كتب / إقبال علي عبدالله :غادرت المكتب مساء أول من أمس السبت على غير موعد مع الخروج المبكر من الصحيفة , حاولت وأنا أستعد للخروج المبكر أن لا يراني أحد خاصة أخي وزميلي الجميل / نجيب مقبل , مدير التحرير , الصورة الجميلة في زمن القبح الذي نعيشه , وأنا في السلم قبل الوصول إلى البوابة فاجأني الرجل الطيب , ذاكرة الصحافيين منذ أكثر من ثلاثة عقود , الزميل / علي فارع , ليسألني : « إلى أين ... شكلك تعبان ؟! » , أجبته دون أن أعلم إن حديثي معه سيكون هو الأخير : « نعم تعبان سأذهب إلى المنزل لقد صممت ماكيت الصفحة الأولى وأعطيته مدير التحرير , إذا هناك شيء أنا في المنزل » , لم أذهب إلى المنزل , وأعتقد أن صديقي / علي محمد فارع , قد سمع في هذه اللحظات آخر كذبة في حياته !! لأنني وبعد عامين ذهبت إلى لبحر .عدت إلى المنزل عند الواحدة فجراً , فاقداً الجوال الذي أحمله مثل روحي ... الساعة الثامنة صباحاً , أمس خرجت إلى المكتبة لشراء الصحيفة وكانت الصدمة التي أخرجتني عن دائرة الهدوء الصباحي , صرخت وأنا أقرأ في الصفحة الأخيرة هذا العنوان « وداعاً شهيد الواجب زميلنا المصور الصحفي علي محمد فارع » ورافق العنوان خبر قرأته بصعوبة وصورة / علي فارع التي كان يحلم بأن يراها بمثل هذا الحجم وهو حي , نعم صرخت ولم أجد نفسي إلا وأنا داخل المدرسة الابتدائية التي يدرس فيها حبيبي وروحي وصديق عمري الطفل / علي / ابن أخي الأصغر / رشدي / , واستأذنت المعلمة وأخرجت/ علياً / من المدرسة لحاجتي إلى صدر أبكي عليه , فكان الطفل / علي : هو ذلك الصدر .مساء أمس الأول , كنت أفكر بعد اتصالي بالزميل/ نجيب مقبل وبعد فقداني لهاتفي الجوال , أن أكتب عن مسيرة عامين لصحيفة ومؤسسة أكتوبر , عامين منذ تعيين القيادة الصحفية المتميزة برئاسة الأستاذ / أحمد محمد الحبيشي , لإنقاذ المؤسسة في اللحظات الحرجة من حياتها وهي في غرفة الانعاش , ولكني وجدت نفسي أكتب , بل أبكي عمري وأنا وحيد في مكتبي الذي أنطفأت أنواره بعد رحيل منظم حياتي العملية صديقي / علي محمد فارع , نعم رحيل ذاكرتي بل ذاكرة الصحافة اليمنية في عدن , رحيل دون استئذان حتى من نفسه , لأن الرحيل باغته وهو ممسك كاميرته في طريقه إلى زوجته وأولاده في ساعة متأخرة من الليل , رحيل , فاجعة أبكت كل من يعرف / علي فارع الذي كان يعرف بين أصدقائه بـ “ الفشفشي “ لاعتقاده أنه يعرف كل شيء , لأن قلبه الطيب كان دائم الاخضرار , لا يعرف غير حب الناس وخدمتهم وعشق الكاميرا التي رافقته منذ صباه حتى ساعة رحيله / الفاجعة مساء أول من أمس من هذه الدنيا التي أقولها بصدق كان صديقي / علي فارع أكبر منها , أكبر بالحب الذي لا يعرف غير الحب وليس النميمة بين الأصدقاء والخداع والكذب , حب رحل هو الآخر مع قلب صديقي / علي .منذ نحو عقدين عرفته صدفة في الصحيفة , رافقني في إحدى تغطياتي الصحفية كان مصوراً لا يقول أبداً كلمة « لا » فناناً يمتلك عيناً فنية وهو يختار اللقطات التي سيدونها بكاميرته , أقترب مني واقتربت منه حتى صرنا صديقين , بل زاد الاقتراب ليكون أحد أفراد أسرتي , بل أمين أسراري الشخصية , وأعتقد أن كل من عرف / علي محمد فارع جعله صديقاً له , خدوم حتى الخجل , بسيط حتى الكبرياء, عفيف النفس في زمن جعل الكثير من الصحفيين أشبه بالشحاتين أمام المسؤولين ورجال الأعمال والمال , راتبه لا يكفي حتى أسبوع من الشهر , لكنه لم يمد يده لأحد , كلما ضاقت به الأحوال أحتضن كاميرته وجلس أمام البحر , يبكي بصمت , ويضحك بجنون ويفرح للآخرين أكثر من فرحه لنفسه , واعتقد أن أيام الفرح في حياته كانت قليلة, لكنه كان يصنع الفرح للآخرين .هذا هو صديقي المصور الصحفي المبدع / علي محمد فارع أبو / محمد / , الذي يعتز حتى العبادة بأنه ابن هذا الرجل البسيط الذي لم يشاهده أحد يبكي يوماً , هذا هو صديقي الذي حتى لحظة كتابة هذه الأسطر أنتظره ليأخذ مادتي هذه للطباعة , كان رحمه الله وأسكنه فسيح جناته , ارشيفي وذاكرتي خاصة بعد أن ضعفت الذاكرة بسبب ارتفاع السكر لدي , فكان الراحل يذكرني بحبي للعمل كلما حاولت الذاكرة أن تنسيني حتى لحظات أنني مازلت أعمل ولم أتقاعد بعد .لن أنساك يا صديقي فأنت ممن سكنوا قلبي مثل أبي وأمي وطفلي علي وحبيبتي التي رحلت عني إلى حب آخر , وأنا مازلت مسكوناً بداخلها .لن أبكيك لأنني لم اصدق بعد أنك رحلت عني فأنا سأظل أنتظرك حتى وإن طال الانتظار .
أخبار متعلقة