محمد زكريا[c1]فارس من فوارسها[/c]علي محمد فارع ، فارس من فوارس صحيفة “ 14 أكتوبر “ الغراء ، حلق في الأمس القريب بجناحيه النحيلتين بعيداً عن سماء دنيانا . كان من سمات شخصيته الهدوء وحبه العميق لعمله ، كان يحمل دائماً وأبداً حبيبته في ثنايا قلبه قل إذا شئت معشوقته وهي الكاميرا الفوتوغرافية التي لم يفارقها ولم تفارقه أبداً . وعندما دخلت إلى صاحبة الجلالة ( 14 أكتوبر ) منذ ما يربو عن 23عامًا ، وكنت وقتها أشعر ومازلت بالهيبة منها ، وكان من حولي العديد من الصحفيين الكبار أصحاب الأقلام المعروفة في الصحيفة أصحاب القامة الطويلة مما سبب لي ضغطا وقلقا شديدين في عملي وكنت أتساءل بيني وبين نفسي ، هل أستطيع أنّ أبرز وجودي على خريطة الصحيفة في حضور هؤلاء الأقلام الصحفية الكبيرة . وبعد فترة ليست قصيرة ، أمرني الأستاذ شكيب عوض ـــ رحمه الله ــ رئيس القسم الثقافي ، أنّ أغطي نشاط فنياً في معهد الفنون الجملية بعدن ، وكانت تلك المهمة الصحفية أول عمل ميداني لي في العمل الصحفي ، والحقيقة لقد انتابني خوفاً كبيراً . وعلى أية حال كان بجانبي في سيارة الصحيفة الذي أكل عليه الدهر وشرب المتجهة إلى معهد الفنون أحد المصورين لتغطية تلك الفعلية الفنية . ألتفت إليه وملامح القلق تكسو وجهي ، فوجدت ابتسامة عريضة تطل من عينيه , ووجه طيب كأن المرء يعرفه من فترة طويلة ، وكان يحمل على كتفيه كاميرا الصحيفة التي لم يتركها لحظة واحدة ، ولم تتركه هي أيضاً ـــ كما قلنا سابقاً ــ . وبعد لحظات بادرني بالكلام ، قائلاً ـــ ومازالت الابتسامة مطبوعة على وجهه ـــ “ سنقوم بتصوير عدد من القطات عن الحفل الفني ، وبعد تحميضها ، تختار الصور التي تناسب موضوعك “. والحقيقة لقد كانت تلك أول معرفة لي بالراحل على محمد فارع . ومازالت أتذكر ذلك حتى هذه اللحظة ، كأنها حدثت في الأمس القريب .[c1]مصور بارع ومبدع[/c]وبعد أنّ غطيت الحفل الفني في معهد الفنون الجميلة بعدن ، رجعنا إلى مبنى الصحيفة في المعلا . وفي صباح اليوم التالي ، وجدت علي فارع واقفاً أمامي في القسم الثقافي وبيده عدداً من الصور الذي التقطها . وكانت , والحق يقال صوراً واضحة جميلة تشي عن مصور بارع ومبدع من ناحية ومصور نشيط يحترم ويقدر عمله من ناحية أخرى . وتوالت التغطيات الصحفية الكثيرة عن النشاطات الفنية المختلفة والمتنوعة ، وتشاء الصدف السعيدة أنّ يكون معي في أغلب تلك التغطيات الصحفية ، وباتت علاقاتنا قوية يسودها الاحترام والود والتفاهم ، وكان علي محمد فارع من المصورين الذين اكتسبوا خبرة واسعة وعميقة في ميدان التصوير الصحفي نظراً لمشواره الطويل مع صاحبة الجلالة الصحافة وبعبارة أخرى مع الكاميرا الصحفية التي تحتاج من المصور الذكاء الحاد ، والتركيز الشديد ، والمهارة في التقاط الصور من مختلف الزوايا لتكون بالفعل صور ناطقة ، فإن نجاح أية عمل صحفي سواء أحاديث صحفية ، أو موضوعات يعتمد أساساً على