أضواء
كثيرا ما يتردد على لسان رجال الدين، عبر الصحف ومن خلال الفضائيات، الادعاء بأن الحشمة في لباس المرأة لا تتحقق إلا بالحجاب. فقد كتب الشيخ نبيل العوضي في «الوطن» بتاريخ 2009/03/17: «أن من نزعت الحجاب وكشفت عما حرمه الله، فهي سهلة المنال يستمتع بها كل صاحب قلب مريض، وعين خائنة، وربما تسببت بفتنة رجال، وجرتهم إلى الشهوات، وحملت أوزارهم يوم القيامة» . ولربما كان الشيخ العوضي سيراجع ادعاءه هذا لو دخل حرما جامعيا أو بعض المجمعات التجارية لرأى بعينيه أن الحجاب ليس ضرورة لتحقيق الحشمة. فالملاحظ أن غير المحجبات أقل استعمالا لمساحيق التجميل، وأكثر ميلا للملابس الفضفاضة، التي لا تكشف تفاصيل الجسد، من المحجبات. كما أن التدين أو السمو الأخلاقي لا يحدده نوع الملابس التي ترتديها النساء، وهن جميعا لسن بسهلات المنال، ومن الظلم أن يحملن مسؤولية الفتنة التي تحدث في قلوب الرجال وعقولهم.فالحجاب ظاهرة سياسية واجتماعية أكثر منها ظاهرة دينية. وانتشار الحجاب أو انحساره يعكس نمو أو انحسار تيارات سياسية معينة. وشيوعه يعكس تمكن الإسلام السياسي من فرض نمط لباس معين أكثر من تجلٍ لسمو روحي أو نفسي. لذا، عندما نشاهد في الأسواق امرأة غير محجبة برفقة ابنتها المحجبة، فإن ذلك يوضح الاختلاف في الجو السياسي والاجتماعي الذي نشأت فيه الأم عن ذلك الذي تنشأ فيه البنت، لكن هذا بالتأكيد لا يعني أن الأم سهلة المنال أو أنها تتحمل وزر من فتن من الرجال، بل يدل على أن البنت يكون لديها مفهوم مختلف لجوهر الدين، أو أنها خضعت لضغوطات الصديقات أو الجماعة الصغيرة التي تنتمي إليها. فقد انتشر الحجاب لدرجة أنه أصبح هو اللباس المقبول أو المفروض اجتماعيا كما هو لبس الغترة أو العقال لدى الرجال. وكما هو واضح للجميع، لا يوجد نمط أو حجاب واحد وإنما عشرات الأنواع من الحجابات. فالمرأة تريد تمييز نفسها وهي تدرك أكثر من غيرها أن الحجاب أفقدها مسحة جمالية صعبة التعويض. لذا ازدهرت أنواع متعددة، بعضها مزرٍ، وآخر متعدد الألوان، لكن أكثرها إبداعا ذلك الذي يكون طبقات أو تموجات على الرأس موحية بشكل يشبه تواجد الشعر على الرأس. فهن بتنوع حجابهن يردن أن يظهرن جمالهن لشد انتباه الصديقات أو الشباب. لكن هذا لا يعني أن قصدهن الفتنة أو هن سهلات المنال. فالمجمعات التجارية والحرم الجامعي هما مساحات للقاءات الجنسين، كثيرا ما يطمح طرفاها إلى أن تنتهي بزواج. ثم إن خطاب الفتنة الذي تتهم به النساء مبرئ للرجال، مع أن الفتنة حصلت في قلوبهم وعقولهم، والجزم بأن الفتنة لا تحصل في قلوب النساء، أي أن يكون الرجل مسببا لها، يفتقد الموضوعية في الطرح. فالرجال يمكن أن يكونوا سببا في فتنة النساء. فقد افتتنت زوجة العزيز بيوسف عليه السلام وافتتنت فيه كذلك النساء اللاتي سخرن منها، فقد ورد في الآيتين الكريمتين:« وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) (سورة يوسف)وما يستشف من هاتين الآيتين الكريمتين أنه حتى الرجال يسببون فتنة لدى النساء. فهل من وسيلة لحجب هذا النوع من الرجال الوسيمين عن النساء درءا للفتنة؟