ككل عام نترقب هذا التاريخ ونشرع في الكتابة عن أحداثه وفي كل مرة كأنما نلقي بحمولتنا من الكلمات والمفردات ليتلقفها القارئ ويحكم عليها كشاهد على العصر .. هل أعطينا المناسبة حقها ؟ وهي ليست بالطبع أية مناسبة ..إنها ثورة شعب تفجرت رحاها لتهشم التاج البريطاني وتهز عرش الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس وتقض على مضاجع عساكرها وضباطها ومن والاهم .. ولتسطر أحرفاً من نور في تاريخ اليمن النضالي لتكون بداية النهاية لعهد الاحتلال الانجليزي المتغطرس .. وكانت ثورة 14 أكتوبر المجيدة التي اندلعت نيرانها من قمم جبال ردفان الأبية انعكاساً لما كان يُعتمل في كل ركن من أركان جنوب اليمن المحتل ، وكانت نتاجاً لنمو الحركة الوطنية والسياسية التي شهدت مدينة عدن بدرجة رئيسية وعدد من المدن الجنوبية ولادتها ونشوئها في نهايات الأربعينيات وبزوغها في الخمسينيات والتفاف الجماهير اليمنية المسحوقة حولها .. وكانت هناك الجمعيات الأهلية والخيرية إلى جانبها والتي كان معظمها يمثل غطاء لعنفوان النشاط السياسي الفاعل بين أوساط الجماهير التي وعت دورها النضالي وآزرت رموز القوى السياسية الثورية حتى تحقق الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م .وكان للمرأة اليمنية دور بارز في معمعة النضال السياسي منه المكشوف والواضح ، ومنه المستتر تحت غطاء العمل الخيري والاجتماعي .. وبرزت عناصر نسائية عديدة ، وإن تناساها مسجلو التاريخ ، إلا أنها عالقة في «ذاكرته التي لاتخون» .. وقد أثبتت المرأة في جنوب الوطن وبالذات في مدينة عدن قدرتها على استيعاب المرحلة النضالية السياسية وبذكائها الفطري أسهمت في ابتكار الوسائل والسبل الكفيلة في تأجيج الحماس الثوري في نفوس أبناء الشعب التواق إلى الحرية .. فنشأت في البدء جمعيات نسائية أهلية وخيرية في نهاية الأربعينيات لتغدو في الخمسينيات وأوائل الستينيات موئلاً للعمل السياسي بين صفوف النساء ونشر الوعي السياسي بين صفوف أبناء الشعب اليمني كله .. ورغم حداثة التجربة للكثيرات ورغم صغر أعمار بعضهن ، إن لم يكن جلهن ، ورغم الواقع المتخلف للمجتمع اليمني الذي كان يفرض على المرأة قيوداً تمنعها أحياناً كثيرة من الحركة بحرية ، إلا أن ذلك لم يمنع المرأة اليمنية والعدنية بالذات من خوض غمار الفعل السياسي وسبر أغوار أسراره ومخر عباب البحر الهادر .. ويسجل التاريخ أسماء نسائية عديدة كان لها شرف الريادة في النضال السياسي والاستشهاد .. ومن لا يذكر الشهيدة لطيفة علي شوذري التي استشهدت برصاص قناصة بريطاني أحمق وهي في مقدمة مظاهرة سلمية معظمها من النساء في مدينة كريتر عام 1965م . ورغم صغر سني يومها (10 سنوات) إلا إنني أذكر تماماً ذلك اليوم فقد شهدت المظاهرة وشهدت استشهاد رفيقة الطفولة لطيفة التي كانت تسكن بجوارنا في الحي الشعبي البسيط المتميز بفقرائه وكانت أسرتها واحدة من هؤلاء وكانت لطيفة المعيلة الوحيدة لها فقد عملت وهي في عمر الزهور كجندية في شرطة كريتر ، وفي الوقت نفسه كانت تنشط سراً في إحدى الخلايا الوطنية الفدائية .. وما نود أن نسأله هنا « أين موقع المرأة اليمنية المناضلة من مراكز صنع القرار اليوم ؟ « ألم تستحق عناصر نسائية كثيرة من المناضلات أن تتبوأ مراكز قيادية في السلطة بعد تحقيق الاستقلال ؟ وهن لا يقللن ثقافة وفكراً عن زملائهن الرجال الذين بعضهم لم يشاركوا في الكفاح المسلح ولا حتى في الحركة الطلابية التي تزعمتها الطالبات في عدن والتي يشهد لها التاريخ دورها النضالي المباشر ضد الاحتلال ؟ بل إن كثيرات من المناضلات تم تهميشهن عمداً وإصدار الأوامر برميهن في غياهب النسيان .. والسبب أنهن كن ينتمين إلى تنظيمات سياسية مناوئة للتنظيم السياسي وحلفائه من التنظيمات والفصائل الوطنية الأخرى التي شاركت في الحكم بعد الاستقلال .. تذكر المناضلة رضية إحسان الله وهي من أبرز المناضلات اليمنيات إبان الاحتلال وكانت من المغامرات الجريئات والجسورات اللاتي خضن العمل السياسي دون خوف أو وجل من قمع جنود السلطة الاستعمارية وذاقت صنوف التعذيب النفسي وهي في زنازينهم « لم يكن نشاطي السياسي منظماً بل كان عفوياً يدفعني إلى ذلك حبي لوطني وتوقي إلى الحرية من نير الاستعمار وكسر القيود التي كبلت المرأة دهراً « وتضيف هذه المرأة التي ناهزت اليوم العقد السابع والمنزوية في شقتها الهادئة المتواضعة دون أن يذكرها أحد ولو بالسؤال عن صحتها ، وهي التي أسست جمعية المرأة العربية عام 1960م وكانت من أبرز الكيانات النسائية العدنية حينها والتي لعبت دوراً بارزاً في النشاط السياسي « لم نكن نحن الفتيات نفتعل حماسنا الثوري ولم نكن ننتظر مقابل هذا الحماس كأن يدفع لنا المال أو المدح .. لا لا إن سعادتنا كانت تكمن في إلقاء خطاب سياسي أمام عدد من النسوة أو في ندوة كانت جمعيتنا تنظمها وكنت ألقي الكثير من الخطابات الاجتماعية التي تناقش قضايا الأسرة والمرأة ومساواتها بالرجل تلك الخطابات كانت لها ردود أفعال عند المواطن المتلقي وكنا نشهد على وعيه من خلال النقاشات ومن تم كنا نتدرج في الخطاب لنلامس الواقع السياسي مما يفقد صواب سلطة الاحتلال فتعمد إلى توقيفنا ومتابعة نشاطاتنا ومراقبتنا واعتقالنا في كثير من الأحايين وهو إرهاب كان يمارس ضدنا إلا أنه لم يكن يثنينا عن الاستمرارية .. وكنا ندخل البيوت ونلتقي نسائها ونقوم بتقديم بعض الدعم المادي والعيني ، كما كنا نقوم بتنظيم عدد من النشاطات الفنية والثقافية ليذهب ريعها للأسر الفقيرة أو لأسر العمال المعتقلين في سجون الاحتلال البريطاني في عدن والذين كانوا ينتفضون ضد السياسة الاستعمارية والقوانين الجائرة التي كانت تصدر عن سلطات الاحتلال كما حدث عام 1960م حين صدر قانون منع الإضراب « . كثيرة هي المشهديات النضالية التي رسمت معالمها الرائعة المرأة اليمنية في هذا الجزء من الوطن . وفي خضم التفاعلات الثورية استمدت العناصر النسائية الشابة حماسها الوطني وكانت قد بدأت تتشبع بأفكار القومية العربية التي جاءت مع رياح الثورة المصرية وما يعتمل في الجمهورية الفتية من تطورات في مختلف مناحي الحياة . وكانت أول مظاهرة نسائية خرجت في عدن ضد سياسة الاحتلال والسياسة التربوية الاستعمارية في الأول من فبراير عام 1962م حين ارتفعت أصوات طالبات كلية البنات إلى عنان السماء معبرات عن رفضهن السياسة التربوية والتعليمية في كليتهن ، وطالبن بتعريب التعليم وبفتح المجال للحصول على شهادة الثقافة العامة أسوة بالطلاب الذكور كما طالبن بتغيير مديرة الكلية الإنجليزية . وقد أعلنت الطالبات إضرابهن عن التعليم واعتصامهن في الكلية مما أدى إلى اعتقال بعضهن والتحقيق معه . كانت المناضلة عيشة سعيد ناليه واحدة من هؤلاء الطالبات الجسورات ، وهي تحدثنا عن ذلك اليوم مما تجود به ذاكرتها « لن أنسى ماحييت ذلك اليوم فقد كان الموقف رهيباً .. لأننا كنا عدد من الطالبات اللاتي رفضن إدارة مديرة الكلية الإنجليزية آنذاك والسياسة التعليمية في الكلية . وكانت المديرة « بتري « معروفة بعنجهيتها وقسوتها ومعاملتها الفجة تجاه الطالبات .. فقررنا الخروج بمظاهرة نعبر فيها عن رأينا ولنلفت وزارة المعارف .. طبعاً كان خروجنا في المظاهرة عفوياً دفعنا إلى ذلك رغبتنا في التغيير وحماسنا الوطني .. ولم نكن ندرك خطورة هذا الفعل ولا نتائجه .. فقد تم اعتقال عدد من الزميلات وكنت واحدة منهن ، كما أصيب البعض بجروح بسبب الضرب المبرح من قبل جنود الاحتلال الذين تصدوا للمظاهرة بعنف « . إلا أن المظاهرة العفوية تمخضت عنها ردود أفعال إيجابية بعد أن تطورت الأزمة فاستشعرت السلطات البريطانية