الصور الواضحة والمعبرة عن الموضوع الذي يتحدث عنه الصحفي أو كاتب المقال . وكان على محمد فارع من المصورين الذين يدركون أهمية الصورة أو الصور في المادة الصحفية وذلك بحكم احتكاكه مع الصحافة لمدة غير قصيرة ، وفوق ذلك كله ، لقد كان على محمد فارع يحترم عمله ، يعتبره رسالة مقدسة بكل معنى لهذه الكلمة. وكان يردد دائما ـــ رحمه ـــ أنّ نجاح الصحفي سواء كان محرراً أو مصوراً هو التزامه في العمل .[c1]رحلة إلى الحسينية[/c]والحقيقة أنّ الإنسان لا يعرف معدن المرء إلا عندما يسافر معه فترة من الوقت ، أي يجالسه ، ويأكل معه ، ويتعامل معه بصورة دائمة . ولقد سمحت لي الظروف الطيبة أنّ نسافر معاً ( أنا وعلي فارع ) إلى سباق الهجن الذي أقيم في الحسينية بزبيد . ولقد كانت تلك دعوة كريمة من الأستاذ الدكتور عبد الوهاب راوح وزير الشباب والرياضة ــ حينذاك لنغطي ذلك الحدث المهم في تهامة . ولقد سكنا ( أنا وعلي فارع ) في فندق متواضع اسمه فندق الوحدة ، وكان يطل على الشارع العام في مدينة الحديدة . وكنا نخرج قبل أن تتسلل أشعة الشمس الحارقة من أصابع الفجر إلى الحسينية لتغطية سباق الهجن ( الجمال) والذي شهده الناس أول مرة في حياتهم بتلك الصورة المنظمة والجميلة , وكانت الحسينية تتوهج بالنشاط والحركة والحياة من جراء ذلك السباق . وعلى أية حال كنا نرجع إلى الفندق مرة أخرى والشمس في كبد السماء ، تلهب رؤوسنا من شدة لهيبها ، وقد ملأ الغبار وجوهنا , وأخذ التعب منا كل مأخذ , وعلى الرغم من الإرهاق الشديد الذي كان يصيبنا من جراء بعد المسافة بين الحديدة والحسينية والأحاديث الصحفية الكثيرة الذي أجريناها مع أصحاب الهجن وغيرهم من المسؤولين على سباق الهجن ، فإننا كنا نشعر بسعادة بالغة لأننا أدينا مهمتنا على أجمل وأكمل وجه . ولقد نشر موضوع الحسينية في صحيفة “ 14 أكتوبر “ . وكان أجمل ما فيه الصور الذي التقاطها المصور المبدع علي محمد فارع والتي جعلت الموضوع يسري في عروقه النشاط والحيوية . لقد زينت صوره الموضوع بشكل يدعو إلى الإعجاب .[c1]ويهمس في أذن حبيبته[/c]والحقيقة كان هادئ الطباع ، شديد الحب لعمله ، لقد كنت في غرفة الفندق ، عندما نخلد إلى النوم ، وطائر الكرى يحوم فوق رءوسنا من جراء التعب ، فأراه يخرج الكاميرا من الحقيبة ، وينظف عدستها ، ويلمسها بأصابعه وكأنه يداعبها برقة أو قل إذا شئت يهمس في أذن حبيبته ، لقد كان مرتبط بها أشد الارتباط ، و كان يخشى عليها من الهواء الطائر ـــ كما يقول المثل ـــ لقد كانت الكاميرا تمثل له قيمة هامة بالنسبة له لا يمكن الاستغناء عنها ، أنها صارت جزء لا يتجزأ من نسيج حياته ، فهي معه في بياض النهار ، وسواد الليل , وأينما يرحل تكون معه .