الفنـان الشعب عوض بن جبير
أجرت المقابلة في المكلا : نادرة عبد القدوس:من يزور مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت الساحرة بحضارتها الموغلة في القدم لا بد أن يسأل عن فنان المونولوجست اليمني المبدع عوض بن جبير ، ابن شبام حضرموت ، الذي سحر جمهوره على طول البلاد وعرضها بقدرته على زرع البسمة على شفاه الناس والترفيه عنهم وإسعادهم ببساطته وتلقائيته، فمن منا لا يتذكر بن جبير وهو يقوم بتأدية أدوار عدد من الشخوص في مشهد تمثيلي مسرحي واحد وتقليد أصوات المركبات والحيوانات والطيور والرياح والبحر .. إلخ ، بقدرة عجيبة لا يضاهيه فيها أحد ؟ ونقولها حقيقة أن لا أحد حتى اليوم ظهر منافساً للفنان بن جبير . وعندما كان ينطلق صوته عبر المذياع مؤدياً شخوصه المختلفة من الجنسين وبمختلف الفئات العمرية ، ما كان لأحد أن يفطن أن كل تلك الشخوص إنما هي تنطلق من حنجرة شخص واحد يمتلك موهبة فذة ونادرة في التقليد . وقد كان بن جبير شديد الحب للناس متعاطفاً مع البسطاء منهم ويدرك بذكاء الفنان المبدع همومهم ومعاناتهم ، فيعكسها من خلال حكاياته التي يرويها ارتجالاً بحنجرته الذهبية. لهذا ألا يستحق بجدارة أن نطلق عليه لقب «فنان الشعب»؟ . ولد فنان الشعب بن جبير في قرية الرييفة بوادي بن علي في مديرية شبام حضرموت عام 1940م ويقال في عام 1933م ، بحسب رواية ابنته الإعلامية بديعة التي تعمل معدة ومقدمة برامج في إذاعة المكلا والتي رافقتنا إلى بيت والدها والتعرف على أسرته المكونة من زوجته المحبة ، التي حكت لنا بعضاً من الذكريات الجميلة في زمن بن جبير الفني ، وبناته الخمس وأطفالهن. ولأن فناننا الكبير أتعبته السنون وأنهكه المرض وشظف العيش ؛ فقد أثر ذلك على ذاكرته بعض الشيء ،حيث مُحي بعض مشهديات إسهاماته الفنية والإعلامية والاجتماعية، غير أن زوجته المصون التي تحمل له كل ود ورحمة تساعد في ترتيب المراحل والتوقف عند عدد من المحطات ، وكذلك فعلت بناته الأربع وزميلتنا الإعلامية خامستهن ، هن كل ما يملك هذا الفنان المسكون بحب الناس والوطن في حياته . تروي لنا زوجته عن استعانة لجان الدفاع الشعبي ، في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، بالفنان بن جبير حين كانت هذه اللجان ترغب في توصيل رسائل اجتماعية للناس عن نظافة الشوارع أو عن تنظيم الأسرة وغير ذلك من الرسائل التوعوية المختلفة ، وتلتقط الخيط إحدى بناته لتحكي لنا فشل لجنة الدفاع في حيهم السكني يوماً في تجميع الناس لتنظيم فعالية اجتماعية معينة ، ولكن بعد أن أعلنوا عن مشاركة الفنان بن جبير في تلك الفعالية تقاطر الناس من كل حدب وصوب ونجحت الفعالية . ثم روت لنا ابنته الأخرى عن تلبية والدها لدعوة قدمها إليه أبناء إحدى المناطق النائية في حضرموت لإحياء حفل زواج هناك ، فرافقته في الرحلة أسرته ، وهناك كانت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان ، تحكي لنا ابنته بتأثر : « لقد ذهلنا يومها من العدد الكبير والهائل للناس في تلك الليلة وكأنما كل أبناء حضرموت جاؤوا لمشاهدة والدي وهو يمثل ويغني ، بالفعل