أضواء
قنوات خليجية. مُشاهِد خليجي. استديوهات «فخمة». برامج شعرية متشابهة. صورة فضائية مصبوغة مكرورة. برامج شعرية تكتظ بها شاشات القنوات التلفزيونية داخل البيوت الخليجية. تحضر القبيلة أولاً ويحلّ الوطن ثانياً وربما ثالثاً. أيضاً سباقات «مزاين» الإبل تحضر القبيلة إسماً ورسماً قبل كل الأشياء والعوالم.بُعَيد حرب تحرير الكويت من الغزو «الصدامي»، راجت في دول الخليج مجلات تهتم بالشعر وصور الشعراء الشعبيين، حتى ان الناس أدبروا عن قراءة السياسة والثقافة، وأقبلوا على قرض الشعر وحفظه ونظمه، واليوم يتكرر المشهد ثانية فوق الرؤوس بفضل أطباق الفضاء.برنامج شاعر المليون الإماراتي يوقظ «هرمون» القبلية، ويهدد اللحمة الوطنية في دول خليجية!لماذا برزت ثقافة العودة إلى القبيلة في القرن الحادي والعشرين تحت سماء منطقة ثرية ترقبها عيون أهل المطامع والمصالح؟ما الهدف الحقيقي من وراء هذا البرنامج في زمن «أغبر» وعالم «أخطر»؟ ربما تكون الإجابة العلنية «سطحية» ترتدي عباءة الحفاظ على تراث الجزيرة العربية، لكن الإجابة «الخفية» تكمن في تهييج المشاعر والعواطف و«نتف» حسابات الناس.تُرى ماذا سيكون تبرير المهووسين بـ «عقدة المؤامرة» في ما لو كان «شاعر المليون» من إنتاج شركة غربية أو أميركية، وليس قنوات تلفزيونية خليجية؟هل المصرية نشوى الرويني صانعة فلسفة معلقات «سوق عكاظ النبطية» الجديدة حتى تلقَّب بـ «عراب» برنامج شعري خليجي مليوني؟سعوديون رفعوا شعار المقاطعة للبرنامج عبر مواقع الكترونية ورسائل «اس ام اس» بعد خسارة شعرائهم للمراتب الثلاث الأولى. تهم متعددة مفادها عدم عدالة اللجنة التحكيمية. سعوديون يزعمون أن «بيرق» الشعر سُلب منهم إن لم يكن بسبب ضعف التصويت وتداخل الاتصالات، فإن وراء الأكمة غشاً وتطفيفاً وسوء بيعة.“فراعنة” السعودية جمع الشاردات والواردات من المبررات بعد إعلان النتيجة. تغنى بـ «ناقته» طوال المسابقة، لكنها لم تدر حليباً في يوم الحسم فحلَّ خامساً، لكنها اقتلعت له شهرة وحظوة جماهيرية. يبدو ان الفراعنة كان أكثر الشعراء المشاركين ثقافة وعمقاً وقدرة على توظيف المفردات، لكن النتيجة جاءت بما لا تشتهي السفن السعودية.المشهد متغير. ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد لم يسلم «بيرق» الشعر كما فعل في نسخته الأولى بعد أن انسحب فجأة، ليتولى المهمة نيابة عنه وزير الخارجية عبدالله بن زايد. انفتح سؤال جديد... هل هناك رسالة تختفي بين ثنايا «بيرق» الشعر النبطي المليوني؟!المحصلة النهائية أسئلة كثيرة تبرز بينها اتهامات ومشاحنات وحَلْب جيوب وخَلْب قلوب. العصبيات تتزايد والقبائل تتغنى برجالها وأفعالها على حساب «كينونة» دول خليجية ثرية تحظى باستقرار لا يحظى به ما حولها من دول الجوار واللاجوار.عاد الشاعر السعودي المجنَّس قطرياً خليل الشبرمي بالبيرق من أبوظبي إلى الدوحة ليعلن نفسه «شاعر المليون» في نسخته الثانية.برنامج «شاعر المليون» خلق انقلاباً جديداً في المشاهدة التلفزيونية وألهب مشاعر العامة. قنوات تلفزيونية تبدأ في محاكاة وتقليد هذا البرنامج بغية استقطاب المشاهدين وسلب الأموال «طوعاً» عبر تحريك المشاعر وضغط «زر» القبلية.تفوقت الانتماءات القبلية على الوطنية، إذ تمكن البرنامج من استعادة العصبيات التي لجمتها الدول الحديثة، ورفعت مواقع «إنترنتية» شعار «صوِّتوا لابن قبيلتكم»، من دون الاهتمام بالوطنية ومستويات الشعر والشعراء.في العراق ولبنان وفلسطين تتفاقم الطائفية والانقسامات الداخلية. في الدول الخليجية تتدحرج كرة لهب تستهدف روح الدول الجماعية في مقابل صعود القيم القبلية الفردية.أخشى أننا نغزو أنفسنا بأنفسنا من حيث لا ندري، ثم نصبُّ جام غضبنا على الدول الغربية والدولة العبرية تحت عناوين الغزو الفكري والمؤامرة الصهيونية.فضاء «مفتوح» تُرتَكب بحقه جريمة صفتها ليست جنائية ولا أمنية، لكنها «عصبية»، وقد حذّر الرسول (ص) من العصبية المنتنة.الشعر لغة جميلة تستحق أن نحافظ عليها. الشعر لغة الأجداد ولسان العرب، لكن مثل هذه البرامج تحتاج إلى حسن صياغة في المفهوم، وإعادة تنقيح بما يتلاءم وظروف المنطقة، وما يهدد وحدتها المجتمعية، وإلا فالأمر في المقبل من الأيام سيكون خطيراً![c1]* عن / صحيفة “الحياة” اللندنية[/c]