[c1]الذكرى الطيبة[/c]والحقيقة لقد تركت له في أثناء رحلتنا إلى الحسينية مسؤولية التصرف الكامل في تدبير شؤوني ، وقد أظهرته تلك الرحلة بأنه كان شديد التنظيم , و صاحب همة ونشاط ، ولم أشعر أبداً بقلق ، لقد تفرغت تفرغاً كاملاً في عملي ، كان علي فارع ــ رحمه الله ــ يتحمل المسؤولية الكاملة إلى جانب مسئوليته في التصوير ، ولم يتذمر أبداً ، كانت الابتسامة الرقيقة لا تفارق وجهه الطيب والتي كانت النظارة تغطي جزء كبير من مساحته. كان ــ رحمه الله ـــ عندما يتكلم ، يتكلم بصوت منخفض ، وهادئ ، صوت يوضح عن شخصية صاحبه بأنه يحترم الآخرين . لقد كان يتحلى بالصبر والمثابرة ، وعدم الانفعال ، والاندفاع ، كان يحسب الخطوة قبل أنّ يخطوها . والحقيقة لقد احتل علي محمد فارع مكانة كبيرة في قلوب زملائه من الصحفيين ، وسيظل يحتل مكانة عميقة في نفوسنا بعد رحيله عن مسرح حياتنا المليء بالضجيج ، والضوضاء ، والصخب . سيظل ـــ الذكرى الطيبة التي لن تنسى أبداً .[c1]الوداع الأخير[/c]ولقد شاءت الصدفة أنّ ألتقي به قبل رحيله عنا بأيام قليلة في مبنى الصحيفة ، واستحضرنا تلك الذكريات الرائعة الذي قضيناها في الحسينية ، والحديدة , ولقاءنا الأولى في الصحيفة . وغادرت مبنى الصحيفة ، وكان يرافقني إلى البوابة الضخمة مودعاً , وعند البوابة سلمت عليه بحرارة شديدة ، وشعرت غصة في النفس لم أعرف سرها ، والتفت إليه والابتسامة العذبة مازالت ترفرف على وجهه الطيب . ستزحف كثبان رمال الأيام ، والشهور ، والسنيين على حياتنا ، وستدفن الكثير من ذكريات حياتنا ، ولكن ذكرى أخونا العزيز الغالي علي محمد فارع لن تغيب ذكراه الطيبة عن حياتنا طالما القلب ينبض .[c1]خيط المودة[/c]وعندما نعزي زميلاً كريما طيباً من زملائنا الصحفيين الذين سبقونا إلى الدار الآخرة أمثال ، الأستاذ محمد علي فارع شيخ الصحفيين الرياضيين ، عوض باحكيم ، شكيب عوض ، عبد الله الدويلة ، طه حيدر ، فتحي باسيف ، ألمجيدي ، وضياء عبد الله وغيرهم فإننا نعزي أنفسنا ، ونشعر بغربة موحشة ، وبرودة تسري في أوصال جسدنا . والحقيقة إنه عندما رحلوا عنا ، فإنهم أخذوا ذكرياتنا الطيبة الدافئة معهم . إننا عندما نبكيهم ، أنما نبكي أنفسنا التي كانت حياتنا جزء اًلا يتجزأ من حياتهم التي كانت مليئة في يوم من الأيام بالحياة والنشاط والحيوية والحركة ، والابتسامة العريضة والضحكات الحلوة ، كانوا ــ بحق ــ الواحة التي نستظل بأشجار غصونها الوارفة من هجير وقيظ الحياة القاسية. رحمهم الله رحمة واسعة ، ورحم زميلنا علي محمد فارع ، والهم أهله الصبر والسلوان . وإنا لله وإنا إليه راجعون . ونأمل ونرجو من الجهات المعنية بالأمر ، أن نحتفي ونحتفل بذكرى زملائنا العاملين في الصحيفة سواء في الأرشيف ، أو التحرير الصحفي ، أو في التصوير الذين رحلوا عن مسرح حياتنا وذلك من خلال منح أسرهم الجوائز المعنوية والمادية لنشعرهم بأننا مازالنا نكن لهم كل التقدير والحب والوفاء لما بذلوه من أجل الكلمة المقروءة النبيلة من ناحية ونشعر أهليهم أنّ خيط المودة لم ولن ينقطع معهم بعد رحيلهم من ناحية أخرى .
|
ثقافة
ورحل عاشق الكاميرا
أخبار متعلقة