حينها خطورة الموقف ، خاصة وأن الحراك السياسي والثقافي الذي تقوده أحزاب وتنظيمات سياسية ووطنية يلوح بإحداث متغيرات على السطح يهدد وجودها . وكانت مظاهرة الطالبات وإضرابهن بمثابة جرس الإنذار حيث استقطبن في صفهن عدداً كبيراً من المواطنين الرافضين الوجود الاستعماري . لذا قام بعد ذلك حاكم عدن « تشارلس جونستن « بتشكيل لجنة من أولياء أمور الطالبات ، ولجنة أخرى تمثل وزارة المعارف لبحث السياسة التعليمية في كلية البنات وأسباب احتجاج الطالبات عليها . وقد حضر اجتماع اللجنتين خبير التعليم الفني في وزارة المستعمرات البريطانية «كريستوفر كوكس « الذي جاء خصيصاً إلى عدن من أجل البحث في هذه القضية . وكانت النتيجة أن تم تغيير مديرة الكلية وإن كانت إنجليزية أيضاً وتدعى الآنسة «أنجير» وفتحت الكلية أبوابها في 15 أكتوبر 1962م ، ونجحت الطالبات كذلك في إرغام السلطة على تعريب بعد المواد التعليمية كما تم رفد الكلية بعدد من المدرسين الذكور والإناث الأجنبيات ، وكان عدد من العناصر النسائية التربوية العدنية عاد من الدراسة التخصصية في مجال التعليم من بريطانيا وبعض البلدان العربية . كانت المرأة اليمنية في عدن قائدة للكثير من المظاهرات الجماهيرية المنظمة والعفوية وكانت تتقدم الحشود لتكون في مواجهة مباشرة لقوات الاحتلال ولقناصتها .. ففي أكبر مظاهرة جماهيرية حاشدة في كريتر شارك فيها آلاف المواطنين من أبناء عدن قاطبة وكأن المدينة خرجت عن بكرة أبيها ، تقدمتها النساء .. كان ذلك في 24 سبتمبر 1962م ،أي قبل قيام الثورة في شمال الوطن ، حين احتشدت الجماهير رافضة تكوين الاتحاد الفيدرالي وضم عدن إليه وتم يومها حرق مبنى المجلس التشريعي في كريتر .. وقد راح في ذلك اليوم العديد من الشهداء وجرح المئات من المواطنين وزج بالعديد منهم في غياهب المعتقلات السياسية ، وكانت رضية إحسان الله وصافيناز خليفة من ضمنهم وحكم عليهما بالسجن لبضعة أسابيع .. وهي رهن الاعتقال أضربت رضية إحسان عن الطعام تعبيراً عن احتجاجها على السياسة الاستعمارية القمعية ورفضها للاحتلال . سلوى سليمان ، رحمها الله ،كانت واحدة من المناضلات اليمنيات اللاتي خضن غمار النشاط السياسي وهن في عمر الزهور ، وهي أيضا من أسرة كافة أفرادها من العناصر الوطنية والفدائية بما فيها والدتها المعروفة بأم الفدائيين .. المناضلة المرحومة «عيشة علي عيد» والتي سبق وأن كتبنا في صحيفتنا عنها . التحقت سلوى سليمان في إحدى الخلايا النسائية السرية للجبهة القومية ، ولم يمنعها الزواج من ممارسة عملها النضالي السياسي رغم أن زوجها لم يشارك في أي نشاط سياسي آنذاك ، فكان يشجعها عليه ويسمح لها بتأدية واجبها الوطني في نقل السلاح للفدائيين وتوزيع المطبوعات السرية والخروج في المظاهرات إلخ .. كما حكت لي قبل وفاتها بأشهر حين التقيتها في بيتها بُعيد وفاة شريك حياتها الذي تبعته بفترة وجيزة . الحديث عن المرأة اليمنية المناضلة ذو شجون ولن نفي حقها مهما كتبنا إلا إننا من خلال هذا الحيز نناشد جهات الاختصاص للبحث عن العناصر النسائية الفاعلة في الساحة الوطنية والسياسية والتواصل معها والتعرف على المستوى المعيشي لها وتوفير سبل العيش الكريم وتأمين الحياة الآمنة للكثيرات اللاتي يعشن بين ظهرانينا .. لكن منسيات .. فكيف يمكن تكريم هؤلاء النساء المناضلات اللاتي قدمن حياتهن فداء للوطن ومن أجل أن نعيش نحن الحياة الكريمة ؟ كيف يمكن إخراج هؤلاء النساء المناضلات من عزلتهن وإشعارهن بأنهن عظيمات بنضالهن الذي لم يكن ضد الاحتلال فحسب وإنما أيضاً ضد التقاليد البالية والقيود التي كانت تقيد حركة المرأة ؟ بعكس الرجل الذي كانت أبواب التعليم والعمل والنضال السياسي والوطني مفتوحة على مصا ريعها ..
كيف يمكن تكريم المرأة اليمنية المناضلة؟
أخبار متعلقة