ويبدو أن رجال الدين لدينا تشبثوا بآراء فقهية تقليدية لم تستطع أن تحرر نفسها على الرغم من الدور المتغير للمرأة في المجتمع. وتعزو عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي في كتابها «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية» ذلك إلى الثقل الكبير الذي لعبه الإمام أبو حامد الغزالي في تكوين رؤية اللاحقين من الفقهاء حول وظيفة المرأة في المجتمع ورؤيتها على انها وسيلة متعة من جانب واحد. ففي وقت اقتصر فيه النشاط المعرفي والسياسي والاقتصادي على الرجال، كان ينظر إلى المرأة على أنها وجدت للترويح عن هؤلاء الرجال. فيقول الغزالي مخاطبا الرجال في «إحياء علوم الدين»: «إن النفس ملول وهي عن الحق تفور لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمعت وتابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت وتنشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب». وقد كتب الغزالي هذا في وقت اقتصر فيه دور المرأة على الأم والزوجة والأخت والبنت.ولا شك أن عقلاً متوقداً مثل عقل الغزالي ما كان ليكتب مثل هذا لو خضع للعلاج عند طبيبة، أو صرف له الدواء من قبل صيدلانية، أو استمع إلى محاضرة عن تخطيط المدن من مهندسة معمارية. فقد بلغت النساء مواضع مميزة في المجتمع، وأثبتن تفوقا في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلمية. وقد أبلغني أستاذ في كلية الهندسة في جامعة الكويت منذ سنوات، أن تفوقهن في كلية الهندسة أصبح يشكل حرجا لإدارة الجامعة، لأنه أدى إلى انخفاض كبير في عدد الطلاب الذكور في هذه الكلية. لكن وعلى الرغم من التفوق الذي أثبتته المرأة في المجالات المختلفة، فان التحالف المعلن والضمني ـ بين المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية التي يتحكم الرجال في توجيه دفتها وصوغ قيمها ـ أدى إلى تقويض نجاحات النساء وإبداعاتهن، مع تمرير بعض إنجازاتهن مما لا يؤثر في بنية المجتمع وقيادته. لذا يبقى الأخ بالرغم من صغر عمره قيّما على شقيقته التي تكبره سنا وتتفوق عليه علما ودخلا. وتبقى أحكام الفقهاء وعلماء الدين ـ الذين أصدروا أحكاما في أوقات لم يكن يتعدى دور المرأة لكونها المروّ.حة عن زوجها والمعتنية بأطفالها ـ هي السائدة، تخضع لها النساء بقدرة ساحر من دون تساؤل. وما موضوع الحجاب الذي خضعت له المرأة في العالم الإسلامي منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وانتشاره في الغرب إلا أحد مظاهر الخضوع لهذه الأحكام التي تتوق إلى اجتهاد من عقول نيّرة من علماء ورجال دين. فالأصل ليس الحجاب، وإنما الحشمة في اللباس، ويمكن أن تتحقق من دون الحاجة الى الحجاب. لذا يتوقع من رجال الدين ان يكونوا اكثر تقديرا واحتراما للنساء محجبات وغير محجبات. فهن لا يتحملن وزر فتنة تحدث في عقول الاخرين. وقد تعلمنا منذ السنوات الدراسية الأولى أن الإسلام دين الفطرة. فكيف تجبر المرأة على أن تتغطى بالسواد من أعلاها إلى أسفلها في درجة حرارة تقارب خمسين مئوية وفي جو رطب يصعب على الإنسان استنشاق الهواء فيه؟لم أقصد خطابا يدافع عن المرأة، فلربما كانت المرأة الأشد رفضا لما طرحته. وإنما أدعو إلى حوار يعيد التوازن إلى المجتمع، وذلك بأن نعول على عقولنا وأن نتحرر بعض الشيء من أحكام فقهاء لم يعيشوا زماننا، عسى أن يتحرر المجتمع من وسواسه الجمعي بجسم المرأة، وان ينعتق أفراده من اوهامهم بأن رضا الخالق والخلق لا يتحقق إلا عند تغطية آخر سنتيمتر مربع من جسمها، فما يبذل من طاقة عقلية في هذا المجال يفوق ما تبذله مجتمعاتنا من طاقة في انتاج العلوم المختلفة.[c1]*عن / صحيفة (الجريدة) الكويتية [/c]