كان ذلك الحدث تأكيداً- على حب الناس لوالدي» . يحكي لنا الفنان بن جبير على لسانه عندما سألناه عن مسيرة حياته فقال : « عملت في مطعم لأحد أبناء حضرموت في المملكة العربية السعودية وأنا في التاسعة من عمري ، وبعد تسع سنوات تقريباً ارتحلت إلى عدن لأعمل صياداً في بحر «صيرة» ، وكانت تلك الفترة الزمنية التي جاوزت ثمانية أعوام تقريباً من أجمل سنوات عمري ، إذ علمتني الكثير وتعرفت على الكثير من الناس الطيبين وبعض الفنانين منهم فنان الشعب الكبير محمد سعد عبد الله ، رحمة الله عليه ، وفي تلك الفترة أحببت الغناء والتمثيل مع الصيادين» وهنا تتدخل ابنته بديعة قائلة : «بدأت موهبة والدي الفنية في سن مبكرة ، وقد تعرف عليه الجمهور لأول مرة من خلال مشاركته في إحدى المسرحيات في الستينيات ، التي كانت تعرض من حين لآخر في مدينة المكلا وشارك فيها عدد من الفنانين الحضارمة . أما بداية الانطلاقة على مستوى أوسع فكانت عبر أثير إذاعة المكلا عام 1968م من خلال البرنامج الشعبي الشهير شبه اليومي « من أفواه الناس » ، الذي كان يقدمه بقالب تمثيلي كوميدي لمدة ربع ساعة فقط ، منتقداً فيه الظواهر السلبية في المجتمع ومقدماً الحلول لها في ذات الوقت، مستعيناً بشخوصه التي يؤديها بمهارة واقتدار، ثم جاء بعده برنامج « كلام له معنى « والذي مازال مستمراً حتى اليوم وغير ذلك من البرامج التي تميز فيها بارتجاله الأداء التمثيلي الكوميدي ، إلا أن والدي توقف عن التمثيل منذ أكثر من عقد تقريباً من الزمن بسبب كبر السن والمرض». وتحكي لنا بديعة معاناة والدها منذ صغره بعد أن توفي أفراد أسرته جميعهم بسبب المجاعة التي حلت بوادي حضرموت خلال وبعد الحرب العالمية الثانية (وهي فترة زمنية معروفة من تاريخ جنوب اليمن إبان الاحتلال البريطاني له ) ولم يبقَ له غير أخ فقط من أصل خمسة ، اثنين ذكور وثلاث إناث ، وقيام أقارب له في المكلا بتربيته مع أخيه. تخلل اللقاء بفنان الشعب المبدع بن جبير الضحك والمرح وهو يحكي لنا مواقف مرت في حياته الطويلة بما تسعفه الذاكرة . ورغم أن الرجل أمي ومرتبه ضئيل لا يُذكر والذي كان يتقاضاه من الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبات ، كآخر مرفق عمل اشتغل فيه سائقاً ـ إذ كان في ذات المهنة لعدد من المؤسسات الحكومية منها أيضاً إذاعة المكلا ـ إلا أنه استطاع أن يبني أسرة محافظة ومتماسكة يسودها الحب والتفاهم والاحترام . ما يحز في النفس أن فناناً مثل عوض بن جبير لم يتم تكريمه حتى اليوم من قبل وزارة الثقافة كفنان مبدع ومتفرد ومؤثِّر في المجتمع ، ولا من وزارة الإعلام كإعلامي قديم وقدير أسس برامج ارتجالية عبر المذياع وكان لها تأثيرها الكبير على المتلقي ، وهناك الكثير من الفنانين اليمنيين الوطنيين من أمثاله الذين لم يبخلوا بأوقاتهم وبراحتهم وبعرقهم من أجل إمتاعنا وإدخال السرور إلى نفوسنا ، بدون مقابل وبدون شروط ، يعيشون الفاقة والعوز ويعانون أمراضاً شتى وظروفاً معيشية سيئة ... أفلا يستحقون التفاتة ورعاية واهتماماً ؟ وللعلم .. الكثير منهم تمنعه عزة النفس من السؤال .