركة كبيرة بين الطرفين انتهت بقتل السلطان وأخيه عبد الملك ، وذلك في 23ربيع الآخر سنة 923هـ ( 15مايو سنة 1517م ) ، وقد استولى المماليك على صنعاء بعد ذلك مباشرة ، فقتلوا كثيراً من أجنادها وأهلها ، وقاموا بالكثير من أعمال السلب والنهب " . وبمقتله يسدل الستار عن حياة أعظم سلاطين الدولة الطاهرية الذي حكم اليمن نحو تسعة وعشرين عاماً . وبعد اختفاءه من مسرح اليمن السياسي حدث فراغ سياسي كبير ، اضطربت أحوال اليمن اضطراباً شديداً وخاصة في الهضبة الوسطى والمناطق الجنوبية من اليمن ، وأهتز حبل الأمن والأمان اهتزازاُ كبيراً . وبدل أن يعمل المماليك على نشر الاستقرار والطمأنينة في تلك المناطق , فإذا بهم يقومون بأعمال النهب والسلب بصورة مستمرة , وأذاقوا اليمنيين صنوفاً من العذاب الغليظ . ولم تذهب سطوتهم إلاّ بعد فتح العثمانيين لليمن سنة ( 945هـ / 1538م ) . [c1]الهوامش[/c]الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـــ 1635م ، سنة الطباعة 1969م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية ـــ القاهرة ـــ مصر .أحمد سالم بن شيبان ؛ الوجود المملوكي في اليمن 1515 ـــ 1538م ، الطباعة الأولى 2002م ، جامعة عدن ، دار الثقافة العربية ـــ الشارقة ـــ.
|
تاريخ
اليمن و المماليك
أخبار متعلقة